وليد طوغان
شتاء سورى ساخن
سوريا على صفيح ساخن .
لا تزال الاختبارات قائمة.. والوضع بعيدًا عن حلول. دعك مما يقال.. ودعك مما يبديه كثير من الأطراف تفهمًا ووعودًا.. الأوضاع على الأرض عادة تختلف عما يقوله الساسة. والأمور من الناحية العملية، فى وضع مثل الوضع السورى تخضع إلى اعتبارات تأتى عادة من تحت الترابيزات، أو تدار تفاصيلها من الأبواب الخلفية.
فى سوريا ما زال الوضع معقدًا بامتياز. أو قل إن الوضع على صفيح ساخن بالمعنى والمفهوم. خلال الساعات الماضية حدث واحد من التوقعات.. اشتبكت قوات محسوبة على هيئة تحرير الشام المدعومة من تركيا، مع الأكراد فى مناطق الأكراد.
ردت القوات الكردية على الاشتباكات، وبدأت أرتال من القوات الأمريكية الدخول إلى حواف مدينة عين العرب.
( 1 )
تترقب مصر وتراقب الوضع فى سوريا. لدى مصر ثوابت لا تحيد عنها فيما يتعلق بالمسائل الإقليمية، وفيما يتعلق أيضًا بالتعاطى مع دول الجوار.
المسألة السورية على قدر هائل من الأهمية بالنسبة للقاهرة.. على مختلف الأصعدة. لذلك فالتحركات المصرية محسوبة بدقة.. والخطوات فى مصر مؤسسية، تسير فى اتجاهات ثوابت مصرية لا حياد عنها أو فيها.
ما قالته مصر فى السابق، هو نفسه ما تقوله فى الحاضر. لا تختلف الرؤية المصرية عن ماضٍ.. ولن تختلف لاحقًا عن الآن.
رسائل وزير الخارجية الدكتور بدر عبدالعاطى مع وزير الخارجية السورى مؤخرًا أكدت رؤية القاهرة .. بامتياز.
ترى مصر أن حلول المسألة السورية فى وحدة الأراضى السورية، وحفظ مؤسسات الدولة، وانفتاح الدولة السورية على الجميع أساس. ترفض مصر التدخلات الخارجية فى سوريا، بينما تقف القاهرة إلى جانب الشعب السورى قلبًا وقالبًا.
أكد عبدالعاطى على أمل مصر فى أن تتسم عملية الانتقال السياسى فى سوريا بالشمولية، عبر ملكية وطنية سورية خالصة دون إملاءات أو تدخلات خارجية.
لسوريا هوية عربية أصيلة، لذلك فإن أى مقاربة للمستقبل لا بد أن تكون جامعة لكل القوى الوطنية السورية، وعاكسة للتنوع المجتمعى والدينى والطائفى والعرقى داخل سوريا.
إفساح المجال لكل القوى الوطنية فى سوريا لأن يكون لها دور فى إدارة المرحلة الانتقالية على قدر عال من الأهمية.
أو هو الأهم.
( 2 )
الأخبار تقول إن الولايات المتحدة، تعمل على تأسيس قاعدة فى كوبانى.
تعتقد تركيا أن الأوضاع فى سوريا لن تستتب مع تواجد الأكراد فى مناطقهم، أو على الحدود التركية. تعمل تركيا على أن الحل فى تسليم الأكراد السلاح، والانضمام إلى الجيش السورى، الذي بدأ الجولانى فيما قال إنها إجراءات تأسيسه.
من جانبهم، يرى الأكراد أن تسليم السلاح والانضمام إلى الجيش السورى سهل ووارد وممكن، لكن بشروط.. أولًا أن يقطع الجولانى أذنه عن التحريض التركى، وثانيًا أن يعمل الجولانى فعلًا على احتواء جميع الفصائل المسلحة.. على أساس وطني.. لا يعلى من فصيل على آخر.. فى الطريق إلى دولة سورية تتسع للجميع.
من جانبها، ترى تركيا أن الأكراد هم الأكراد، وأنه لا يمكن السماح بتواجد كردى على الحدود مع تركيا، ولا سلاح مع الفصائل الكردية على مقربة من الأراضى التركية.
تساوى تركيا بين «قسد» الكردية، وبين حزب العمال الكردستانى. ينفي أكراد سوريا تلك المسـألة، ويرون أن سياساتهم مخالفة لسياسة حزب العمال.
تتبنى «قسد» رؤية علمانية ديمقراطية لسوريا، بينما يعمل حزب العمال الكردستانى منذ تأسيسه على حكم ذاتي داخل تركيا.
تدعم الولايات المتحدة «قسد»، فى حين تصنف تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى حزب العمال الكردستانى منظمة إرهابية.
النوايا التركية واضحة تجاه الأكراد فى سوريا، تميل فصائل الجولانى نحو وجهة نظر أنقرة. فى المقابل تقف الولايات المتحدة فى الناحية الأخرى. فهى تدعم الأكراد، وتدعم سلاح الأكراد.. وتدعم استمرار الأكراد فى التواجد بمناطقهم حتى التوصل إلى رؤية تحفظ حقوق الجميع فى هذا الشأن.
لذلك، فالوضع على هذا المحور.. ما زال ملتهبًا.. ولا بوادر إلى حلول سلمية حتى الآن.
من جانب آخر، فإن نوايا هيئة تحرير الشام فى مواضع كثيرة وفى مسائل أخرى لم تختبر بعد.
نوايا كثير من الفصائل المتحالفة مع هيئة تحرير الشام هى الأخرى، وللآن أيضًا، لم يختبرها الواقع.
الفصائل المتحالفة مع هيئة تحرير الشام هى مجموعات من الميليشيات بسلاح متطور وعلى قدر كبير من التقنيات الحديثة.
فكرة انسياب تلك الفصائل فى الجيش السورى الجديد، فكرة سقطت فى كثير من الوقائع المشابهة. تظل التجربة العراقية شاهدة على مدى صمود تلك الفكرة فى الاختبارات الحقيقية على الأرض.
( 3 )
ما زال الجولانى يصدر أفكارًا فيما يتعلق بمستقبل الحكم فى سوريا على طريقة صناع المحتوى على فيس بوك وتويتر.
أفلح إن صدق.
هو يقول إنه لا خوف على الأقليات، ولا على المغايرين للمسلمين فى الدين.
يبدو أن فريقًا من خبراء الدعاية يعملون فى مكاتب الجولانى فى دمشق على محاولة تغيير الانطباعات عن أن هيئة تحرير الشام ليست فرقًا متطرفة إسلاميًا، لكن بينما فريق العلاقات العامة يعمل، كان الجولانى كما ظهر على شاشات التليفزيون يرفض مصافحة النساء.
فى أدبيات التطرف الدينى، لا يجوز مصافحة الرجل للمرأة، وفى نفس الأدبيات، يبقى لغير المسلمين مساحات محدودة فى الحياة العامة وفى الحكم وفى الوظائف، وأحيانًا فى فرص التعليم المتساوية.
واقعة ضم الجولانى يده إلى صدره، حينما مدت وزيرة الخارجية الألمانية يدها للمصافحة لم يكن موقفًا محرجًا، بقدر ما كانت إشارة إلى أن الجولانى لا بد أنه سوف يصطحب معه فى إدارة سوريا، أيديولوجية سابقة وأفكارًا متطرفة، هى نفسها التي يحاول فريق علاقاته العامة طمسها واستبدالها بأخرى.. متسامحة وعصرية.
لا ينسى كثيرون داخل سوريا أن أيديولوجيات الجولانى السابقة هى التي كانت مسؤولة عن قتل كثير من غير المسلمين فى المناطق التي كانت تحت سيطرة هيئة تحرير الشام فى شمال سوريا قبل سقوط الأسد.
خشية أقليات سوريا «دروزًا ومسيحيين وعلويين» من المستقبل فى محلها حتى الآن.
التوجس لازم، لأن ضبابية المستقبل ظاهرة.
وفى الأفق كما يبدو مزيد من الغيوم.
يخشى الدروز والمسيحيون فى سوريا من تأثير الجماعات الإسلامية المتطرفة بعد سقوط الأسد.
يعانى الدروز بشكل خاص القلق من أية أعمال اندفاعية من الفصائل المتطرفة، إذ لا يمكن أن تغادر ذاكرتهم الهجوم الدامى الرهيب الذي شنته جماعة متطرفة مثل داعش على محافظة السويداء سنة 2018. المسيحيون يشعرون هم الآخرون بالقلق.أهم أسباب قلق المسيحيين السوريين هى احتمالات فرض قيود على حرياتهم فى العبادة، إضافة إلى خشيتهم من التغيرات الديموغرافية التي يمكن أن تحدث على الأرض فى سوريا.
يستدعى المسيحيون أوضاعهم فى إدلب التي كانت تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، أيضًا قبل سقوط الأسد.
منذ عام 2011 يعانى المسيحيون من حكم الميليشيات الإسلامية المتطرفة، التي كانت سببًا فى مغادرة الكثيرين من غير المسلمين مناطقهم وبلداتهم.
اليوم فإن تلك الميليشيات المتطرفة، جاءت على كرسى الحكم فى سوريا، وتقول إن الطريق مفتوح للجميع، وإن البلد بلد الجميع!
لا يصدق هذا كثيرون.