عاجل
الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
نساء "روز اليوسف" 7

الناقدة الهادئة والكاتبة الشرسة ونصيرة حقوق الإنسان

نساء "روز اليوسف" 7

كنت أعجب لصحافيين، كيف أنهم يمارسون مهنة لا يعرفون شيئا عن "مطبخها"، ومراحل تحضير صفحات العدد قبل مثولها إلى المطابع.



كنا مرة، جماعة من صحفيين وكتاب وفنيين، في بعض المنازه في المحروسة، والزمن مطالع سبعينيات القرن الماضي. ولست أذكر من ذا الكاتب بين الحاضرين، الذي ساق في الحديث أشد اللوم لمعاهد الصحافة، على تقصيرها في إدراج "التطبيق العملي" في مناهجها، بحيث يكتفي بعض المتخرجين بخليط من "النظريات" عجيب، فيه المستطاب النافع، والمستكره، الذي ضرَره أكثر من نفعه... وبعد ذلك يحسب "المتخرج" على الجرائد والمجلات، "صحفيا"، وهو لا يعرف قبض القلم أمِن رأسه يُمسك، أم من ذَنَبه، وإن عرف، كتب أفكاره في حلة الحرف، ركيكة، مشبعة بالأخطاء اللغوية، ناهيك عن جهله المطبق، لمراحل رحلة النص المكتوب الى المطبعة. وكان أن طرق مسمع عميد كلية الآداب في جامعة القاهرة، من لقطات أحاديث تلك الليلة، فتفاجأنا، مع بداية العام الدراسي الجامعي, بإدراج قسم الصحافة في تلك الكلية، "التطبيق العملي" في مناهج طلاب السنة الأخيرة، واختيرت لذلك مؤسسات صحافية كبرى في المحروسة لتدريب الطلاب مدة شهر دراسي كامل، وتعريف الطلاب الذين ما يزالون في ليان العود على "مطبخ" المجلة أو الجريدة، ودور كل من رئيس التحرير، ومدير التحرير، وسكرتير التحرير التنفيذي والمشرف الفني. وحدث أن كُلِفت، بوصفي المشرف الفني في "صباح الخير"، أن أتولى تدريب دفعات من الطلاب والطالبات، اختيرت "دار  روز اليوسف" لتدريبهم العملي.

فعكفت على وضع منهج عمل مشروح، بالتفاهم مع الدكتورة منى الحديدي، والدكتورة ماجي الحلواني والدكتورة منى جبر.

كان المنهج يبدأ من وضع المخطط العام للعدد  Flat Plan  الذي يلحظ التبويب، وتقسيم المجلة إلى "ملازم" يحددها عدد الصفحات لتبدأ رحلة التحضير وتجهيز العدد: تُسلم المادة التحريرية المكتوبة من الصحافي، وتُمرر على رئيس التحرير، ثم مدير التحرير الذي يراجعها، ويُنقيها من هنّات اللغة الهيّنات، والأهم يدقق بأن أن المكتوب يتماشى مع سياسة المطبوعة، أو أنه يشذ عنها ويخلفها! ويختار مدير التحرير, بعد ذلك, العناوين الملائمة، وكذلك الصور  المرافقة لها، ثم تنقل المادة المكتوبة إلى قسم التنضيد والتصحيح، لتتحول إلى"مسودة" نهائية، يتسلمها  قسم الإخراج والتصميم, حيث يتولى المدير الفني تصميم الصفحات وتوضيبها، فتنتقل إلى قسم التصوير, لتحويلها إلى أفلام، تأخذ طريقها إلى قسم التجهيز الطباعي، فتُجمع الأفلام في ألواح plates لتُلقم للطابعة، وبعد أن يجّف الحبر، تأخذ الملازم المطبوعة طريقها إلى قسم التجميع و"التخريز"، لتأخذ المجلة شكلها النهائي، فيتولى قسم التوزيع إيصال النسخ المطبوعة إلى المكتبات، وأكشاك الباعة.

  ودفعة بعد أخرى من الطلاب والطالبات مروا على المكاتب والأقسام، عاينوا، وقفوا على أدق ما يدور في "مطبخ" المجلة، وانغمسوا في العمل.

 

 ومن ضمن الدفعات التي قمت بتدريبها، واحدة، اختير منها ثلاث طالبات للعمل في "صباح الخير".  

ماجدة الجندي 

من المنصورة , كابرا عن كابر. رجحت خلف لسانها كفة "جان راسين"، فلقد  فُتح لها في اللغة الفرنسية ما لم يُفتح لسواها، فتعلمتها في المدرسة الخاصة.

مَلَكت ماجدة عنان النثر، وعافية اللغة، يطلُ الرأي من صرير قلمها، جريئا, حادا، روح منفتحة, تجول باحثة عن المعنى، لا يصدفها صادف, ولا يردها رادٌ، فأجادت كتابة التحقيقات، وكانت بدأت برصد الحالة الإنسانية أثناء حرب الاستنزاف ما بين 1969 وحتى حرب 1973 ومتابعة إعلامية للحوادث والتطورات.  

 

بعد فك الحصار عن مدينة السويس، حملت ماجدة قلمها وأوراقها، وفي النيّة، إجراء أحاديث صحافية مع أبناء "منظمة سيناء العربية"، ففوجئت بتمنعهم، ورفضهم الكلام إلا بعد مشورة وموافقة جمال الغيطاني، فهم لا يثقون بحَمَلة الأقلام إلا به وحده! 

 

 

"جمال الغيطاني"... رددت الإسم في ذهنها مرات عدة، حاولت أن تراجع ذاكرتها: ما مرة قرأت للرجل أو  طَرَق مسمعها أي حديث عنه... اشتد بها الاستياء، استحوذت عليها خيبة ممضة، وهي تلملم أوراقها، وتعود إلى المحروسة خالية الوفاض. 

 

وعادت ماجدة الجندي، تمسك القلم وتضع سنَه على الورق, وتتشكل أحرف تحقيق يتناول "خطابات المجندين لأسرهم"، مسحت قلمها منه، وأودعته إدارة التحرير، وكلها أمل أن ينشر في "صباح الخير"، أيام ذاك، كانت "الصبوحة" تصدر كل ثلاثاء. 

 

يوم السبت، صدرت جريدة "أخبار اليوم"، وعلى إحدى صفحاتها مقال، محض مصادفة، متوج بالعنوان نفسه، ومذيل باسم جمال الغيطاني.

 

فأسقط في يد ماجدة, واهتزت حنقا، فشعرت بنت التاسعة عشرة بالإحباط، دهمها إحساس بالفشل، بَرَق في نفسها خاطر ما أحبته. 

وأخذت المحنة تنجاب عنها  شيئا بعد شيء, حتى عاودتها طمأنينتها، وراجعتها الثقة بنفسها, وعادت تمسك القلم, تكتب وتبدع, وتتجمع العيون على تحقيقاتها ومقالاتها الممتعات.

  وتمر الأشهر, واحد ميت وآخر مولود. وحدث أن  دار "روز اليوسف" كانت تباحث جمال الغيطاني في أمر نشر كتابه " المصريون والحرب"، فعرّج على الدار لإتمام عقد النشر. فما كان من رؤوف توفيق، مدير تحرير "صباح الخير"، إلا أن نادى على ماجدة، فما أن دخلت المكتب حتى بادرها مشيرا إلى شاب كان في المكتب:

"صديقك اللدود أهو" ...  انتصب الشاب واقفا، مد يده  لمصافحتها, إلتمع وجهه أمامها، قال بنبرة وضع فيها كل إعجابه بها: "جمال الغيطاني".استحوذ عليها خدر رفيق، مسدت بأصابعها خصلات متمردة من شعرها, تمسك بها الارتباك, ما توقعت أن تراه، رفّ قلبها. بقيت صامتة، هي التي كانت تهتز حنقا, عندما يطوف اسمه في ذاكرتها، ما بالها، لا تعاتبه، لا تجادله, لا تعبر عن إمتعاضها، ما بالها مذهولة, مأخوذة بلطف ذلك الشاب؟ 

 

لم يتمالك رؤوف توفيق من حبس ابتسامة ماكرة, إنقلشت, غصبا عنه, على شفتيه، وهو يكلف ماجدة كتابة تحقيق عن المناطق الأثرية فى القاهرة القديمة ... ثم أعطى ابتسامته مداها, وهو يقول بخبث ظاهر: 

" أفضل مرجع مساعد لك, و الوحيد الذي يمكنه تزويدك بمعلومات عن المنطقة هو زميلنا في "أخبار اليوم"، وصديقك اللدود جدا...جمال الغيطاني". 

 

وتلتقيه, وتغزل اللقاءات قصة حب بينهما، وضع خاتم الزواج في خنصر"جلالة الملكة"، كما كان يناديها، وثمرة الزواج كانت محمد و ماجدة. 

 

 

 

 
 

بعد عشرين سنة, تركت ماجدة الجندي "روز اليوسف", قبلت عرض"الأهرام" لكتابة  صفحة ثقافية تتناول ثمرات المطابع, في نقد ومراجعة, سمّت تلك الصفحة "غذاء العقول"، والاسم على مسمى، فما كانت تكتبه من نقد، لاذع أحيانا, كان يُثري المدارك، ويُغذي العقول.

 

ثم تولت رئاسة تحرير  مجلة "علاء الدين ", فقدمت من خلالها و بأسلوب شيق, مشوق, و جاذب, موادا غير مترجمة، كُتبت خصيصاً للأطفال، و بسّطت المحتوى الثقافى لأهم الكتب، ومن خلال إكتسابها روح وأسلوب المؤسسة العريقة "روز اليوسف" في إكتشاف المواهب، فتحت الأبواب للرسامين والمبدعين لتقديم رسومهم وإبداعاتهم .

 

 حققت ماجدة  الجندي نجاحات صحافية بالإمعان في البحث في كل ما يعترض لها, وتخرج من بحثها بالرأي البنّاء, الذي لا يخلو من عمق النظر والصواب، كل ذلك الى المجالدة في جمع المعلومات، التي كثيرا ما انفردت بها.

 

 وماجدة الجندي, كما عرفتها, لا تجيد وتتميز إلا تحت ضغط الوقت، ومازالت تبهرنا, و تنشينا, وتغبطنا بإجاداتها الممتعات. 

 درية الملطاوي

 

صعيدية, ولدت و ترعرعت في  بلدة "مير" مركز ديروط بأسيوط. ناس "مير" ناكفوا المستعمرين الفرنسيين، خلال حملة "نابليون بونابرت"، وأبلوا بلاء حسنا.

 

إن قرأت لها,  لا تصدق أن تلك الكاتبة الشابة, الهادئة, الرقيقة, الخجولة، الرهيفة الحس، يمكن أن تكتب بمثل تلك الحدة,  والغضب, والشراسة.

 

تناولت قضايا الفساد, وفتحت ملفات الفوضى المجتمعية, بجرأة, ومن دون هوادة, راحت تكشف, وتتهم, بالأدلة القاطعة, تتوكأ في ما تكتب على الأسانيد, لا تحكم بظاهر الاشياء, ولا تنظر لها, وإنما تتحرى ما وراء الظاهر، وتعمد الى الجوهر, جوهر الحقيقة نفسها.  

 

سنة 1993 صرخت, و كان لصراخها دويه البعيد المدى,  مُحذّرة من الإعتداءات المتواصلة على الأراضي الزراعية, وأملاك الدولة, ودعمت كلامها بالحجج والمستندات ...

 

بعد سلسلة مقالاتها: "من يعتدي على أملاك الدولة؟ " اشرأب الناس يعجبون من هذه الصحافية, العظيمة الصولة, الصارمة القلب, الشديدة الإقدام. 

ويمشي قلمها على هموم الغلابة, ولا ينحدر من المنازل العالية في المراقبة, فلا يقع بصرها على شيء إلا وتحّرته، فتناولت في أحد تحقيقاتها مشكلة 155 أسرة من" محافظة الجيزة ", يبحثون عن مساكن ... وفي تحقيقآخر، حكت عن قضية المجتمعات العشوائية و عن "قاتلة زوجها '، الى إحباط تهريب المخدرات. 

وسال حبر قلمها على  ملف الفساد في الهيئة الطبية للسكك الحديدية،  فكتبت:"رسائل الأطباء والعاملين تصرخ بالشكوى  و تكشف وقائع جديدة ". 

    

 

"سرقوا عيون إبني فمن يحاسبهم؟", تكتب, و تروي قصة طفل أمضى سنة ونصف السنة, متنقلا للعلاج بين  مستشفى "أبو الريش للأطفال" و"معهد الأورام" , وصوّرت بما يدمي القلب, معاناة  أم الطفل, عندما تسلمت جثة ولدها, وقد فُقئت عينيه."سرقوا عيون إبني فمن يحاسبهم؟", تكتب, و تروي قصة طفل أمضى سنة و نصف السنة, متنقلا للعلاج بين  مستشفى "أبو الريش للأطفال" و"معهد الأورام" , وصوّرت بما يدمي القلب, معاناة  أم الطفل, عندما تسلمت جثة ولدها, وقد فُقئت عينيه.

كانت تلك واحدة من مئات حوادث سرقة الأعضاء داخل مستشفيات المحروسة. 

إذا كان الكاتب, يبحث دائما عن مكان في ذواكر الناس, فإن درية الملطاوي وجدت مكانها ومكانتها, في الذواكر والقلوب.   

كريمة كمال

"إن الظروف غير العادية لا يمكن التعبير عنها بالشكل العادي".

كتبت, ذات مرة, وما سال حبر قلم كريمة كمال إلا حول الظروف غير العادية. كاتبة إستثنائية, تطلق القول مرسلا, لا يعنيها سوى رحابة غمسة من معين الحق, مبسوطة العلم بغير لغة, متمتعة في كتاباتها بصحوة ذهنية رائعة, حية وّقّادة, كتابات لا تستكين إلا للبراهين, ولا تقعد عن طلب العلّة والسبب.

ما تغافلت كريمة كمال عن مسألة شائكة, أو عويصة, فتلجّ مواضيع لم يمخر في عِبابها الآخرون.

 

 

 

 

في "صباح الخير", كانت كريمة كمال علامة فارقة, إن في التحقيقات الجريئة, الشيقة, المخدومة, التي كانت تثير جدلا, أم في أسلوبها الخاص, الذي فيه نكهة إيماء تغني القارىء عن اللَمح الساخر, و لذعة التهكم.

وتحمل كريمة كمال قلمها, تتركه يمشي على عمود يومي لها في جريدة "المصري اليوم", التي كانت فيها أيضا مستشارة التحرير, و تبرز قدرتها على تناول القضايا التي تمس الناس, تعينها على ذلك, ثقافة وافرة, وتجربة حياتية في العمل الاجتماعي والسياسي.

 

في ذلك العمود, النهم الى كشف المستور, طرحت  مرارا السؤال المرِّ مرارة العلقم: "هل تقف الدولة على الحياد؟"

هل الدولة و أجهزتها "على الحياد" في الإنتخابات التشريعية العامة؟ هل هي "على الحياد " في القوانين التي تُفَرِق بدل أن تجمع و توّحد؟ و ألف هل, و ألف علامة إستفهام. و لا يجلي في قضية زواج القاصرات سواها, ولم يبلغ أحد مداها..  "هل المجتمع منافق أم مريض؟ " سألت, وهي تنناول مشكلة " الشغالة ". 

اهتمت كريمة كمال في تقاريرها و تحقيقاتها الصحافية بحقوق المرأة وحقوق الإنسان و الأقباط ، مدافعة عن حرية الصحافة و مشاكل المجتمع و مواجِهة السلبيات وانتفاء قيمة العدالة و الخير و الحب و تراجع قيمة القدوة و قيمة الأسرة. و لم تمنعها الكتابة  من النشاط الاجتماعي و الحقوقي, فكانت إحدي أعضاء "المجلس القومي للمرأة", وعضو في لجنة الإعلام للجهاز المركزي للتعبئة العامة, وعضو في لجنة السكان, ونقابة الصحافة, و"جمعية صانعي الأفلام الوثائقية". في سنة 2017، أعلنت "المنظمة العالمية للصحف وناشري الانباء " WAN-IFRA  فوز كريمة كمال بجائزة القيادة في التحرير لبرنامج "النساء في الأخبار" لتلك السنة . 

لكريمة كمال رفا متميزا في المكتبة العربية: "السرايا الصفراء"، "آلهة و خطايا"، "بنت مصرية في أمريكا"، "فساد الياقة البيضاء"، "طلاب الأقباط" و"الأحوال الشخصية للأقباط".                     

.. ولأن روز اليوسف "ولّادة"، ولأن المرأة قطعت شوطاً كبيراً فى الوصول الى حقوقها فى غرف الاخبار وعدم إعتبارها دخيلة، رغم استمرار ما تواجهه النساء في عملهن الصحافي من تشكيك فى قدراتهن على القيادة، فقد مهدت نساء روز اليوسف الطريق لجيل جديد من الصحافيات لم أسعد بالعمل معهن، ولكنى تابعت وأتابع إبداعاتهن الصحافية باهتمام  واعتزاز منهن مني فوزي، ناهد فريد، نجلاء بدير، سهام ذهنى، سلوي الخطيب، كاميليا عتريس، د.عزة بدر ، جيهان الجوهري، بسنت الزيتونى، هايدى فاروق وناهد الشافعي .. وغيرهن ممن خانتنى الذاكرة .. واعتذر..

   

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز