عاجل
الأربعاء 14 أغسطس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
ثورة 30 يونيو
البنك الاهلي
وداعًا للسجون في مصر.. فلسفة العقاب والعلاجات الجذرية  (١)

30 يونيو.. ثورة بناء الجمهورية الجديدة 17

وداعًا للسجون في مصر.. فلسفة العقاب والعلاجات الجذرية (١)

 



ارتبطت الصورة الذهنية عن السجون، في عقلية الملايين، بمشاهد سجناء يرتدون ملابس موحدة، يمسكون بمعاولهم، يضربون الصخر، بينما الحراس يحيطون بهم على جيادهم في صحراء تلهب فيها وجوههم حرارة الشمس.

 

 

يُصاحب تلك الصورة، صور ذهنية أخرى لسجناء في زنازين رطبة، محشوة بسجناء، نصيب كل فرد منهم بها متران مربعان، تلك المشاهد التي خلفتها الأعمال السينمائية والدرامية في ذاكرة المشاهد، فضلًا على معاناة التعذيب في عصور غابرة.

 

ولا شك، جزء من الصورة صحيح، والآخر مبالغ فيه، وهو الأمر الذي دفع دائمًا للمطالبة بتحسين أوضاع السجناء، كون السجين الذي أخطأ يُعاقب بالقانون، ولا ينبغي أن يعاقب على الجرم الواحد، مرتين، يكفي تقييد  حريته.

 

هذا المعنى، ذكره الرئيس عبد الفتاح السيسي، في مداخلته الهاتفية مع الفضائية المصرية، بمناسبة استضافة سيدة مصرية مكافحة تعمل حدادة بمحافظة الدقهلية، عندما أشار إلى أن الجمهورية الجديدة تحفظ كرامة الإنسان، وتراعي حقوقه، حتى حقوق السجناء، الذين لا ينبغي أن يعاقبوا مرتين على جريمة واحدة، معلنًا إنشاء مصر مجمعات سجون حديثة تُراعي حقوق الإنسان بفلسفة عقابية إصلاحية.

 

بالأمس، الخميس، شرفت، بزيارة إلى مركز الإصلاح والتأهيل بوادي النطرون، بدعوة كريمة من وزارة الداخلية، لحضور الافتتاح الرسمي للمركز وجولة تفقدية لمكوناته، ومطالعة ما تشهده المنظومة العقابية من تطور، يُراعي كرامة وحقوق الإنسان.

 

ولا أخفيكم، أن منهجي دائمًا الغوص في أعماق القضايا وفلسفاتها، لا تشغلني ظواهرها، بل بواطنها وأهدافها، والآليات العملية لتحقيق تلك المستهدفات، ومدى تحقق الإرادة اللازمة لبلوغها.

 

ولقد شغلت أوضاع السجون في كل العقود، عقول المفكرين، وكتاب الرأي، والمعنيين بالشأن العام، فهي مؤسسة عقابية، جزء من منظومة العدالة، لها أهداف مجتمعية، كما كانت أوضاع نزلائها، مثار نقاش داخلي، وورقة تلعب بها جهات أجنبية تتاجر بمصطلحات حقوق الإنسان لتحقيق مآرب سياسية.

 

لذا دائمًا يقف المُفكر الوطني، داعيًا لتحقق إرادة سياسية وطنية إصلاحية، تعقبها آليات تنفيذية واقعية، تُعطي للمجتمع حقه، في الأمن، والحماية من الخارجين على القانون، وتُعطي المذنب عقابه الذي أقره القانون، دون المساس بكرامته أو حقوقه الإنسانية، لضمان خروجه من مدة العقوبة مؤهلًا للاندماج الصالح في مجتمعه، وهو ما يقطع في الوقت ذاته الطريق على المتاجرين بورقة حقوق الإنسان، لتحقيق مآرب أخرى.

 

وفي الطريق إلى مركز الإصلاح والتأهيل، دارت في ذهني عدة قضايا فلسفية، رأيت أن أطرحها على القارئ، ليشاركني التفكير فيها، فمستقبل مصر مرهون بقضية الوعي، وبناء عقول نقدية، قادرة على التلقي الفعال، في ظل تنامي وسائل الاتصال والتواصل، بما تموج به من معلومات وأخبار، وفي الكثير من الأحيان شائعات، كل ذلك يتطلب عقولًا قادرة على التفكير فيما يدفع إليها وفرزه والتعاطي معه بوعي.

 

أولى تلك القضايا: هل نحن في حاجة إلى سجون؟ وما هي السجون؟ وما هو الهدف منها وفلسفتها؟

 

إن السجن، مكان يقيد فيه حركة نزيله الإرادية، بمعنى وضعه في مكان لا يستطيع الخروج منه إلا بعد انقضاء مدة العقوبة، التي حددها حكم القضاء.

 

ومن ثم فإن العقاب جزء من منظومة العدالة، المجتمع له حقوق، تتمثل في الحفاظ على أمن أفراده وسلامتهم، وكل مجتمع بشري تحكمه قوانين، وهناك لا شك خارجون عليها، مهددون لأمن وسلامة المجتمع، معاقبتهم جزء من منظومة العدالة الحمائية للمجتمع من خطرهم.

 

فالقاتل عقابه يمثل تحقيق العدالة في القصاص لحق أصحاب الدم، وعقاب السارق استعادة لحق المجني عليه، وفي كل الحالات عقاب الجاني استعادة لحق المجني عليه، أيًا كانت الجريمة، وتقييد حرية الجاني في الحركة منع له من تكرار عدوانه على آخرين بالمجتمع.

 

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي فلسفة العقاب، هل هي تعذيب الجاني؟ أم السعي لإصلاحه ودفعه للتخلي عن سلوكه الإجرامي؟ 

 

من المؤكد أن هدف الفلسفة العقابية حماية المجتمع من أن يكرر المجرم عدوانه، وفي الوقت ذاته إصلاحه وتأهيله، بتعديل سلوكه الخاطئ للعودة إلى المجتمع عضوًا نافعًا وصالحًا.

 

تبقى الآليات لتحقيق تلك الأهداف، في ظل تنوع الجرائم، والتكوين النفسي لمرتكبي الجرائم الخاضعين للعقوبات، فهناك من سُجن لأسباب مالية، شيكات عجز عن الإيفاء بالتزاماتها، ومن بدد منقولات طليقته، ومن سب أو قذف، وصولًا للجنائية من السرقات وتعاطي واتجار في المخدرات، انتهاءً بجرائم الإرهاب والقتل.

 

وهنا نصل لنتيجة مهمة، وهي أن وجود المؤسسة العقابية في حد ذاته، ضرورة مجتمعية في كل دولة، فعندما يعلن الرئيس عن افتتاح مجموعة من مجمعات مراكز  نموذجية، لا ينبغي أن يجد المتلقي لرسائل الجماعات الإرهابية استجابة تحريضية، هدفها تشويه الحقيقة، بادعاء بناء سجون لتقييد الحريات، بل هي مراكز إصلاح وتأهيل تحمي المجتمع، والمذنب ذاته، بإصلاح سلوكه الذي أضر به قبل مجتمعه.

 

فالله بعث بالرُسل وتعاليم الأديان، وجعل في النهاية ثواب الجنة، وعقاب النار، هناك دائمًا من يخالف القوانين الإلهية، فما بالنا بالقوانين الوضعية، التي يسعى أغلبها لمنع اختراق القانون الإلهي، مثل معاقبة القتلة لحفظ النفس، والسارق لحفظ الممتلكات، ومنع السب والقذف، لحماية حرمة الكرامة وحفظ الأعراض، وغير ذلك من الأهداف السامية.

 

فالحقيقة، أنها منشآت إصلاحية، تستهدف تلبية حاجة، منظومة العدالة، بما يحفظ للجاني كرامته الإنسانية، ويخفض كثافة التواجد داخل المساحة، إلى الحدود الآمنة الحافظة لحقوقه الإنسانية، مع جملة من الخدمات المحقق لهدف إصلاح سلوكه وتأهيله للعودة عضوًا صالحًا بالمجتمع، يستطيع أن يكسب قوت يومه بشرف وأمانة من عمل يده.

 

فهنا فلسفة العقاب حماية المجتمع من التمادي في السلوك الإجرامي، والإصلاح والتأهيل للاندماج المجتمعي، وتحقيق ذلك يتطلب استراتيجية قومية، ومنظومة إصلاح متكاملة لبلوغ هذا الهدف السامي.

 

في اعتقادي، أن  تلك الاستراتيجية، تتطلب العمل على محورين:

 

المحور الأول: 

 

العمل على علاجات جذرية لمسببات ارتكاب الجرائم، للحد من الحالات التي تتطلب مواجهة فضائية وعقابية إلى أدنى مستوياتها.

 

المحور الثاني: 

 

التوسع في تطوير آليات تحقيق مستهدفات الفلسفة العقابية، الإصلاحية التأهيلية.

 

والحقيقة، أن الجمهورية الجديدة تمتلك إرادة سياسية حقيقية، لحماية المجتمع، ونجحت مؤسسات الدولة في بسط الأمن والاستقرار المجتمعي، وتسعى بكل جدية للحفاظ على الكرامة الإنسانية، بعلاجات جذرية، شملت قاطني المناطق العشوائية، ونزلاء المؤسسات العقابية.

 

ففي المحور الأول: العلاجات الجذرية لمسببات الخروج على القانون.

 

أول الأسباب: بيئة النشأة الخاطئة

وهنا فإن المناطق العشوائية، التي لا يتوافر فيها أدنى متطلبات الحياة الإنسانية الكريمة، قطعًا تُسهم في قصور حاد في التنشئة، ويكون جزء من أبنائها عرضة لانحرافات، تحت ضغط الحاجة وغياب التعليم، والافتقار لبناء القدرات المؤهلة لشغل وظائف تخلق فرص عمل، تكفل حدودًا دنيا من الكسب، لازمة لحياة كريمة.

 

وهنا لا نلوم على المواطن، الذي عجزت الدولة عن تهيئة البيئة اللازمة لتنشئة كريمة، مؤهلة لبناء عضو نافع في المجتمع، وعندما ينحرف فإنه ضحية بيئته، ويدفع المجتمع ثمن إهمال سابق تعددت أسبابه، والنتيجة واحدة.

 

لذا فإن الجمهورية الجديدة عميقة الرؤية، ذهبت إلى عمق المشكلات بعلاجات جذرية، تحفظ الكرامة الإنسانية، وتزيل مسببات التنشئة الخاطئة، بالقضاء على العشوائيات، وخلق مجتمعات جديدة متكاملة، سكن كريم، وبرامج تعديل سلوك، وتوفير خدمات تعليمية وصحية، ومؤسسات تأهيل لإكساب الراغبين مهارات وقدرات تخلق فرص عمل كسب كريم.

 

ولا شك أن لتلك الإجراءات، آثارًا مجتمعية متنوعة، ستظهر ثمارها لاحقًا، من بينها تراجع معدلات الانحراف والجريمة، التي كانت ترتكب من بعض قاطني العشوائيات، وهم نسبة حتى لا يفهم مقصدي خطأ، كأي فئة مجتمعية أخرى، منها البعض الذي ينحرف، فالجريمة ليس مرتكبها حكرًا على منطقة جغرافية ولا فئة مجتمعية، وهنا نتحدث عن البيئة التي كانت تفتقر لمتطلبات التنشئة السليمة وعلاج الجمهورية الجديدة لها، من منطلق حقوق المواطن، وما تبعها من إزالة لآثار سلبية متنوعة، وثمار إيجابية بذات التنوع. 

 

السبب الثاني: قيم التنشئة الخاطئة

 

السبب الأول: البيئة التي تفتقر لمقومات التنشئة الصالحة، أما السبب الثاني، في اعتقادي، فيتمثل في منظومة القيم، التي تشكل تكوين فرد المجتمع، فقد يعيش في بيئة حضارية من حيث المسكن ومستوى الدخل، ومؤسسات تعليمية راقية، لكن تفتقر التنشئة للمقومات القيمية الأساسية، الخالقة للضمير، والردع الداخلي لنوازع النفس البشرية.

 

فتجد مسؤولًا كبيرًا وصل لمناصب عالية، مدير شركة أو محافظ، أو حتى وزير، ويقع في براثن أخطاء النفس البشرية، ويرتكب جرائم رشوة، أو اختلاس، وتجد ابنًا نشأ في بيئة اجتماعية راقية، توافرت له المقومات المادية لتنشئة سليمة، يرتكب جرائم كتعاطي المخدرات أو الاتجار بها، نتيجة ضعف بناء الضمير، والتنشئة الروحية، فتغلب نوازع النفس الأمارة بالسوء، حصون الحماية الأخلاقية والدينية.

 

ومن ثم فإن بناء حصون الضمير، يتطلب قواعد أخلاق خرسانية، عبر منظومة بناء متكاملة، تُسهم فيها الأسرة أولًا، مرورًا بالمدرسة ومناهج تعليم أخلاقي متطورة، ومؤسسات دينية إسلامية ومسيحية، مستنيرة، تبني عقائد صحيحة ملتزمة بصحيح الدين، مقاومة للتطرف، ومؤسسات إعلامية تنموية، تقدم محتوى إعلاميًا معززًا للأخلاق والقيم والضمير اليقظ، تناول الجريمة بهدف الإصلاح والتوعية، لا التسلية، تقدم النماذج المجتمعية الناجحة في مواجهة التحديات، والكسب الكريم لتكون نماذج محفزة يحتذى بها.

 

وكل ذلك من شأنه الحد من أعداد مرتكبي الجرائم، واللاجئين إلى النزاعات، ومن ثم تخفيف الضغط على المنظومة القضائية، وبالتبعية، خفض أعداد نزلاء المؤسسات العقابية، السجون سابقًا، مراكز الإصلاح والتأهيل في الجمهورية الجديدة.

 

وهنا ليس التغيير في الاسم، بل تغيير جذري في منظومة فلسفة العقاب، ومستهدفاتها، وآليات بلوغها، بما يحمي المجتمع، ويحفظ كرامة النزلاء، ويؤهلهم لتجاوز أخطائهم وإزالة مسبباتها، ومنحهم القيمة المضافة للقدرات، بما يخلق لها حياة جديدة وعن ذلك أحدثكم عن معايشة ليوم بمركز الإصلاح والتأهيل بوادي النطرون، إن شاء الله، في الحلقة القادمة من هذه السلسلة.

 

إن شاء الله.. للحديث بقية.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز