عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
مدد يا سيدنا الفلاح.. نظرة فلسفية واقعية.. راحة الروح

مدد يا سيدنا الفلاح.. نظرة فلسفية واقعية.. راحة الروح

أكرمني الله بأن نشأت في ريف مصر، حيث الحياة البسيطة، وجمال الطبيعة، والأرض الزراعية، تلك الحياة التي تعمل فيها الحواس بكل طاقتها، بينما الروح مطمئنة راضية، والقلوب مبتهجة ضاحكة.



 

 

كان ريف مصر، منذ عقدين، على أقصى تقدير، غير الذي بات عليه الآن، كان المزارعون فيه يبذلون جهدًا بدنيًا مضاعفًا، لفلاحة الأرض وكسب قوتهم وقوت أبنائهم بالحلال، ورغم العمل الشاق في الأرض الزراعية، كانت الروح مطمئنة والقلوب راضية مرتاحة، وهذا يفسر كيف كان الفلاحون يرددون في ظل المجهود البدني: "محلاها عيشة الفلاح"، فالراحة راحة القلوب.

 

 

واليوم في الريف والحضر، ارتاح البشر، فرغم راحة أعضاء الجسد والحواس؛ حيث لا مجهود بدنيًا يُذكر، فإن عددًا ليس قليلًا، يعانون شقاء الروح، وتعب القلوب، وبؤس النفوس، مرجع ذلك لأسباب كثيرة بينها، أن من لا يجتهد في عمله، لا يجني ثماره، ويضيق عليه العيش.

 

 

وأسباب أخرى، بينها تعاظم الرغبة الاستهلاكية، والنظر لما يحققه الغير، بجهد بدني وفكري مضاعف، فإذا بمن ركن إلى الكسل والنوم، واستهلاك سنوات عمره، على الفيس وأمام شاشات التلفاز، فلم يطور من قدراته؛ يطلب الرقي بلا عمل، ويبحث عن الربح السريع بلا أخذ بالأسباب، فيفشل فيزداد ألمه النفسي وسخطه، يتألم وهو جالس دون أن يبذل أي مجهود.

 

 

وكأن من أراد راحة القلب والنفس عليه أولًا الرضاء بالقدر، والعمل وبذل الجهد البدني والعقلي، لاكتساب مهارات دائمًا، فراحة البال والنفس في علاقة عكسية مع الجهد البدني والفكري، الذي يتلخص في العمل.

 

 

 

الريف الذي كان كل متر فيه وحدة إنتاجية، بات بؤرًا استهلاكية، الخبز لم يعد- في غالبية الريف- يُنتج في المنزل، بل في أفران مستنسخة من تلك التي تنتج خبز المدن، الكثيرون تخلوا عن تربية الدواجن في المنازل، وهناك من ترك الزراعة.

 

 

 

قطعًا، هناك أسباب كثيرة متداخلة ومترابطة، والفلاح مجني عليه، فقد أهملته الدولة سنوات طويلة، ارتفعت فيها تكاليف الري والأسمدة، وضعفت قبضة الدولة الرقابية على جودة البذور والمبيدات، وتراجعت أسعار المنتجات الزراعية قياسًا على ارتفاع كلفتها الإنتاجية.

 

 

والسبب الأهم، ثغرات المنظومة التعليمية، التي لم تنطلق من دراسات جدوى، تربط بين احتياجات السوق والمنتج التعليمي، فوجدنا الفلاح يفني عمره لتعليم أبنائه، وقد يبيع- في سبيل تخرجهم في الجامعات- نصف أرضه، فإذا بهم يتخرجون جامعيين، فلا يقبلون العمل بالزراعة، ولا يجدون فرص عمل بمؤهلاتهم، فيتحولون إلى "بطالة مقننة"، يحمل المزارع عبء الإنفاق عليهم بعد التخرج.

 

 

 

وهنا تولد في الريف أزمة جديدة، تكمن في ندرة الأيدي العاملة الزراعية، فزاد الطلب عليها مقابل قلة المعروض، خاصة في أوقات الحصاد، وجني القطن، فتزيد كلفة الإنتاج وتتقلص ربحية الفلاح فتزيد معاناته.

 

 

من نشأ في الريف، يعي ما سأذهب إليه، كان الفلاح قبل ٢٠ عامًا، يزرع ويهتم بتطهير الترع وقنوات الري، بينما كانت الإدارات الزراعية- عبر كراكات- تتولى مهمة تطهير المجاري المائية الرئيسة، من ترع ومصارف، لانتزاع الحشائش والقاذورات والطمي المتراكم، لتسهيل سريان المياه، لتصل إلى المزارعين في نهايات الترع.

 

 

 

 

كانت معاناة، من تقع أراضيهم في نهايات الترع وقنوات الري، مضاعفة، يبذلون جهدًا خرافيًا لتصلهم المياه، بعضهم كان يسير مع المياه يزيل من أمامها المعوقات من حشائش وغيرها.

 

 

 

في بعض القرى والعزب في عُمق الريف، كان يمر أمامها، وسط المساكن، ترع بدأت تتقلص مساحتها تدريجيًا، نمت فيها الحشائش بفعل الإهمال، ورحيل أجيال المزارعين المهرة، من هؤلاء الذين كانوا يعملون من الساعات المبكرة، وينامون بعد صلاة العشاء، الذين يبذلون جهودًا مضاعفة بدنيًا، فيحصلون على طاقة مضاعفة من البهجة وراحة البال.

 

 

 

الترع والمجاري المائية تقلصت، وتحولت لمستنقعات تسهم في نمو الحشرات، والروائح الكريهة على مقربة من السكن في بعض القرى، وازداد إهمالها مع تزايد اللجوء إلى الآبار الارتوازية للري، المعتمدة على المياه الجوفية.

 

 

 

قطعًا الغالبية العظمى من القرى تحولت إلى شبه مدن، مع تطوير بنيتها التحتية في الـ١٥ عامًا الأخيرة، وتغطية بعض المصارف التي تمر أمام تجمعات سكنية، لكن ظل الكثير من العزب والنجوع على حالها، تعاني.

 

 

 

في مصر ٢٠ ألف كيلومتر ترع ومصارف وقنوات ري رئيسة، أغلبها نتاج المشروع العملاق الذي أنجزه محمد علي باشا الكبير، مؤسس مصر الحديثة، والبنية التحتية الحديثة للمجاري المائية، وما انعكس بالتبعية على نمو الرقعة الزراعية في مصر.

 

 

تلك البنية تآكلت من الإهمال، ومحاصرتها بالعمران، ومخلفاته، وتزايد أعداد السكان، فزاد التلوث، واستهلاك المياه، مع الحاجة الدائمة للتوسع في الرقعة الزراعية.

 

 

بصرف النظر عن أزمة سد إثيوبيا، ومخاطره على حصة مصر المائية، وهو تحدٍ لا شك خطير، لكن مع ثبات حصة مصر والحفاظ عليها ٥٥.٥ مليار متر مكعب سنويًا، فنحن نواجه خطرًا حقيقيًا يتمثل في تهديد الفقر المائي.

 

 

 

 

أوضح لك، عندما تولى محمد علي باشا حكم مصر عام ١٨٠٥م، كان عدد سكان مصر ٢.٥ مليون فقط، وخلال ٩٥ عامًا، تضاعف عدد سكان مصر، ليصل إلى حوالي ٣٧ مليونًا، وفق تعداد ١٩٧٦. بينما اليوم تضاعف عدد السكان ليتجاوز ١٠٠ مليون نسمة.

 

 

ماذا يعني ذلك؟ يعني أن عددنا في عهد الرئيس السادات كان ثلث عددنا اليوم، وحصة مصر ومواردها المائية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، هي ذاتها حصة المياه اليوم، أي أن نصيب الفرد اليوم ثلث نصيب الفرد في السبعينيات، وسيتقلص نصيب الفرد مع ثبات مواردنا المائية وزيادة السكان.

 

 

زيادة السكان تتطلب خططًا لتأمين الغذاء، بزيادة الرقعة الزراعية، ورفع قدراتها الإنتاجية، والتوسعات في استصلاح الأراضي تحتاج إلى مياه، بل الحفاظ على مساحتنا الحالية من الأراضي الخصبة في دلتا مصر وصعيدها في حاجة لتطوير أنظمة الري.

 

 

من هنا تأتي أهمية المشروع القومي لتأهيل وتبطين وتغطية البنية التحتية المائية، لتحقيق أهداف رئيسية، وهي: الحفاظ على مياه المستخدمة في الري كمًا ونوعا.

 

رفع كفاءة استخدام وحدة المياه المتاحة وتقليل الفواقد خلال شبكة الترع، حيث يقدر الفاقد بـ٥ مليارات متر مكعب سنويًا، معظمها من التسرب في القنوات، وتحسين حالة الري بنهايات الترع لتصل مياه الري إلى الزمامات المقررة، فضلًا على تقليل تكلفة التطهيرات ونزع الحشائش بالترع.

 

 

ومع تغطية مساحات كبيرة من الترع والمصارف، سيكون لدينا آلاف الكيلومترات من المساحات المخصصة للمنافع العامة، أعلى المصارف المائية المغطاة، يمكن استغلالها.

 

 

فذلك المشروع العملاق، بأبعاده الاقتصادية المائية، والبيئية والحضارية، والخدمية يدرك أهميته أبناء الريف، وآلاف المزارعين في نهايات الترع.

 

 

يكفي أن نعلم أنه يكلف الدولة تريليون جنيه، باكتمال مراحله، وهذا يتطلب خطة عميقة لاستثمار أفضل الترع والمجاري المائية، بعد إعادة تأهيلها وتبطينها وتغطيتها.

 

بالمناسبة.. "التبطين"، يقصد به إكساء قاع الترع وجوانبها، بمادة خاصة، أحجار أو خرسانة غير نفاذة للمياه، لمنع تسرب المياه، ومن ثم تقليل الفقد.

 

..وعن الأهمية للحديث بقية، إن شاء الله.

 

[email protected]

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز