عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
محمد عبده ضد الجيش

خدعة الأديان ـ 2 ـ من الأفغانى إلى وثيقة الأخوة

محمد عبده ضد الجيش

 قبل الاحتلال البريطانى. كان قد مر على مصر أربعة قرون إلا قليل تحت الاحتلال العثمانى. وهى أحقر سنوات عاشتها مصر فى تاريخها. وصلت البلاد لحالة بائسة من التخلف والفقر والانحطاط. دخل البريطانيون مصر وهى أرض خاوية من العقول. لذا كان للدين دور مهم فى تماسك ذلك الشعب وصبره. وهو ما التفت إليه المستعمر البريطانى. فكانت السيطرة على العقول وعلى الموارد بالدين. كان اللاعبون جاهزين. وكان المسرح مستعدًا لأحقر نص مسرحى استمر قرنًا من الزمان.



كان الأفغانى قد قابل رجلًا فى سبعينيات القرن التاسع عشر. أصبح فيما بعد تلميذه النجيب. كان اسم التلميذ محمد عبده. جمع الأفغانى فى الأزهر من حوله جماعة المريدين، ولم يكن أقرب إليه منهم أكثر من محمد عبده. ولد عبده فى مصر فى عام 1849، وتربى على يد مجموعة من العلماء المسلمين الورعين. وعندما بلغ عبده العاشرة من عمره كان قد حفظ القرآن، وكان قادرًا على ترتيله على ذات النحو الذي يقوم به كبار المقرئين. انجذب عبده أيضا إلى الصوفية كما فعل الأفغانى.

وكانت تلك الصوفية تنبع من رؤيتهم للحياة الروحية. وتحدت الصوفية التي ازدهرت مع الإسلام العديد من المعتقدات الإسلامية الأصولية لصالح التوحد مع الله. مفهوم التأمل الداخلى من العصور الوسطى. ونتج عن هذه الحركة عدة (طرق) أو نحل أو جماعات كان بعضها مرتبطا بشدة بجماعات سرية والبعض الآخر حركات هرطقة جماهيرية تنشر فى أماكن وبقاع مختلفة. انخرط عبده فى أنشطة الأفغانى وأنشأ معا (العروة الوثقى). عندما تقابل الاثنان كان عبده فى الثانية والعشرين من عمره. كان عبده شابا يافعًا يمر بمرحلة حرجة فى حياته الروحية، ولاشك أن هذا جعله سهل التأثر وسهل السيطرة عليه. ولعدة سنوات كان له نفوذ غريب وعميق عليه. وكانت الرابطة بينهما قوية جدًا إلى الحد الذي انعكس فى إنشائها جماعة خاصة. وطوال فترة 8 سنوات تعاون الرجلان عن كثب وكونا تنظيما ليس فى مصر فقط بل انتشر إلى بقية المنطقة وكونا مجموعة من التابعين منهم الذين أسسوا جمعية (مصر الفتاة) فى مصر ومجموعة من المسيحيين الصوفيين من سوريا جذبتهم رسالة الأفغانى الرنانة المبهرة. كون الأفغانى ومحمد عبده تدريجيا مجموعة أكبر من التابعين المريدين حول الأزهر. وفى عام 1878 خرج رياض باشا رئيس الوزراء وحامى الأفغانى عن أسلوبه المعهود وعين عبده فى منصب رفيع كمدرس للتاريخ فى دار العلوم وهى مدرسة إسلامية حديثة النشأة وكان يدرس اللغة والأدب فى معهد آخر أيضًا. وعندما خبا نجم رياض باشا ورحل. غادر الأفغانى ومحمد عبده مصر. فقد رفعت الحماية. فى مصر كان القوميون فى الجيش يعززون نفوذهم ويكتسبون قوة دفع بقيادة أحمد عرابى وزير الحربية الذي قاد الانتفاضة ضد الحكم البريطانى. عارض عبده مقاومة الجيش للحكم البريطانى وتمسك بموقف وسط يشجب العنف ويحاول تقديم حل وسط بين الاتجاه القومى المنتشر فى الجيش وتعليمات لندن. كان محمد عبده يعارض ثورة الجيش رغم كونه أحد المؤثرين الأساسيين على الحركة الفكرية فى ذلك الوقت.

لقد كره عبده الثورة وعارض قادتها. ولم يتوقف الأفغانى وعبده عن التنظير الفكرى والدعوة إلى الإسلام وعندما طرد الأفغانى فى النهاية من مصر وجهت إليه وإلى عبده اتهامات بتكوين جمعية سرية تتألف من الشباب ذوى الميول العنيفة فى إشارة إلى الجماعة الماسونية التي قادها الأفغانى ما خيم على التنظيم شبه العسكرى الذي أسسه «الإخوان المسلمون» فى الثلاثينيات فيما بعد. عمد الأفغانى عندما غادر مصر عبده خليفته فيها وقال : «اترك فيكم الشيخ محمد عبده وهو يكفى مصر بعلمه الدينى ».

توجه الأفغانى بعد مغادرة مصر فى 1879 إلى الحجاز ثم إلى الهند وبعد قليل التقى الأفغانى محمد عبده وهاجرا إلى باريس حيث بدأ الرجلان فى تعاون أكبر بينهما. فى منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر فى باريس بنى الأفغانى وعبده شبكة سوف تستمر حتى بعد موتهما. فى عام 1884 بدأ الرجلان نشر مجلة أسبوعية تسمى «العروة الوثقى».

ورغم أن المجلة صدرت لمدة 18 أسبوعا فقط إلا أنه كان لها نفوذ كبير. وليس من الواضح كيف تم تمويل الصحيفة رغم أنها كان من المعروف أنها مدعومة سرًا من الحكومة الفرنسية التي توجه إليها الأفغانى بعد رفض عرضه الرسمي فى الهند ليكون عميلا بريطانيا. كانت العروة الوثقى لسان حال منظمة سرية تحمل نفس الاسم أسسها الأفغانى وتضم مسلمين من كل من الهند ومصر وشمال إفريقيا وسوريا الهدف منها توحيد المسلمين فى مكة والتي كان من بين أهدافها إقامة مؤسسة واحدة للخلافة تقود العالم الإسلامى ككل. لم يكن واضحا ما إذا كان الأفغانى وعبده يقومان بهذا الجهد بناء على رؤيتهما الذاتية فى ذلك الوقت أم أنهما يتعاونان مع لندن وباريس. غير أنه بعد ذلك مباشرة أوقفت الحكومة الفرنسية صدور العروة الوثقى وتوجه الأفغانى وعبده إلى لندن بحجة مناقشة أزمة السودان، حيث طرحا فكرة إقامة الجامعة الإسلامية على بريطانيا العظمى. وقد طرح الاقتراح وسط تمرد إسلامى قبلى ضد بريطانيا فى السودان بقيادة محمد أحمد صاحب الشعبية الكبيرة وهو شيخ سودانى ادعى أنه المهدى المنتظر، وأنه المخلص المنقذ وقاد ثورة إسلامية.

وهنا وقع شقاق بين اتجاهين للإسلاميين التابعين للمهدى بثورته الغاضبة، وكانت القومية عندهم تتخفى فى زى دينى. والتابعين للأفغانى فى نسخة من التشدد الإسلامى المؤيد لبريطانيا ويرى أن المهدى عدوا له. فقوة الدعوة الإسلامية لا يمكن أن تواجه إلا بحل إسلامى ولا يستطيع إلا المسلمون أن يقاتلوا ضد هذا المدعى ويقللون من شأنه ووضعه فى نصابه الحقيقى. بمعنى آخر اقترح الأفغانى مواجهة النيران بالنيران وأن الحديد يفل الحديد أى مواجهة الإسلام بالإسلام. لكن البريطانيين لم يفهموه على هذا النحو وكان رفضهم سببا لغضب الأفغانى رغم أن عبده ظل مخلصا للندن وتوجه الأفغانى إلى روسيا فيما توجه عبده إلى تونس فى شمال إفريقيا. ومن هناك توجه عبده إلى عدد من الدول الأخرى فعزز تنظيم الجماعة التي أسساها معا. كانت رسالة عبده والأفغانى على الأقل للجماهير هى الجامعة الإسلامية فى أنقى أشكالها. وانطلقا فى ذلك من أن رابطة الإسلام هى التي تربط بين مسلمى جميع الدول وتغيب أى روابط عرقية أو قومية وهو ما يؤكد عليه توحّد المسلمين خلال فترة من الزمن تحت راية الإمبراطورية الإسلامية. كما أن إنجازاتهم فى التعلم والفلسفة وكل العلوم لا تزال مفخرة للمسلمين. وعلى جميع المسلمين المساعدة فى الحفاظ على سلطة وقوة الإسلام والحكم الإسلامى على الأرض التي كانت تحت إمرتهم ذات يوم. والعلاج الوحيد لتلك الأمة هو العودة إلى الحكم بقواعد الدين وتطبيق شريعتهم كما كانت فى سيرتها الأولى أيام الخلافة الإسلامية. وهو ما يفرض أن تكون السلطة المطلقة للقرآن. لكن فى ثمانينيات القرن التاسع عشر كان هذا مفهوما جديدا وثوريا. فلم تسمع بلاد المسلمين عن تحدى تجديد مجتمعاتها وفق طرق الخلفاء الأوائل عليها. والرسالة التي تنطوى عليها الدعوة إلى التسليح ونشرت فى «العروة الوثقى» عن استعادة الحكم الإسلامى على جميع أنحاء الأرض التي كانت مسلمة يوما ما. تشبه تعاليم الجهاد بالاستيلاء على أجزاء من إسبانيا ووسط أوروبا والأراضى التي سقطت فى أيدى المسيحيين أو أى ديانات أخرى. وهو ما كان يخطط من خلاله (تى اى لورانس) وضباط المخابرات البريطانيين فى المكتب العربى فى القاهرة خلال الحرب العالمية الأولى عندما أخذت لندن باقتراح الأفغانى وعبده بتعبئة المسلمين من أجل الخلافة الإسلامية الجديدة. الخلافة التي يمكنها أن تقوض أركان الإمبراطورية التركية المتعثرة وتهدد روسيا القيصرية. راقب عبده الوضع عندما عاد إلى مصر متخفيا فى ثمانينيات القرن التاسع عشر فى الوقت الذي تفرق فيه القوميون المصريون على يد البريطانيين.

وفى أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر تحدث عبده على المكشوف مع اللورد كرومر والإدارة البريطانية فى مصر. وفى عام 1888 وبمساعدة كرومر عاد عبده علنا إلى مصر وتولى أول مناصبه الرسمية فى القاهرة. وتحدث عبده كما فعل الأفغانى بهدوء عن الفائدة الاجتماعية للدين. فمن الواضح وأحيانًا من الغامض أن عبده كان مفكرا حرا فى السر مثل أستاذه الأفغانى. وأقام عبده بعد عودته للقاهرة علاقة شراكة مع اللورد كرومر الذي كان يرمز إلى الامبريالية البريطانية فى مصر. وأصبح عبده وكرومر صديقين ومحل ثقة لكل منهما الآخر. صداقة بين إسلامى متشدد وأرستقراطى ساهم فى بناء الإمبراطورية البريطانية. وأصبح كفيلا لمحمد عبده وبتوصياته أصبح عبده رئيسا للجنة تنظيم الأزهر وأصبح رئيس تحرير الجريدة الرسمية المصرية وعين فى المجلس التشريعى المصري وأصبح من الأعضاء البارزين فيه حيث يستمع الجميع إلى رأيه بكل مناسبة باحترام شديد. وكان عبده رئيسا لمعظم لجان المجلس التشريعى. وفى عام 1899 وبعد عامين من وفاة الأفغانى أصبح عبده مفتى الديار المصرية وبناء على هذا المنصب يصبح عبده الشخصية الأولى التي لها حق تفسير قواعد الشريعة الإسلامية فى البلاد. فكان مصدر الفتوى الوحيد والنهائى. كما منحه هذا المنصب سلطة كبيرة فى ضوء ما منحه إياه من سلطة الإشراف على الأوقاف بما تتسم به من تنوع مصادرها المادية. ومع تزايد نفوذ عبده فى مصر كان هناك لاعب آخر يستعد للظهور لا يقل عن سابقيه ومعلميه خطورة. كان محمد رشيد رضا المرجع الأساسى لجماعة الإخوان المسلمين. كان الأب الروحى للشيطان.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز