

هاني لبيب
مصر أولا
وهم «إسرائيل الكبرى» أسلمة القضية الفلسطينية.. صراع الأصوليات مع شعب الله المحتار!
بكل تأكيد ودون افتراض أى شكل من أشكال حسن النية، لم يكن تصريح بنيامين نتنياهو «رئيس وزراء إسرائيل» فى مقابلة تليفزيونية على قناة i24 TV فى 12 أغسطس 2025.. مجرد زلة لسان أو تصريح انتخابى عابر فيما يخص رؤيته حول إسرائيل الكبرى. هذا التصريح هو بمثابة إعلان أيديولوجى توسعى يعكس جوهر المشروع الصهيونى العنصرى منذ بداياته. مشروع دولة إسرائيل، التي قامت بوعد بلفور وليس بوعد إلهى.. لا زالت تبحث عن شرعية وجودها فى نصوص توراتية من جانب، ومن خلال تمدد جغرافى لتحقيق وهم «من الفرات إلى العريش» من جانب آخر. تصريح نتنياهو جاء فى توقيت شديد الحساسية.. الحرب على قطاع غزة لا زالت مستمرة، ومدينة القدس تعيش حصارًا جيوسياسيًا وديموجرافيًا ودينيًا عنصريًا، والمجتمع الدولى متخاذل ومتراجع، بينما تتلاشى الهوية الفلسطينية لصالح روايات توراتية افتراضية.
أسطورة دينية..
ليس الخطر فى تصريحات نتنياهو التي وجدت صدى واسعًا، بل فى أن الفكرة لم تعد تطرح همسًا فى أروقة اليمين الدينى الإسرائيلى المتشدد، بل صارت رسالة معلنة من خلال خطابات علنية.. تصدر من أعلى سلطة تنفيذية فى إسرائيل، وهى مدعومة بتشريعات استيطانية وخطط أمنية يتم تنفيذها على أرض الواقع. ورغم ذلك، لا يزال رد الفعل العربى والدولى.. أثير الحلقات المفرغة التي يمكن اختصارها فى دائرة الإدانة الشكلية، فى الوقت نفسه الذي تتقدم فيه إسرائيل بخطوات متتالية محسوبة لفرض واقع سياسى وجغرافى جديد.
هنا تكمن خطورة فكرة «إسرائيل الكبرى».. هى ليست فقط أسطورة دينية، وإنما مشروع سياسى استعمارى متكامل بامتياز. وهو فى كل الأحوال.. يهدد الأمن القومى العربى، ويُعيد إنتاج صراع دينى وهمى بين «أصوليتين» يهودية وإسلامية، وفى استبعاد وتغييب تام للبعد المسيحى، بل وقبله للبعد الإنسانى العام عن محتوى القضية الفلسطينية.
مشروع توسعى..
تصريح نتنياهو يتضمن ما يؤكد على أن رؤية إسرائيل الكبرى.. ترتبط لديه بتنفيذ مهمة تاريخية وروحية. وهو ما أثار ردود فعل عالمية، أهمها الموقف المصري الذي طالب بتوضيح رسمي، وأكد على أن السلام الحقيقى لن يتحقق إلا بالعودة إلى حدود 1967 وحل الدولتين. كما أدان الأزهر الشريف تلك التصريحات، واعتبرها استفزازية وغير مقبولة، مؤكدًا أن فلسطين ليست ملكًا لوعود سياسية أو دينية.
ورغم كل الإدانات العالمية، فإن الخبرة التاريخية تُشير إلى أن إسرائيل لا تتراجع بخطاب للاستهلاك الإعلامى، بل تتقدم بالأفعال العملية. وأصبح أمام كل تصريح.. استيطان جديد، وكل وهم مرتكز على نص دينى وتفسيرات موجهة.. يقابله تهجير وتهويد على الأرض.
شعب الله المحتار، وليس المختار..
منذ ستينيات القرن الماضى، كان البابا شنودة الثالث واضحًا حين أعلن فى محاضرته الشهيرة «إسرائيل فى نظر المسيحية» بمقر نقابة الصحفيين فى 26 يونيو 1966 بأنه فى المسيحية.. شعب الله المختار هم جميع المؤمنين به.. وليس لله شعب معين. وهو بهذا التعقيب، حطم الوهم اليهودى القائل بأن هناك تفوقًا عرقيًا أو دينيًا افتراضيًا.. يمنح فئة بعينها حق الاستيلاء على أرض شعوب أخرى.
فكرة «شعب الله المختار» تم توظيفها واستخدمها تاريخيًا كسبيل للهيمنة، وهى على غرار النظريات العنصرية التي شهدها العالم فى سنوات القرن العشرين، من الاستعمار الأوروبى إلى النازية. الله –وفقًا للمسيحية والإسلام تحديدًا– ليس إلهًا قوميًا حصريًا أو عنصريًا، بل هو إله الإنسانية. وفى التوراة نفسها، ارتبط مفهوم «الاختيار» بشروط الطاعة والعدل، وليس بالامتياز الأبدى. ولذا عندما خان بنى إسرائيل الوصايا الإلهية، تم سبى مملكتهم على يد الآشوريين والبابليين، ودمر الرومان هيكلهم.
الواقع يؤكد.. أننا أمام فكرة سقطت تاريخيًا ودينيًا، غير أن الصهيونية الحديثة أعادت تدوير الفكرة سياسيًا لتصبح غطاء لتوسعها الاستعمارى.. الذي لا يختلف فى جوهره عن الاستعمار البريطانى والفرنسى والإيطالى.
تحريف مقصود..
يردد الإعلام العربى فكرة أن إسرائيل تسعى للتمدد من النيل إلى الفرات، وكأنها مقولة توراتية دينية صريحة. ولكن الحقيقة، كما يوضح الباحث د. بيشوى بولس فى كتابه الهام «هل مصر أرض إسرائيلية؟» الصادر عن المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى أن النصوص التوراتية لم تذكر النيل قط، بل تحديدًا (من نهر مصر إلى النهر الكبير الفرات). والمقصود بـ «نهر مصر» ليس نهر النيل، بل وادى العريش، وهو حد طبيعى.. كان يفصل حينذاك بين مصر وأرض كنعان.
يؤكد التاريخ أن مملكة بنى إسرائيل عندما كانت فى عنفوان قوتها، ولم تمتد إلى أرض سيناء، ولم تضم لها أيًا من الأراضى المصرية. ورغم ذلك، جاء المشروع الصهيونى العنصرى فى القرن التاسع عشر ليحول النصوص إلى برنامج سياسى، ويعيد رسم جغرافيا المنطقة تحت مظلة دينية. وهكذا صارت مقولة «من النيل إلى الفرات» أسطورة سياسية تم استخدامها لبث الرهبة فى العقلية العربية وتبرير التوسع الإسرائيلى.
ليست قضية دينية..
لا زلت أؤكد أن أحد أهم وأخطر الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبناها فى إدارة أزمة القضية الفلسطينية هو اختزال القدس فى بعدها الإسلامى فقط، رغم أن القدس ليست فقط المسجد الأقصى، بل هى أيضًا كنيسة القيامة، وأرض ميلاد المسيح وقيامته، وأول كنيسة فى العالم هى كنيسة أورشليم.
حينما روجنا للقدس كقضية إسلامية خالصة، سقطنا فى فخ الطائفية البغيضة، وأهملنا أن القدس قضية إنسانية ووطنية تخص المعتدلين من اليهود والمسيحيين والمسلمين على حد سواء. هذا الإهمال لتلك الفكرة.. منح الصهيونية ذريعة لتحويل الصراع إلى مواجهة بين أصوليتين.. إسلامية فى مقابل ومواجهة اليهودية، بدلاً من التعامل معها باعتبارها صراعًا إنسانيًا عالميًا من أجل الحرية والعدالة والمساواة.
حذرت كثيرًا من هذا الخطأ الوطني والإنسانى فى حق القدس.. مدينة الصلاة المقدسة لاتباع جميع الأديان. وحتى نحتفظ بحقنا الذي لا يجب أن يضيع بالتقادم، وعدم فرض أمر واقع جديد علينا.
المسيحية فى مواجهة الصهيونية
اتسم موقف الكنيسة الوطنية المصرية بوضوح تام فى التعامل مع القضية الفلسطينية. فنجد البابا شنودة الثالث يمنع زيارة المواطنين المسيحيين المصريين إلى القدس.. وهى تحت الاحتلال الإسرائيلى. كما رفض البابا تواضروس الثانى أى محاولة لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء. بينما أكد الأنبا إرميا «الأسقف العام ورئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى» أن ما يتردد حاليًا من عبارات ونبوات موجهة هى محاولة لتقديم الأمور كحقيقة ثابتة يصدقها البعض.. وما هى إلى فهم خاطئ للآيات والنبوات.
تلك المواقف المسيحية المصرية.. لا تمثل فقط موقفًا وطنيًا، بل هى رد.. يواجه مضمون الفكر الصهيونى، لأنه يواجه إسرائيل من خلال النصوص التوراتية واللاهوتية، ويكشف بوضوح شديد أن قيام الدولة اليهودية الحديثة.. لا يستند إلى أى مرجعية مقدسة لها فى العقيدة المسيحية، بل هى مشروع سياسى استعمارى.
فساد المشروع الصهيونى
الواضح أن إسرائيل اليوم.. لا تبحث عن السلام، بل تسعى بكل قوتها نحو فرض واقع استعمارى جديد.. يمثل مشروع «إسرائيل الكبرى» التي جاوزت مجرد كونها حلمًا يبحث عن مجرد مرجعية توراتية فقط، إلى سياسة عملية تقوم على تكريس التواجد فى الضفة الغربية عبر مشروعات المستوطنات التي تفصل أراضى الضفة عن بعضها البعض. وتفريغ قطاع غزة من سكانها عبر التدمير الشامل والتهجير القسرى والإبادة الجماعية. ومحاصرة الإقليم.. ضمن حدود جغرافية مفخخة بالتهديد الأمنى. وتوظيف جماعات الضغط «اللوبيهات» الغربية لتمرير الخطاب السياسى الإسرائيلى باعتباره يمس استقرار حالة الأمن العالمية.
«إسرائيل الكبرى» ليست وهمًا دينيًا، بل هى خطة استعمارية متكاملة.. تستهدف إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.
نهر النيل.. خارج الاختصاص..
«إسرائيل الكبرى» ليست وعدًا من الله، بل هى وعد من إرثر جيمس بلفور.. السياسى البريطانى الشهير. وهى تمثل وهمًا استعماريًا حديثًا يستند إلى تحريف النصوص وتزييف التاريخ. لم يكن نهر النيل.. يومًا ضمن حدود إسرائيل، ولم يكن اليهود أبدًا «شعب الله المختار» بالمعنى العنصرى الذي يروجونه الآن. كما أن القضية الفلسطينية ليست شأنًا إسلاميًا فقط، بل هى قضية إنسانية عالمية تخص الجميع من اليهود والمسيحيين والمسلمين معًا كما كتبت من قبل.
ولذلك، أرى أن الرد على مشروع «إسرائيل الكبرى» لا يجب أن يقتصر على الاستنكار فقط، بل ببناء مشروع دولة «فلسطين» الحقيقية.. من خلال الحرية والعدالة، وجمع شتات كل أبنائها لتعود كقضية إنسانية عالمية، وليست نزاعًا دينيًا طائفيًا وعنصريًا.
نقطة ومن أول السطر
تصريحات نتنياهو حول «إسرائيل الكبرى» ليست مجرد دعاية انتخابية، بل هى إعلان حرب ناعمة.. تستهدف إعادة تشكيل المنطقة والإقليم. وأى استهتار أمام تلك الفكرة العنصرية هو بمثابة.. خيانة صريحة للشعوب والإنسانية. يجب علينا أن نتوقف عن الخطابات الانفعالية والحنجورية والاكتفاء بالشجب والإدانات.
علينا أن نُعيد تعريف القضية الفلسطينية باعتبارها قضية إنسانية وطنية شاملة، وليست سجالًا دينيًا. وهو ما يحتم علينا تفعيل أدوات الضغط السياسى والاقتصادى والإنسانى.. من خلال تشكيل جماعة ضغط «لوبى» عربى حقيقى فعّال فى الغرب. كما آن الأوان، أن نعيد استدعاء البعد المسيحى والإنسانى للقضية الفلسطينية، حتى لا نترك المواجهة.. تستغل باعتبارها صراعًا وصدامًا بين أصوليتين متطرفتين، والتأكيد على أنها لحظة كاشفة بين الظلم الاستعمارى والعدالة الإنسانية.
نقلًا عن مجلة روزاليوسف