
يقدم مسرحيات تعيد ترتيب الحكاية..
«حكاية من الخيال».. في إصدار جديد للكاتب إبراهيم الحسيني عن هيئة الكتاب

محمد خضير
صدر حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسلة الإبداع المسرحي كتاب جديد للكاتب والناقد المسرحي إبراهيم الحسيني، يحمل عنوان “حكاية من الخيال.. ومسرحيات أخرى”.
ويضم الكتاب بين دفتيه ثلاث مسرحيات متكاملة شكلاً ومختلفة مضمونًا، لكنها تلتقي في نسيج فكري متماسك، يتسم بوعي عميق بالتحولات النفسية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها الإنسان المعاصر.
يشكل هذا الكتاب المسرحي العمل الثلاثين في مسيرة إبراهيم الحسيني، وهي مسيرة تمتد لأكثر من ربع قرن في الكتابة النقدية والإبداعية، ترك خلالها بصمة واضحة في مسار المسرح العربي، وقدم نصوصًا شكّلت علامات بارزة في تجديد الخطاب المسرحي شكلاً ومضمونًا.
المسرحية الأولى بين دفتي هذا الكتاب هي: "مناخوليا” وتدور أحداثها داخل مستشفى للأمراض النفسية، لكن النص يتجاوز حدود المكان ليطرح تساؤلات مريرة عن طبيعة “الجنون” في عالم أصبح العقل فيه عبئًا لا ميزة، الشخصيات التي تقطن هذا العالم المغلق ليست مجرد مرضى، بل تمثيلات مكثفة للواقع المهترئ خارج أسوار المستشفى، حيث تتحول السلطة الطبية إلى سلطة سياسية رمزية، ويتحول العلاج إلى قمع، والاختلاف في الرأي إلى جريمة.
يستخدم "الحسيني" هنا الكوميديا السوداء بأسلوب ذكي حيث تتماهى المأساة مع النكتة، وتتحول السخرية إلى أداة تشريح نفسي وفلسفي، اللغة في “مناخوليا” تقترب وتكثف لغة الحياة بشكل سلس وجمل حوارية سريعة ممتلئة بالرموز التي تحيلنا للواقع المعاش، لغة ذات نبرة عبثية تلامس الجوهر دون أن تقع في فخ المباشرة أو الشعاراتية.
واللافت أن الحسيني لا يقدم إجابات جاهزة بقدر ما يزرع الأسئلة في عقل المتلقي، ويدع له حرية إعادة بناء المشهد من الداخل.
والمسرحية الثانية داخل الكتاب هي “طواحين الهوا” تؤكد خصوصية فعل الكتابة لدى الحسيني، فهي تقدم عالمًا فانتازيًا ساخرًا، تلتقي فيه شخصيات كاريكاتيرية مع واقع عبثي مفرط في القسوة والرمز.
فأحداثها تدور داخل فندق مهجور يظهر كما لو كان أحد قلاع العصور الوسطى التي يسكنها الفرسان، تحيط به طواحين هواء خضراء، ويصل إليه شخصية هاربة من ماضيها لتجد نفسها محاصرة بشخصيات غرائبية: فتاة تبحث عن فارس وهمي، عصابة تحلم بسرقة جوهرة التاج، وساحرة عجوز تسيطر على من حولها بتعاويذها.
كل شخصية في النص تحمل دلالة رمزية، وتكشف عن نمط من أنماط حياة الإنسان المعاصر بين الخضوع، والسخرية، والتهرب، والتواطؤ.
“طواحين الهوا” ليست فقط نصًا مسرحيًا، بل تأمل درامي في معنى الهروب، والسلطة، وترصد الشكل المعاصر لفكرة الغواية التي يجسدها ذلك الشيطان الناعم، الذي لا يحتاج إلى نار وقرون، بل يكفيه تقديم الوعود بالثراء والسلطة مقابل بيع الروح.
ويرصد النص أحد تلك اللحظات المفصلية لبيع بعض ضحاياه أرواحهم عن طيب خاطر في مشهد يحمل كل معاني التحول الأخلاقي والوجودي.
في هذا النص يمزج الحسيني بين اللغة المحكية الساخرة والتكوين السريالي الفلسفي، مقدمًا نصًا متوترًا، عميقًا، ومفتوحًا على التأويل.
وهو بذلك يواصل مشروعه المسرحي الذي يجمع بين العمق الفكري والجرأة الفنية، ويعيد للمسرح العربي بريقه كمجال للتفكير لا للتلقين.
تُعد مسرحية “طواحين الهوا” نموذجًا حيًا على قدرة المسرح على طرح أسئلته الكبرى من خلال الحكاية الساخرة والرمز البسيط. وهي نص قابل للتقديم برؤى إخراجية متعددة.
أما المسرحية الثالثة، التي تحمل عنوان الكتاب؛ مسرحية “حكاية من الخيال” فهي على النقيض من المسرحيتين السابقتين، حيث تفتح الباب أمام العجائبية والفانتازيا، وتستخدم البنية الرمزية بأسلوب مغاير تبدو فيه المسرحية في ظاهرها وكأنها حكاية خرافية، لكن سرعان ما يتكشف أن “الخيال” فيها ليس سوى مرآة أكثر دقة للواقع. القصة تدور حول كيان غامض، يهيمن على حياة مجموعة من الأفراد، ويدّعي أنه يحميهم من خطر ما، دون أن يتضح ما هو هذا الخطر.
ومع تصاعد الأحداث، يتضح أن هذا الكيان الغامض ليس سوى استعارة للسلطة حين تنزع عنها قناعها، وتتحول إلى مؤسسة للإخضاع الفكري والمعنوي.
هنا يعود "الحسيني" إلى ثيماته المحببة: العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين الحرية والخوف، بين الحقيقة والوهم. لكنه يقدمها هذه المرة بلغة شعرية رائقة، تتداخل فيها الحوارات مع الصور الشعرية مكثفة، تلك التي تمنح النص طابعًا تأمليًا دون أن تخرجه من سياقه الدرامي.
والمسرحيات الثلاث تشي بمقدرة الكاتب على خلق عوالم مغلقة لكنها مشبعة بالدلالات، وهو ما يعكس درايته بصناعة العوالم الدرامية، وما يلزمها من اقتصاد في اللغة، وتوظيف ذكي للتقنيات المسرحية الحديثة. كذلك يظهر تأثره الواعي بتجارب عالمية متنوعة، لكنه لا يستنسخها، بل يعيد توطينها ببنية ولغة ذات خصوصية.
لا ينتمي "الحسيني" إلى مدرسة مسرحية واحدة، بل يدمج في نصوصه عناصر من الواقعية الجديدة، والعبث، والكوميديا السوداء، والفنتازيا الرمزية، في ما يشبه توليفة درامية شخصية باتت علامة خاصة داخل مشروعه المسرحي.
ويبدو أن ما يُثري هذه النصوص أيضًا هو السياق الذي تخرج منه، فالكاتب إبراهيم الحسيني ليس مجرد كاتب مسرحي، بل هو ناقد ومحلل وباحث، يشتغل بالمسرح كتابة وتنظيرًا وتدريسًا. حيث يشغل حاليًا منصب رئيس التحرير التنفيذي لجريدة “مسرحنا” الأسبوعية الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، ويدير ورشات للكتابة المسرحية والدرامية، وتُدرّس نصوصه في جامعات مصرية وعربية.
وقد صدر له حتى الآن أكثر من ثلاثين كتابًا في المسرح والنقد، منها مسرحيات أصبحت علامات في المسرح المصري الحديث من مثل: جنة الحشاشين، باب عشق، أيام إخناتون، أخبار أهرام جمهورية، مذكرات سنوحي المصري، ظل الحكايات، متحف الأعضاء البشرية، سجن فايف ستارز، وتغريبة آدم الليلكي، وكلها حصلت على جوائز وتم تقديمها على خشبات المسارح.
ولم يقتصر تأثير "الحسيني" على المشهد المحلي، بل امتد حضوره إلى الساحة الدولية، حيث تُرجمت نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية، وقدم عدد منها في مسارح عالمية من بينها برودواي في نيويورك، حيث عرضت مسرحيته “Comedy of Sorrows” بإخراج وفريق عمل أمريكي عدة مرات وفي ولايات مختلفة، أهمها ماتم تقديمه على مسارح برودواي بنيويورك، في العرض الذي أخرجته تريسي فرانسيس، ولعبت دور البطولة فيه نجلا، ابنة المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد.
كما ناقشت أعماله أطروحات أكاديمية لطلبة الماجستير والدكتوراه في جامعات عربية وأجنبية، ما يعكس الجدية الفكرية والعمق الجمالي الذي تتسم به نصوصه.
وقد نال "الحسيني" عبر مسيرته العديد من الجوائز المرموقة، منها جائزة ساويرس الثقافية لكبار الكتاب، جائزة كاتب العام من جامعة هارفارد، جائزة التميز من اتحاد كتاب مصر، جائزة المجلس الأعلى للثقافة لأفضل نص مسرحي، وجائزة مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي.
وهو بذلك يُعدّ واحدًا من القلائل الذين جمعوا بين الكتابة الإبداعية ذات الوعي الفني، والكتابة النقدية ذات الخلفية المعرفية، مما منحه قدرة خاصة على إنتاج نصوص مركّبة، تقرأ الواقع بعين ناقدة دون أن تقع في فخ التنظير الجاف.
يأتي كتاب “حكاية من الخيال ومسرحيات أخرى” إذًا ليضيف لبنة جديدة إلى مشروع مسرحي متكامل يسعى لإعادة المسرح إلى مكانته كمنصة للوعي، للمسائلة،وللتحريض الفكري.
كما إن ما يميز هذه النصوص الثلاث أنها لا تطرح خطابًا مغلقًا، بل تفتح أفقًا واسعًا للتأويل، وتحفّز القارئ أو المشاهد على المشاركة في إنتاج المعنى. وهنا بالضبط تكمن أهمية المسرح الحقيقي: في كونه مساحة للحوار المفتوح، لا مجرد استعراض للحكمة الجاهزة.
وبينما تستمر موجات المسرح التجاري في غزو الخشبة العربية.
يقدم الحسيني نموذجًا مضادًا، ينتمي إلى تقاليد المسرح الجاد دون أن يكون ثقيل الظل، ويخاطب العقل دون أن يغفل الجمال، ويكتب بلغته الخاصة التي تتجاوز اللحظة لتصير جزءًا من السياق المسرحي العربي المعاصر.
أخيرا “حكاية من الخيال ومسرحيات أخرى” ليس مجرد كتاب جديد، بل هو صوت من داخل المسرح، يصرخ بالأسئلة الكبرى، ويسخر من كل ما هو زائف، ويمنح الإنسان فسحة للتفكير في إنسانيته وسط عالم مضطرب. هو كتاب يستحق أن يُقرأ، ويُعرض، ويُناقش، وربما يُستعاد مرارًا لاكتشاف ما بين سطوره من إشارات لا تنتهي.
أخيرا جدير بالذكر أن المسرحيات الثلاث تم تقديمها قبلا عدة مرات على خشبات المسارح المصرية كان آخرها تقديم المخرجة خيال حسن لمسرحية مناخوليا على مسرح الهوسابير، وتقديم مسرحية حكاية من الخيال على مسرح الأقصر من إخراج عماد عبد العاطي، ومسرحية طواحين الهوا من إخراج شريف صلاح الدين.