عاجل
الأحد 15 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
عرض "سجن النسا" علامة أمل على جيل جديد.. ولكن! نقد تطبيقي

عرض "سجن النسا" علامة أمل على جيل جديد.. ولكن! نقد تطبيقي

يستعيد لنا مسرح السلام وفرقة المسرح الحديث ذكرى الكاتبة المصرية فتحية العسال، وهي واحدة من الكاتبات المصريات اللائي ساهمن في فتح مسارات الكتابة للمسرح لأجيال عديــــــــــــدة.



وقد توازنت فتحية العسال فلم تذهب إلى تبني صوت النسوية في كتاباتها، ولكنها عبرت عن المرأة المصرية ببساطة وحيوية تعكس إرادة قوية، وتميزت بفهم حقيقي لطبيعتها، لتبدو لنا وكأنها حقا صوت شعبي لسيدة مصرية كتبت عن النساء في مصــــــــر.

عاصرت فتحية العسال (1933 : 2014) صعود وهبوط المسرح المصري المعاصر ودوراته المتلاحقة، لكنها أدركت حقيقة راسخة وهي أن المسرح كان بيت الثقافة الوطنية ومدرسة الشعب عندما كان حقا وصدقا يستطيع أن يرفع راية كامل العدد في كل ليال عروضه التي لا تنسى.

وقد توفر للمسرح المصري في فترة تجربة العسال نقاد كبار، كانوا يعرفون أهميته ودوره ودورهم، وواحد من هؤلاء هو الناقد الكبير الراحل فؤاد دوارة، والذي كان بترفعه المهني وموضوعيته وإدراكه لأهمية دوره نجما كبيرا في الحياة الثقافية المصرية.

وينتظر الجمهور كتاباته كي يحدد اتجاهات ذهابه إلى المسرح، عندما كان الذهاب إلى المسرح عادة مصرية اجتماعية.

وقد كتب عن فتحية العسال بميزانه النقدي رفيع المستوى في يناير 1993، فقال:

"فتحية العسال من الكاتبات العربيات القليلات، بل النادرات، اللائى تجرأن على اقتحام عالم المسرح.

فالمسرح بطبيعته المقتصدة التي تكره التزيد والثرثرة ليس فنا نسائيا، وعدد الكاتبات اللائى نبغن فيه قليل جدا على مستوى العالم كلـــــــــه.

ومسرحية "سجن النسا" تقدم لنا نماذج عديدة من النساء المسحوقات المنتهكات إلى جوار عدد قليل من المناضلات، ومن خلال التصوير الفني الناضج، والمواقف الحية المتدفقة والحوار الحي الساخر، والتصادمات الساخنة المتنامية تتكشف لنا حقيقة الأوضاع المسيطرة على مجتمعنا والصراع الرئيسي الغالب عليه بين قوى الخير والتقدم والتحرر وقوى الشر التي تتاجر بكل شيء.

ومن الطبيعي أن تنحاز الكاتبة إلى جانب قوى الخير والتقدم.. مع اقترابها من مزيد من النضخ الفني ورحابة الفطرة الإنسانية، شأن كل عشاق الحياة وبنائيها".

وقد عدت مرة أخرى لنص فتحية العسال المنشور من الهيئة المصرية العامة للكتاب لأجد أن هذه البساطة التي تحمل عمقا إنسانيا في النص الأصلي تختلف بقدر كبير عن نص العرض الذي شاهدته على مسرح السلام بشارع القصر العيني.

إنه ليس نص فتحية العســـــال بل رؤيــــــة دراميـــــة جديـــــــدة للنص.

إنه منتصف الطريق، نص يبدأ من منتصف الطريق ويحذف المشاهد الأولى التي تجمع بين سلوى وليلى، وتدخلنا إلى حالة ما قبل الذهاب لسجن النساء بالقناطر، وهي مشاهد مهمة يبدو وكأنها تشير إلى عمل سياسي ما شاركت به سلوى وجاءت ليلى هاربة من عالم السيطرة الذكورية إليها، خوفا من بطش زوجها لكنها تذهب معها كمتهمة سياسية.

فهل يخشى صناع العرض تلك الإشارة الماضوية عن مناضلات مصريات كانت العسال واحدة منهن؟

إنه الجيل الحي الدال على حيوية الأنوثة المصرية، جيل حمل معنى الميلاد والحماية والرعاية والإبداع، أنهن السيدات الأمهات في مصر، ومنهن من بقى شاهدا على العصر مثل د. عواطف عبد الرحمن أستاذ الإعلام والأجيال في جامعة القاهرة.

وهن علامات مضيئة في تاريخ المرأة المصرية المعاصرة، إنهن في قيمة متساوية مع اللائى بقين في جانب الأمان الاجتماعي مثل د. عائشة راتب، إنهن جيل عبر عن حبه لمصر من داخل مؤسسات الدولة وخارجها، وإن تعددت المواقع والأدوار.

وهكذا فنسخة العرض الدرامية قد تخلصت من الشعر الدرامي بتخلصها من مزج السياسي بالاجتماعي في مزج مرهف، وهو ما جاء في نص فتحية العسال الأصلي المعبر عن أصالتها الخاصة، في قالب درامي منضبط وحبكة بسيطة.

وقد استبدل المخرج المشهد الأول الافتتاحي في النص الأصلي، بمشهد لفتاتين مع أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي، والذي أخذ بسلوى وصديقتها ليلى إلى اتهام بالخروج عن التقاليد الاجتماعية، إذ أنهما قد دخلا لمجموعة تمارس أعمالا منافية للآداب من دون قصد، ومنها إلى سجن النساء بالقناطر، وهما بريئتان إذ كانتا فقط تبحثان عن المال عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي!

مما أدخلنا كمشاهدين فجأة إلى عالم النساء والسجينات ضحايا المجتمع وصناع مشكلاته، لنرى حضورا كبيرا لسجينات يتوزعن بين جرائم القتل والآداب والمخدرات مع نزع المحتوى العميق القادم من الإطار الاجتماعي الفكري الحاضر بوضوح في النص الأصلي.

مما يجعلنا نشاهد مجموعة من النماذج المخيفة للنساء، والإشارة المعاصرة لعالم التطبيقات الإلكترونية ترفع صفة الماضى عن العرض لنصبح الآن وهنا.

حاول المخرج الموهوب الذي يمتلك أدوات العرض المسرحي المسموعة المرئية امتلاكاً احترافياً، وهو واحد من جيل جديد يبعث الأمل في مستقبل المسرح المصري إنه يوسف مراد منير، والذي حاول جاهدا أن يستخدم الغناء والشعر والموسيقي ورهافة حس ممثلاته البارعات حقا، كي يصنع كثيرا من التعاطف والرقة في النظر لسجينات "سجن النسا".

وهو يقف منهن موقف العطف والشفقة والفهم، وهو الموقف الطبيعي والصحيح للفنان عندما ينظر للبشر سواء كانوا صالحين أو مدانين، أقوياء أم ضعفاء.

ولأن يوسف كان متعاطفا مع الجميع إلا الخائنة التي تبيع المخدر الأبيض القاتل فهي حقا عدوة المجتمع والناس، فقد حافظ بوعي على الموقف الوجودي للنساء المدانات واللائي يدعين جميعن البراءة، والبراءة أصل الإنسانية فيبقى الحكي والاعتراف مشيرا بدفء إلى مجموعة الظروف الإنسانية الخاصة بكل شخصية، والتي دفعتها إلى لحظة السقوط الاجتماعي، لكن بهجة التعاطف الإنساني بين السجينات وبعضهن البعض داخل موقف السجن هو ما يدفعنا للتعاطف معهن أيضا.

لا يوجد في السجن زمن حقا، إذ إن السجن جمود للحركة في الزمان والمكان، لكن يوجد في السجن وحدة وتعاطف إنساني بين السجينات على اختلافهن في التعليم والبيئة الاجتماعية، وهو ما يدفعهن للاحتفال بفعل الولادة لواحدة منهن، إنها معجزة المرأة الدائمة التي لا تغيب عن فتحية العسال.

إنها وحدة الموقف الوجودي الذي يصنعه السجن، حيث يعيد إنتاج البشر، في تشاركية العطف الإنساني الجماعي، ووحدة المشاعر، وهو ما جاء حاضرا في النص الأصلي وفي عرض يوسف مراد منير، والذي ذهب عبر مصمم المناظر محمود صلاح إلى معالجة إبداعية للفراغ المسرحي، حيث يتم فتح حائط السجن الكبير أكثر من مرة في لحظات التعاطف الشديد مع أزمة السجينات، حتى يصورهن العرض كحمائم بيض توشك على الطيران، ولكن فجأة تكتشف أن السجن هو الذات وتاريخها وألم الاتهام والصراع الداخلي للشخصيات، وهي رؤية مشهدية إبداعية دعمتها إضاءة محمود الحسيني، والتي أسهمت في رسم لحظات تعبير مسرحي خاصة جدا في لحظات اعتراف الشخصيات، حيث لا يملك الإنسان إلا الحكي والتداعي الحر الطليق للتخفف من ضغط الشعور بالهزيمة، وقد ساهمت أزياء سارة شكري البيضاء جميعها في صنع وحدة اللون في السجن، وقد تعددت وفقا لطبيعة الشخصية من حيث الاتساع والضيق والثراء والبساطة حسب كل شخصية، وأخذت الملابس اتجاها واقعيا في شخصيات أخرى كالسجانة والسجان وسليم زوج ليلى المستدعى من الخيال، وهي صياغة واقعية بطابع الإجادة في التنفيذ.

أما أشعار أحمد الشريف وألحان الملحن الكبير محمد عزت فقد حملا صيغة شعبية مصرية وجملا لحنية أعادتنا إلى عالم الموسيقى المصرية في الغناء المنضبط، وهي تمنح العرض خصوصية العمق الشعبي المصري الدافئ خاصة مع مغامرة الغناء والموسيقى الحية في العرض، وهي مسألة أصبحت نادرة في المســـــرح المصــــــــري.

فرقة المسرح الحديث يقف خلفها انضباطا واضحا في إدارة المسرح، حيث الاحتراف يعود في إدارة صالة العرض، وانضباط عناصر التنفيذ، وانضباط الممثلين وهي مسألة تشير لحضور متميز للفنان محسن منصور مدير فرقة المسرح الحديث.

في العرض ممثلات مبدعات يملكن حضورا واضحا، فهن بنات مصر التي لا تكف عن إنتاج المواهب على الدوام، وهن:

هايدي عبد الخالق، هنادي عبد الخالق، شريهان الشاذلي، نشوى حسن، آية أبو زيد، راندا جمال، صافي فهمي، ليلة مجدي، دعاء الزيدي، ليلى مراد، جنى عطوة، إيريني مجدي، ولاء الجندي، والممثلة صاحبة الصوت العذب هبة سليمـــان.

هي بهجة المواهب المصرية الجديدة والتي أدارها أيضا مخرج مبدع قادم للمستقبل يوسف مراد منير، إنهم علامة أمل على مستقبل المسرح المصري.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز