وداعًا صاحب الرؤية المختلفة
داود عبد السيد.. رحيل مخرج حفر فلسفة السينما في الوجدان
رحل عن عالمنا المخرج الكبير داود عبد السيد، عن عمر ناهز 79 عامًا، بعد صراع مع أزمة صحية شديدة في وظائف الكلى، ألزمته الفراش في أيامه الأخيرة، ليغيب جسده، وتبقى أعماله شاهدة على رحلة سينمائية استثنائية صنعت وعي أجيال، ووسّعت أفق السينما المصرية والعربية.
وأعلنت الكاتبة الصحفية كريمة كمال، زوجة الراحل، نبأ الوفاة عبر حسابها الشخصي على موقع “فيسبوك”، قائلة في كلمات موجعة: "رحل اليوم أغلى ما عندي.. زوجي وحبيبي داود عبد السيد"، لتفتح هذه الكلمات باب الحزن في قلوب محبيه وتلامذته وجمهور السينما الراقية.
ـ بدايات تشكّل الوعي السينمائي
وُلد داود عبد السيد وفي داخله شغف خاص بالصورة والأسئلة الكبرى. تخرج في المعهد العالي للسينما عام 1967، وبدأ حياته العملية مساعدًا للإخراج، متعاونًا مع كبار مخرجي السينما المصرية، فعمل مع يوسف شاهين في فيلم «الأرض» عام 1970، ومع كمال الشيخ في «الرجل الذي فقد ظله» عام 1968، كما شارك في فيلم «أوهام الحب» لممدوح شكري.
ورغم أهمية هذه المرحلة، لم يخفِ داوود عبد السيد موقفه الصريح من مهنة مساعد الإخراج، إذ قال في أحد حواراته: "لم أحب مهنة المساعد، كنت تعسًا جدًا وزهقان أوي.. إنها تتطلب تركيزًا أفتقده، أنا لا أستطيع التركيز إلا فيما يهمني جدًا"، ليكشف هذا الاعتراف المبكر عن فنان لا يقبل إلا العمل الذي يعبر عن روحه كاملة.
- السينما التسجيلية
قاد شغفه بالمدينة والناس إلى السينما التسجيلية، فقدم عددًا من الأفلام التي انحازت للواقع والإنسان البسيط، من بينها: «وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم» 1976، «العمل في الحقل» 1979، «عن الناس والأنبياء والفنانين» 1980، وهي أعمال كشفت مبكرًا عن حس فلسفي وإنساني عميق، سيصير لاحقًا السمة الأبرز في أفلامه الروائية.
ـ مخرج الفلسفة
مع انتقاله إلى السينما الروائية، صنع داود عبد السيد عالمه الخاص، عالمًا لا يعتمد على الإجابات الجاهزة، بل على طرح الأسئلة، وتفكيك الواقع، والغوص في أعماق النفس البشرية.. قدّم أعمالًا أصبحت علامات فارقة في تاريخ السينما المصرية، من بينها: الصعاليك – البحث عن سيد مرزوق – الكيت كات– أرض الأحلام– أرض الخوف– مواطن ومخبر وحرامي– رسائل البحر– قدرات غير عادية – سارق الفرح.
تميّزت هذه الأعمال بعمقها الفلسفي، وجرأتها الفكرية، وابتعادها عن الاستسهال التجاري، حيث كان داود عبد السيد مؤمنًا بأن السينما فعل تفكير قبل أن تكون وسيلة إمتاع.
ـ إرث لا يغيب
لم يكن داود عبد السيد مجرد مخرج، بل مفكر سينمائي، كتب وأخرج عددًا من أفلامه، وترك بصمة لا تشبه سواه، حتى وهو ينتمي إلى المدرسة الواقعية، فقد قدّم واقعيته الخاصة، الممزوجة بالرمز، والأسطورة، والتأمل الوجودي.
برحيله، تفقد السينما المصرية أحد أهم صُنّاعها، وتفقد الثقافة العربية صوتًا بصريًا نادرًا، لكنه يظل حاضرًا بأفلامه، وأفكاره، وأسئلته المفتوحة، التي ستبقى تتردد طويلًا في وجدان المشاهد العربي.. فرحم الله داود عبد السيد… مخرجًا استثنائيًا، وإنسانًا آمن بأن السينما قادرة على تغيير طريقة رؤيتنا للعالم.



