عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
نساء "روز اليوسف" (5)

نساء "روز اليوسف" (5)

 الرومانسية بنت "السيدة زينب".. و المتمردة بنت اللواء تجلس "ع الرصيف"!   عندما يوقظ الصبح عتبات البيوت, ماسحا عنها عتمة الليل, و لحظة تتصالح الشبابيك مع أشعة الشمس, يستيقظ حي " السيدة زينب ", ينفض النوم من عينيه, يتفتح النهار, و تدب الحركة.



مثل كل صباح, نزلت  زينب من البيت, متباهية بحالها و و بزي المدرسة الخاص, تمرجح بيدها حقيبة كتبها الجلدية, و تمشي مختالة الى "شارع خيرت", المطل على "شارع المبتديان" حيث مدرستها, "المدرسة السَنية" (بفتح السين), العريقة للبنات, التي هي على رمية حجر من بيت أبيها فهمي صادق.

و "المدرسة السنية" مُغرقة في القِدَم, في " الوقائع المصرية " تأريخها: في العدد 519 الذي كان صدر في أغسطس (آب) سنة 1873 خبر إنشاء تلك المدرسة, التي تبنتها و رعتها جشيم عفت هانم, الزوجة الثالثة للخديوي إسماعيل, صاحب فكرة المدرسة    و بانيها.

و تدخل زينب رواق المبنى جميل الهندسة, الذي دخلته قبلها ملك حنفي ناصف, نبوية موسى (أول فتاة مصرية تحصل على شهادة البكالوريا), الوزيرة عائشة راتب, هدى شعراوي, سيزا نبراوي, أمينة السعيد, سامية صادق ... و تتفوق زينب في دراستها, بما تمتعت به من سرعة حفظها, و ثبات حافظتها, و قد نمَت ثقافتها بالقراءة, فإختزنت في ذهنها ضروب المعارف، و أوتيت جوامع الكلام, و عافية اللغة, و هذا ليس بغريب, فلقد توفرت لها في "المدرسة السنية" أدوات العلم الرفيع, و الفهم الصحيح للغة, فمالت زينب الى الكتابة, إنقادت لها بكليتها, لا يثنيها شيء عن مبتغاها بأن تصبح كاتبة, يقرأ الناس من صرير قلمها, أفكارها. فراحت تعلن حضورها الدائم, بين أحرف جُمَلها و أسطرها: مُخَيّلة خصبة, مبتكرة, شعور رقيق دقيق الحس, فيطلع نثرها سائغا, لطيف الطلاوة, مرجوعا فيه كله الى طبعها الهادىْ, و روحها الحلوة, و عقلها المستنير الواسع.

و تنجز المرحلة الثانوية, و بنت حي " السيدة زينب " تتسجل في كلية الآداب, قسم الصحافة, في جامعة القاهرة, و تحقق ما كانت تتمناه, بأن تصبح كاتبة ... بأن تصبح صحافية.

ما إكتفى ضباط مجلس قيادة ثورة يوليو, بمجلة " التحرير", التي تولى رئاسة تحريرها الضابط أحمد حمروش, لتكون لسان حال     " الثورة ", تشرح ما إنغلق على الناس حول مفاهيمها و إنجازاتها, تنتصر لها و تدافع عنها.. فكانت لهم جريدة, إختاروا أن تصدر في الأماسي, سموها " المساء", و أوكلوا للضابط خالد محيي الدين مهمة الإشراف على جهاز التحرير, الذي أخذ يتكون من صحافيين مبرزين, هجروا الجرائد و المجلات الأخرى و إنضموا إليها, بعضهم بوازع الحماسة لما جاءت به الثورة, و الأهم التقرب من أولي الأمر النافذين المتنفذين, و بعضهم الآخر, و هم ليسوا قلة, سال لعابهم لزيادة الرواتب, و إغراءات العلاوات!

لم تصدق زينب صادق, أنها, لمّا طرقت باب " المساء " سيُفتح لها بالهّين. شعرت أن الدنيا فتحت لها ذراعيها. عندما تبّلغت الموافقة على انضمامها الى " قسم التحقيقات " في الجريدة، كانت في الحادية والعشرين من سنيها, و بعد, طالبة, تنهل من المحاضرات " النظريات " حول الصحافة و الكتابة فيها, فوجدت فرصتها لتطبيق النظريات, و وجدت " المساء " صحافية شابة, مليئة بالنشاط و الحيوية, و الرغبة الجامحة للنجاح, تدلي برأي في كل مقام من مقامات الرأي, غير هيّابة.

شقّت زينب في " المساء " مشي القلم, و ضمن باب إختارت له إسم " يوميات شعب ", راحت تروي تفاصيل حياة الناس البسطاء, الذين طحنهم زمنهم... الدوّارين على لقمة العيش, تلملم الحكايات من " الورش " الصغيرة, من الحواري و الأحياء, و تنسج خيوط قصصها من أفواه الناس العاديين في الأسواق الشعبية. تنزل الى الناس, تتجول, تندس بينهم, تسمع أنينهم, و تلمس وجعهم, حيرتهم, ضياعهم, ترسم بالأحرف ما تراه عليهم من شكاية من تضاريس الحياة و صروف الدهر, فتتشكل كلمات فيها لباقة التعبير. في تحقيقاتها كانت جزلة اللغة, لطيفة التصوير, في نقلها الواقع المرّ, فلا تغلب العاطفة على صدق القلم, و كل ذلك في أسلوب سلس, يمتاز بالعمق و الوضوح.

على دراجة نارية, بصحبة مصور " المساء " كانت تتنقل طوّافة في شوارع المحروسة. في ذكرى مولدها, أهداها والدها آلة تصوير, فإستغنت عن المصور, و صارت تصور و تكتب تحقيقاتها.

و تجمعت العيون على ما كانت زينب تكتبه في " المساء ", ذهب سمْعها في الناس, الذين أقبلوا على قراءتها, و بات إسمها يتداول في الوسط الصحافي.

و على الرغم من إجاداتها و ممتعاتها في " المساء" ، ظّلت زينب ترنو بلهفة و شوق للعمل في "روز اليوسف" العريقة, و الكتابة على صفحات بنتها " صباح الخير ", التي منذ عددها الأول عرفت كيف تتسلل الى العقول و القلوب, و تجذب الأقلام الشابة الطَموحة.

و راحت زينب صادق تنتظر فرصتها.

إستحوذ على زينب شعور غريب, وهي تدخل مبنى "روز اليوسف" في "شارع محمد سعيد", و هلَّ خاطر في ذهنها, أنها لن تكون المرة الأخيرة التي تدخل فيها ذلك المبنى... مسحت الخاطر الذي ألح عليها, و هي تنزه عينيها في القاعة, حطّت نظرها على وجه إحسان عبد القدوس, الذي كان الي جانب أحمد بهاء الدين و لويس جريس، في إستقبالها و رفيقاتها في قسم الصحافة في جامعة القاهرة.

إتسعت عينا زينب لدهشتها, فهي لم تكن تتوقع أن ترى الروائي الذي كانت تسهر مع رواياته, و تعيش مع شخصياتها.

أرادت زينب أن تتكلم, أن تقول شيئا, و لكن إرتج عليها القول. أخذ إبن الست روز الكلام, و الحديث في دورانه, كان عن تأريخ لفتت زينب صادق إنتباه أحمد بهاء الدين, الذي إستعذب حديثها, و حلا له جوابها عن سؤال مرّ بباله فطرحه, و أعجبه منها تقلب لسانها فوق البراهين و الحجج, فاختارها من بين رفيقاتها للانضمام الى " صباح الخير ".

إكتسى وجهها الدقيق القسمات بالغبطة, لحظات مفعمة بالفرح العارم مرت عليها، بعد سماعها خبر قبولها للعمل في "الصبوحة", فاستسلمت لزهوها, و هي تحشر أوراقا في حقيبتها الجلدية و تخرج من البيت لتواجه أول يوم في مشوارها مع "روز اليوسف" و بنتها " صباح الخير ".

 

علي ثماني صفحات من ورق " الأفيش " الملون, الذي تميزت به المجلة و يتصدر صفحاتها و تختم بها ، بدأت زينب ضمن باب  " حكاية " تنشر قصصها القصيرة المترجمة من الأدب العالمي, تلك كانت بداياتها كأديبة.

و كان أن تولى" المُعلْم " حسن فؤاد رئاسة تحرير" صباح الخير ", فطلب من زينب باب ثابت تكتبه كل أسبوع فاختارت "الحياة     و أنا" عنوانا للزاوية,  و لكن أبو علي غَيّر الإسم الي " أنا و الحياة "، و إختار الفنان إيهاب شاكر ليصاحب برسومه الباب الذي حمل رسالتها للأسرة و المرأة و المجتمع, و ما زالت تقدمه حتي اليوم علي مدار أكثر من خمس و أربعين عاماً، باب رشيق العبارة كرشاقتها ينبض بالحياة و يتفاعل معها و يرصد أحوال الحب و الفرحة  و الحزن و أحاسيس الرجل و المرأة .

أفلحت الكثير من الكاتبات و منهن زينب صادق في تنفيذ وصية الكاتبة فيرجينيا وولف "على المرأة المسكونة بالإبداع أن تستخدم المداهنة و الحيّل النسائية لتخلق زمن الكتابة و مكانها مخترقة العوائق الاجتماعية و الاقتصادية التي تحول دون تحقيق طموحها الأدبي" .

و لأن القصص التي تكتبها المرأة هي إضاءة للحياة النسائية المظلمة، لأن الصوت النسائي غائب عن الأدب، على الرغم من أنها الأقدر علي كتابة ذاتها الخاصة، فقد إنعكس هذا في أكثر من 20 مؤلفاً من القصة القصيرة و الرواية أغنت بها المكتبة العربية منها "حكايات زينب صادق"،" الحب و الزواج" ،" إدارة العواطف"، "هذا النوع من النساء"، "حكايات في ضوء القمر"، " الحزن بحرية"،    " إنقذني من أحلامي"... 

على أن رواية " يوم بعد يوم " , هي الأشهر لها, كانت "صباح الخير" تنشرها مسلسلة في حلقات صاحبتها  ريشة الفنان  "مأمون", و لرواجها و إقبال القراء عليها,  عولجت سينمائيا, فأنتجت الهيئة العامة للسينما فيلم " إبتسامة واحدة تكفي " من بطولة يسرا و نور الشريف و إخراج  محمد بسيوني و ساعده المبدع عاطف الطيب. و قدمت السينما لها أيضاً " آخر ليالي الشتاء " من إخراج مجيدة نجم  و بطولة إيمان الطوخي و يوسف شعبان. و كذلك سهرة  درامية  تلفزيونية " حب حُفظ في الأرشيف " .  

 

زينب صادق

" نادي القلوب الوحيدة " باب ناجح آخر شاركت فيه زينب بالتناوب مع صبري موسى للتعبير عن حياة الناس و أحاسيسهم و مشاكلهم ، قصص تروي كلام في الحب و الإرتباط و الفراق.

و يحمل همسات حب و نبضات شوق ، نفوس حرمها الزمان من الحنان و تبحث عن الأمان ، أشخاص لم تجمعهم الأيام و لكن جمعتهم الذكريات، و تحمل نصائح من زينب و صبري " لا تكسر الجذور مع من تحب فربما شاءت الأقدار لكما يوماً لقاء آخر، يُعيد ما مضي و يوصل ما إنقطع"، و نصيحة أخرى "لا تحزن لفراق الحبيب فإذا كان العمر الجميل قد رحل فمن يدري ربما إنتظرك عمر أجمل"، " اذا إكتشفت أن كل الأبواب مغلقة، و أن من أحببت يوما أغلق مفاتيح قلبه و ألقاها في بئر النسيان كرامتك أهم كثيراً من قلبك الجريح ، لن يفيدك أنّ تنادى حبيباً لا يسمعك، و أن تسكن بيتاً لم يعد يعرفك فيه أحد، في الحب لا تفرط فيمن يشتريك ، و لا تشتري من باعك و لا تحزن عليه".

و مازالت زينب تكتب و تبدع , مسح الله يده على عافيتها و أطال في عمرها, لتمتعنا بقصصها المنسوجة بخيوط من مشاعر، خيوط من حرير، قصص إنسانية إبتدعتها من فيض إحساس مرهف في السرد. 

 

إن أنت سألت عن اللواء جاد, دلوك على رجل طويل القامة جسيمها, العينان السوداوان, يشع منهما الصفاء, تدوران في وجه حاد الملامح وسيمها, يتقلد في رأسه ذكاء حادا, و على صدره أوسمة حُسن الخدمة و الشجاعة. فهو سفح عمرا في سلك الشرطة, و بقيت خصاله ليّنة تنأى عن العنف, الصدق سلطان ينزل عند أمره. رجل طلعة في القانون, مثقف, يشد بغرار دينه, من غير أن يلوّث ضميره بجرثومة التعصب و التزمت, سَمِح, متسامح, يحترم الآخر المختلف معه و عنه. سديد الرأي, مبسوط اليد الى أقصى درجات الكرم.

بيته في شارع "بطرس غالي" بمنطقة روكسي في مصر الجديدة, كان مقصد القاصدين,  فاللواء كان يفيء على مواطنيه, بكِبَر فضله و بياض عمله, عمره ما ردّ بابه في وجه سائل يسأل عن أمر أشكل عليه.  في ذلك البيت, و في حضن هذه البيئة الصالحة, المستنيرة, المتسامحة, ولدت نهاد, و ترعرعت, و شبّت, ففُطِرت على خلق أبيها, و كانت الإبنة الوحيدة, فعاشت بين الأب و دلعه و بين الأم الصارمة التي علمتها النظام.

و البنت كانت بنت أبيها, منطلقة, متفتحة, و منفتحة على كل الآراء و الأفكار و التيارات السياسية و الفكرية, جريئة, معتدة بنفسها.

عرفت الحب باكرا, كانت تنام مغمورة بالرؤى العذبة, محا قلبها كل ما عداه, في خنصرها وضع رؤوف خاتم الزواج, كانت لما تَزَل في التاسعة عشرة من سنيها. و باكرا, أصبحت أما, لطفل سمته حسام.

و أدركت أنها تعجلت في الإرتباط, تركت الحب يجرفها الى مطارح ما عادت تتحملها, تنازعتها الأفكار, ترمدت العاطفة في قلبها, و وئِد حبها, فطلبت الطلاق, و كان لها ما طلبت.

حملت حسام الى بيت أبيها, و عادت الى كتبها و درايتها.

 

و تمسك نهاد جاد قلمها, تنزل به على صفحات "صباح الخير", في إجادات, و ممتعات, جذبت القراء من كل حدب و صوب.

مع مجموعة من الصحافيين الذين, مثلها, يتقنون اللغات, أشرفت على تحرير زاوية "صباح الخير أيها العالم", تُلملم فيه أخبار العالم, بأسلوب سلس, فيه ملاحة النوادر, و إجادة الغمز, وحلاوة الفكاهة ... و هو أسلوب رفيع الدرجة لا يصل اليه إلا المبدعون و نهاد جاد واحدة منهم.

و لم تَكِف عن بسط قلمها في تلك الزاوية, التي  غدت من أكثر زوايا "صباح الخير" قراءة, راحت تطلق أسلوبا جديدا في كتابة المقالة, و هو إشراك القارىء بهموم الكاتب, و التطارح معه في كل القضايا التي تمس حياته اليومية... فكان لمقالاتها النازلة في صواب الأمور و سدادها, موقع  رفيع و بليغ في نفوس من يقرأها.

 

و ربما كانت مقالة "إبني المراهق", الأبرز و الأحلى في سلسلة تلك المقالات, فقد طرحت فيها مشكلة إبنها حسام, و كان أيامها في الخامسة عشرة من سنيه, , فكتبت أنها تحبه سواء  كان مخطئا أو كان على حق.. بمناسبة فصله من المدرسة لمدة أسبوع لأنه رفض قص شعره بعدما تكرر طلب ناظرة المدرسة، و قد عاد الى المدرسة بعد أن قص شعره و أقنعه جدّه والد نهاد أن قص الشعر يعتبر رجولة و أن الجيش الذي نتمنى جميعا أن تكون فى صفوفه كرجال يتطلب قص الشعر و أنه آجلا أو عاجلا عند دخوله الجيش سوف يضطر لذلك .. و أوصت نهاد في خواتيم مقالها المؤثر، كل أم أن تقدم لإبنها الحب من دون قيود و شروط.

      

كانت كتابة القصة القصيرة تناسب تركيبة نهاد جاد النفسانية, و قدرتها  الفائقة, علي ملاحظة التفاصيل الدقيقة في الحياة من حولها  و حواليها، و تتيح لها الإبداع في فن الكشف الذاتي و عالم المرأة الخفي ، فخير من تعبر عن" المرأة "هي "المرأة "و فهي التي ورثت الحكي منذ شهرزاد ، و قد أصبح لها دورها الخاص في داخل الوجود اللغوي الذي إحتكرها الرجل طويلاً . 

قدمت نهاد جاد من خلال قصصها لغة أكثر حيوية و جمالاً, صافية, لا زغل فيها, و لا ثرثرة غير مستملحة و لا رتابة  ممجوجة، فاستطاعت كشف أعماق المرأة و همومها الاجتماعية مستخدمة االحوادث و الشخصيات بما يخدم الزمان و المكان . 

توقف قلم نهاد عن السبح في فن "القصة القصيرة", فترة, جربّت خلالها مشي القلم على حكايات الأطفال. و خروجا عن المألوف, أبعدت عن تلك الحكايات "الخرافة" و التزويق الأسطوري المُغرِق في الخيال. و بأسلوب سلس، هين, راحت نهاد تنسج الحكايات التعليمية و الثقافية, تحملها الى "ملحق" إبتكر تصميمه حسن فؤاد, و إعتمد فيه "حجم الجيب" و سماه : "حكايات صباح الخير", تولى إيهاب شاكر, تطريزه برسوماته البهية و المبهجة. و ظل وازع السفر, و إكمال دراستها في النقد الأدبي, يلح عليها.

و دار الزمان دورته... جاءتها فرصتها: منحة من جامعة "إنديانا" في بنسلفانيا بالولايات المتحدة, لتحضير دراسات عليا MA في النقد الأدبي.

شعرت بالفرح يتبرعم في داخلها, طوّت أوراقها, جمعت حقائب السفر, و... طارت الى المستقبل.

 

تستيقظ حواس الجامعة باكرا, تنغل الحركة في أروقتها, و يسارع الطلبة الى قاعات المحاضرات. في أحد الممرات, إلتقته, إشتعل قلبها توهجا, شاب أسمر, طويل القامة, حلو القسمات... إلتهمته عيناها, حاولت أن تقول شيئا, سبقها الى الكلام, دارت عينيه من خلف نظارته الطبية على وجهها, تملاها, غَمَره شعور جاذب اليها, إبتهج في أغوار نفسه.

كان سمير سرحان, يحضر أطروحة لنيل الدكتوراه في الأدب. و مثلها كان يشعر بمرارة الغربة, يشتاق للناس الذين يعرفوه و يعرفهم,  يشتاق الى ناس "باب الخلق", حيث دَرَج و تربى, و حيث "دار الكتب", أول مكتبة وطنية في العالم, بناها الخديوي إسماعيل منفذا  إقتراح علي باشا مبارك مدير المعارف حينذاك.

كان سمير يلوذ بالذاكرة للبحث عن الوجوه التي تركها خلفه, و أعطى وجهه للبلاد الغريبة. و يعرف في قرارة نفسه بأن الحنين وحده الملجأ من قسوة الغربة, يعد على عشرة الايام, يوجعه الحنين.

إستأنس سمير بوجود نهاد، إنجذب لشخصيتها المتحررة المنفتحة و عقلها المستنير، و جمالها و كبريائها، وجد فيها قطرة غيث لأرض قاحلة, همسة توق, رفة حنان, منية بوح, و رجوة لقيا دائمة.

و هي, وجدت في الشاب الأسمر البهي الطلّة, الرجولة الممزوجة بالحب و الحنان، شعرت بأن زمانها بدأ لحظة رأته, و أنها تحبه, تريده لحياتها و عمرها,  و إذا كان في قلب كل إمرأة قصة, و كل قصة لها قصة, ففي قلب نهاد قصتها معه.

و وجدته يبوح لها بحبه,، فقررا الزواج،  وتزوجا سنة  1967، و أكملا دراستهما. و في سنة 1968, نال سمير درجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي, و نالت نهاد الماجيستير بإمتياز.

عادت نهاد الى "صباح الخير" مديرة  للتحرير، بينما ترأس سمير قسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب, جامعة القاهرة ، و يستقر الزوجان  في منزل في مصر الجديدة, و ثمرة حبهما كانت حاتم و خالد.

 

 

نهاد جاد  و د. سمير سرحان   د. سمير مع ولديه في لندن        نهاد و سمير مع نزار قباني          نهاد جاد و صبرى موسي

 

و قامت بين عائلتي الصغيرة و بين عائلة سمير و نهاد, مودة و رفع كلفة, نتبادل الزيارات, و سهرات السمر التي تطول, فسمير من ألطف الناس خروجا الى حديث و نوادر.

و إستمرت علاقتنا تنمو, وتزداد ودا, حتى, بعد أن حصل سمير على أجازة و أنتُدِب ليعمل رئيساً لقسم اللغة الانجليزية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، و عملت نهاد بتدريس النقد الفنى في الجامعة نفسها، فكنت ـأحرص طوال السنوات التي قضياها في المملكة أثناء غربتي علي زيارتهما بمقر سكنهما بجدة لألتقي بهما في الوقت الذي ساهمت فيه بالإشراف علي إصدار مجلة "الفيصل" الأدبية التي كان يصدرها الأمير خالد الفيصل و أقوم بتنفيذها و الإشراف علي طباعتها في مدينة برجامو  Bergamo بايطاليا، أحمل الألوان و أوراق الرسم لحاتم سرحان الذي كان مولعا بالرسم, و عاشقا للموسيقى. مدّ الموت يده و خطف من سمير و نهاد إبنهما حاتم و هو في ميعة الشباب. و ترك خالد وحيدا.

و كان سمير و نهاد يحرصان في العطلة الصيفية على زيارتي في بيروت, فقد كان يحلو لسمير التجوال بشوارع بيروت, و الجلوس في مقاهي أرصفة "شارع الحمراء", و السهر في ربوع الجبل اللبناني, و شرط مجيئهم, عدا الولع بلبنان, الولع بسمك" السلطان إبراهيم و"البساريا", فكنا, نحرص على توفيره متي حلّا في ضيافتنا.

 

و تكرج الأيام على روزنامة الزمن, ينتهي عقد سمير و نهاد, يرفضان تجديد عقد عملهما و يصران على العودة الى مصر.

 

و...عادا الى المحروسة, فتولى سمير العديد من المناصب الثقافية الرفيعة, و حقق نجاحا في العديد من المشاريع الثقافية ليحصل علي جائزة  الدولة التقديرية عن مجمل أعماله. 

و عادت نهاد الى "صباح الخير", و واصلت إدارتها للتحرير. و الى القصص القصيرة, و الروايات الطويلة.

كتبت قصة "النساء" التي حولتها المخرجة نادية حمزة سنة 1985, الى شريط سينمائي , كتبت نهاد حوار  شخصياته, التي أدتها ليلى علوي قبالة محمود ياسين. و القصة تدور حول شاب تحول أحواله المادية الصعبة دون حصوله على شقة فهو يعيش مع زوجته في شقة مفروشة و عاني من إنشغالها الدائم بعملها. و يعاني أصدقاؤهم من المشكلة الممضة نفسها, و تتفاقم الأمور, و تصل بالشاب و زوجته الى الطلاق.

 

 

بعدها بعامين قدمت مسرحيتها الشهيرة " ع الرصيف " التي أخرجها جلال الشرقاوي و أبدع فيها النجوم سهير البابلي، حسن عابدين، أحمد بدير و حسن حسنى، عمل مسرحي سياسي مباشر بعيد عن الرمز والإسقاط، و حسب تعبير مخرجها جلال الشرقاوي " فتحت عليه طاقة جهنم فلم يقتصر الهجوم عليه من الرقابة و إنما تعدي لمهاجمة التيارات اليسارية له ".

قبل افتتاح العرض، و فى البروفة النهائية حضرت للمسرح مديرة الرقابة " نعيمة حمدي" مع فريق عملها، و طالبت المخرج الشرقاوي بحذف أكثر من نصف النص المسرحي قبل إعطاء الموافقة على عرضها، لكن الشرقاوي قرر تحمل المسؤولية كاملة برفع الستار عن المسرحية، و تم عرضها عامين متتاليين دون موافقة الرقيبة، و تم تصويرها سينمائياً، و تعد واحدة من أهم و أشهر مسرحيات ماسمى " مسرح الكبارية السياسي "، و هي ممنوعة من العرض على القنوات الأرضية لتعرضها لكثير من سلبيات السياسة في مصر على مدار العصور.

مسرحية " ع الرصيف " تحمل تيمة الإغتراب ، فتجسدها نهاد جاد تاريخياً و اقتصادياً  معلنة إحتجاجها الصارخ على معاناة المواطن المصري فى ظل التغيرات الاقتصادية خلال فترة الإنفتاح، بعد أن فشلت الدولة فى تقديم الحلول لمجاميع الشعب، فلجأوا للحلول الفردية بالسفر لتوفير المقدرة المالية مهما كانت الوسيلة و من ثم، فليس أمامه من سبيل سوى هجرة وطنه بحثاً عن الرزق فى البلاد العربية، وسعيا لامتلاك القدرة المالية اللازمة . 

تذوي مشاعر الإنتماء الاجتماعى و ما أصاب المجتمع بالتفكك و الضعف ، و مع الاغتراب المصري النابع  من الحاجة الملحة أو بسبب الطمع و الاستغلال و الجشع و كلها مظاهر أتى بها عهد الإنفتاح. 

 

 

نهاد و سمير مع الكاتب محمد جلال             مشاهد من مسرحية "علي الرصيف"            نهاد جاد مع الناقدة نهاد صليحة

تنطلق أحداث مسرحية " ع الرصيف " من خلال مُدَرِسة لغة عربية يُجبرها زوجها فى مرحلة مبكرة من زواجهما، و قبل أن تعرف طعم الإستقرار الأسرى أو الهناء العائلى، على السفر إلى إحدى دول الخليج  للعمل و الحصول على المال، الذي يوفر لهما سكنا مناسبا، و حياة كريمة لضمان إستكمال رحلة الحياة الصعبة فى مصر. و تقضى البطلة ثمانية أعوام أسيرة الحياة حبيسة سجن الملل و الوحشة. و تصف البطلة رحلة المعاناة تلك ببلاغة مؤلمة. و بعد أن تُضيّع  البطلة أفضل سنوات عمرها فى رحلة الشقاء، تعود إلى مصر لتجنى ثمار الحلم سراباً و تعاسة، لتكتشف أن زوجها قد خان الأمانة، و طلّقها بعد أن استولى على مدخراتها، و تَمَلّك بيتها الذي ورثته عن أبيها بتوكيل مزور. ولم يكن أمامها سوى أن تختار بقعة ما على أحد الأرصفة لتجعل منها مأوى و مستقر، وتقبع فيه حزينة منكسرة .

ويشير نص " ع الرصيف " الى بذور الانحراف التي إستزرعتها طبقة الصفوة الفاسدة في عهد الاشتراكية، و حصدنا ثمارها فترة الإنفتاح، مؤكدة أن الخطأ لم يكن فى الحلم الثوري نفسه بل في من زيّفوه, و شوّهوه, يحدوهم تحقيق المصالح, و تقاسم المغانم.

و جاء إختيار نهاد جاد للرصيف من أجل تقديم صورة بانورامية للانحرافات المختلفة لطبقات الشعب و أحوال المواطن المصري    و مشاكله و همومه أثناء الإنتظار على محطة  الأوتوبيس.

 

بعد "ع الرصيف", أعطت نهاد جاد للخشبة نصا مسرحيا لا يقل إبداعا :" عديلة " , التي  تزوجت محامياً توقّع له البعض النجاح، إلا أنه فضّل أن يكون صاحب مبدأ, فالتفت الى كتابة المقالات فى الصحف نظير خمسة جنيهات لكل مقال، له إبنة على قبح,    و إبن يعاني من الفشل في دراسته. كانت عديلة  تجتر إحباطتها المتزايدة، و في لحظة يدق جرس التليفون ليحمل نبأ تعيين زوجها وزيراً ، و تهم لتوقظه من نومه فتجده قد فارق الحياة . 

 

و من عجب العجاب, أن آخر "معارك" موسى صبري, بعد التقاعد من رئاسة مجلس إدارة "أخبار اليوم", و قبل أن يختاره الموت بأشهر معدودات, كتب مقالات في مجلة آخر ساعة و جريدة الأخبار مستاءًا من خروج نجمة المسرحية عن النص و إنتقد هجومها و سخريتها من الوزراء و كبار المسؤولين و تعريضها بهم على خشبة المسرح و إهانتهم شخصياً، و طالب بحبس سهير البابلي إذا لم تتحرك الرقابة و النيابة العامة. و قيل وقتها أن موسي صبري أراد أن يرد الإهانة التي وجهتها سهير له و سخريتها منه ، عندما قابلته في حفل عام كان يضم موسي صبري و المطربة صباح و عند مصافحة سهير لها " أزيك يا شحرورة " و إلتفتت لموسى صبري  و في مشهد مسرحي قالت " أزيك يا شحرور "، و المعروف أن صباح و موسي صبري كانا متزوجان سراً . 

 

حملت نهاد جاد هموم الوطن و الإنسان المصري و مشاكل جيل بأسره ، بل مشكلة مصر كلها في فترة معينة، كانت طيبة القلب بلا حدود، لقبت برئيس "عصابة الخير" ، كما كان صبري موسى, صديق عمرها, يقول عنها, لعطائها المستديم, مبسوطة اليد ببسطة القادر, و إنكارها للذات .

نغل المرض الخبيث في جسدها, ثقلت وطأة العلّة عليها, فأوثقتها الى فراشها لا تريمه, حتى أودعت الأمانة. يومها إنطفأت نجمة كانت تضيء عتمة المحروسة.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز