رؤوف عبيد
إليكم من رجلٍ فقد أخاه
كل واحد منّا على وجه البسيطة عاش لحظات حزينة، لوداع عزيز لديه إلى رحلة الموت، التي كتبت على الجميع بدون استثناء، ليستقر جسده في لحد لا يزيد على أمتار ينتظر البعث مرة أخرى، ولعل فراق عزيز لديك يجعلك تتفكر في تلك الحقيقة، وتتوقف عندها وتذهب بخيالك إلى ما بعد الموت، ويصبح يقين لديك أن الموت يكون للجسد فهو يفنى ويتحلل، أما النفس فلا، لأنك تشعر بها تحوم من حولك خاصة بعد وفاتها، لكنك لا تستطيع أن تفصح عن هذا، حتى لا يتهمك أحد بالجنون، فإنك تؤمن بأن الجسد لا يعيش معك وبنفس قدر هذا اليقين تؤمن بأن النفس مازالت تعيش معك فهي لا تنتهي بانتهاء الجسد، لكنك تتسلل إلى بعض الكتابات لتبحث عمّا يدور بذهنك أهي خزعبلات تدور في ذهنك حزنًا على فقيدك أم ماذا؟! فإذا الذي يدور بذهنك يؤكده العلماء فقالوا عن الموت أنه يعني انفصال النفس عن الجسد يا لها من حقيقة، فالذي يدور في ذهني وغيري له أساس من الصحة.
وتتعمق بفكرك أكثر وأكثر ماذا يحدث للنفس بعد موتها وسرعان ما تجري إلى الدين الحنيف، لترى كيف أجاب عن تلك الأسئلة التي تدور في ذهنك حول الموت، لتجد أن فلاسفة الإسلام قالوا إن مفهوم الموت هو خروج الروح من الجسد بواسطة ملك من الملائكة هو ملك الموت، مشيرين إلى تلك الآية الكريمة، قال تعالى: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وُكّل بكم ثم إلى ربكم ترجعون). السجدة (11). ويساعده كوكبة من الملائكة يقومون بنزع النفوس نزعًا من الظالمين قال تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم). الأنعام 93. وقال تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم). النساء 97.
أما الطيبون فتتولاهم ملائكة الرحمة، وتبشرهم برضوان من الله ومغفرة وسلام منه ورحمة. قال الله تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون)، وقال تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي). الفجر 27-30.
هكذا يكون حال الميت، ولعل هذه الآيات تهدئ من روعك، لأنها تفصل بين شخصين، أحدهما طيب النفس وآخر ظالم لنفسه، توضيحًا.. كيف يكون حال هذا وحال ذاك؟، وإن كان الروع هنا لم يكن فقط على حال الفقيد بعد وفاته، وإنما على فراقه، وهي الأزمة الشديدة التي يعانى منها الكثير أنا منهم، فقد كانت هناك أماكن وذكريات وأحاديث تظل عالقة بذهني إلى درجة أنك لا تستطيع أن تصدق أنك قد فارقته، تظن أنه مازال يعيش معك وروحه تحوم حولك، بالفعل إن هذا يحدث مع كثيرين، ولكنها بنسب مختلفة فهناك من يعظم هذه الحقيقة لدرجة أنه يتحدث مع تلك الروح يشكو لها تارة وأخرى يستعيد تلك الكلمات التي كان يسمعها منه وآخر يذهب إلى قبره ويجلس بجواره لمدد طويلة يأنس به كما كان يأنس به في الدنيا فهناك ذكريات مشتركة لا يمكن استعادتها من طرف دون الآخر وتنضب هذه الذكريات ذكرى تلو الأخرى.
إن حالات الحزن الشديدة التي تنتاب بعض الأفراد بسبب فراق الأحباب طبيعية، خاصة في حالات القرابة من الدرجة الأولى، التي قد لا يتفهمها البعض، وللأسف ينكرون عليهم هذا الحزن، ففراق الأب والأم والأخ والأخت والزوجة والزوج والابن والابنة جراح شديدة تصيب القلب وينزف منها دم حزنًا عليهم، تظل هذه الجراح فترات طويله، قد تصل إلى سنين، وقد تظل العمر كله في بعض الأحوال لكي، وقد لا تلتئم حتى يصاب الشخص بمصيبة الموت حزنًا على فراق فقيده.
قد يُقال لك كلمات مثل: "الحياة لا تتوقف على أحد"، أو "لا بد للحياة أن تستمر"، نعم لا بد للحياة أن تستمر ويبقى فقيدك حيّا في ذكرانا، وقلبك يسترجع أوقاتك السعيدة معه، وتذكر دومًا أن هناك سببًا وراء شعورك بالحزن على وفاته، ألا وهو أنه كان بالفعل شخصًا مميزًا ذا حضور إيجابي في حياتك، هكذا كان أخي بالنسبة لي، وللأخ منزلة عظيمة في النفس. فقد رُوِي عن لقمان: أنَّه قدِمَ من سفر، فلقِيه غلامٌ في الطريق، فقال: ما فعل أبي؟ قال: مات، قال: الحمد لله، ملكتُ أمري، قال: ما فعلت أمِّي؟ قال: ماتت، قال: ذهب همِّي، قال: ما فعلتِ امرأتي؟ قال: ماتت، قال جُدِّد فراشي، قال: ما فعلت أختي؟ قال: ماتت، قال: سُتِرت عورتي، قال: ما فعل أخي؟ قال: مات، قال: انقطع ظهري.
فالأخ تأنس به النفس وتستعيد معه ذكرياتك الأولى، بل إن الأخ سبب في زوال همك ومصدر لسعادتك، وينتهي ما بك من بؤس عند لقائه، انظر إلى قول الله تعالى "وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"؛ فانتهى البؤسُ بمجرد لقائه بأخيهِ، وصدق من قال "إذا مات أخوك انكسرت يُمناك"، رحم الله أخي، وكل من فقد عزيزًا لديه، وربط الله على قلوبنا وقلوبكم.