

محمد بغدادى
هوانم مصطفى رحمة.. وأساطيره المبهجة
ما زالت المرأة البدينة أيقونة الفنان مصطفى رحمة، وبطلة لوحاته الأولى، فمنذ أن قرر العودة إلى أحضان الوطن بعد إبحاره في عالم الرسوم الكاريكاتيرية، ورسوم الأطفال لسنوات طويلة، عاد ليؤكد يوما بعد يوم تفوقه على نفسه، مستسلما لغواية نسائه البدينات، بعد أن تعرفت خطواته الأولى فى عالم التصوير على (هوانم زمان) بقاعة دروب عام 2013.
واصل الفنان مصطفى رحمة بعد ذلك تأكيد تفرده بأسلوب خاص بانتظام ودأب وإبهار عبر سبعة معارض متتالية: (نون) 2014 / (بلقيس) 2015 / (مزاج) 2017 / (جمهور الست) 2018 / (حنين) 2020 / (فانتازيا) 2022. وفى معرضه المقام حاليا بجاليري بيكاسو بالزمالك (2 ــ 28 فبراير 2025) يتألق الفنان مصطفى رحمة من جديد ليقدم لنا رؤية مغايرة، ولكنها لا تنفصل عن سياق مشروعه الفني الممتد، تحت عنوان (أساطير)، مستلهما من ترثنا الشعبي، عناصر مفرداته المثيرة للخيال وكائناته الساطعة لونا وحجما وتكوينا، ومن عوالم ألف ليلة وليلة الزاخرة بخيال خصب وسرد ساحر، حيث يؤكد رحمة دائما أنه مدين لحكايات ألف ليلة وليلة بالفضل الأول في تكوين وعيه الجمالي، مبتعدا عن الرسم بالمنظور الأكاديمي، وساعده في ذلك ــ كما يقول دائما ــ إنه بدأ خطواته في عالم التصوير بجوار فنانين كبار من جيل العمالقة إيهاب شاكر ومحيي الدين اللباد وسمير فؤاد.
تراكمت خبرات رحمة وتمكن من امتلاك أدواته عبر سنوات طويلة من التجارب الملهمة، قضاها في عالم البراءة والبهجة كرسام للأطفال، وصحفي ورسام كاريكاتير، فاستطاع أن ينقل الإحساس بالفرح لأي موضوع يقوم برسمه، تفردت تكويناته المحكمة البناء بالبساطة والدهشة، دون أن تنتابه الحيرة أو الرهبة أمام المساحات الواسعة التي تستهويه دائما، ذلك لأنه يرسم منذ أربعين عاما فى جريدة الاتحاد الإماراتية، وهو أحد المؤسسين الأوائل الذين ظهرت على أياديهم مجلة (ماجد) للأطفال، وما زال يوصل العطاء على صفحاتها، بعد أن ابتكر شخصيات ظلت تعيش حتى الآن منها: (كسلان جدا) و(خرفان وفهمان).
ومن هنا بدأت مرحلة اكتساب المهارات، وتراكم الخبرات، فالعمل الصحفى يمنح الفنان لياقة وسرعة، وحيوية وتدفق، قد لا تتاح لفنانين آخرين قد تحجب عنهم جدران مراسمهم اتصالهم اليومي بأحداث ووقائع متغيرة، فرسام الكاريكاتير يشتبك مع واقع متجدد سريع الإيقاع، فما بالك بفنان يكتنز ثقافة موسوعية مثل مصطفى رحمة، وكأنه مكتبة ضخمة تمشي على قدمين. وذلك ما جعله قادرا بمهارة وتمكن على اختزال كثير من التفاصيل في لوحاته، مكثفا رؤاه، مكتفيا بوضع إشارات يكمن خلفها وعي عميق، وثقافة موسوعية. و"كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة" كما يقول "النفَّرّي". حافظ مصطفى رحمة على أسلوبه وطوره، وأجاد وأبدع في خلق روافد ثرية تصب في مجراه الرئيسي، تؤكده وتثريه، وظل متمسكا بنسائه البدينات عبر كل المعارض السابقة، ولو لم يكن رحمة فنانا أصيلا يمتلك رؤية واعية لما يقدمه من أعمال؛ لما واصل استكمال مشروعه الفني في التصوير بهذا الألق، والتواصل، والتناغم المتجدد، وأحسب أن مشروعه الفني ــ بالمعاير المتعارف عليها ــ بدأه منذ (قليل)، فأول معرض يرتاد به عالم التصوير كان (الهوانم) عام 2013. ولكن جاء الحصاد مبهرا فى زمن قياسي، واستطاع بعد بضع سنوات أن يلفت الأنظار والانتباه والنقاد، ليحتل مكانا مرموقا وبارزا في المشهد الثقافي والتشكيلي. اقتحام عالم النساء البدينات مغامرة فنية صعبة، محفوفة بالمخاطر، تحتاج لجسارة وتمكن، فهي محاطة بالغموض، مثيرة للتساؤلات الملغزة، فالمرأة كائن جميل، تكمن فتنتها في تناسق مواطن الجمال في جسدها الممشوق، فجمال المرأة حاضر لا يغيب لدى الشاعر والروائي، المثال والمصور، وعندما قرر رحمة أن (النساء البدينات) هن بطلات أعماله الفنية، فقد اختار ذلك عن وعي يتكأ على رؤية موضوعية لا يخفيها رحمة عن أحد، ولا يحيطها بالغموض والتنظير، فهو يقول بوضوح: "رسمت عصرا كانت المرأة تملأ الدنيا فيه ضجيجا بجمالها وإن كان للاحتشام وجود". ويسجل رؤيته مخلدا المرأة البدينة التي استهوته في حفالات أم كلثوم الشهرية فيقول: "كان لجمهور الست أم كلثوم الأثر الكبير لتوجهي الفني، النساء منهن، بل قل الهوانم خاصة، فهن بطلات لوحاتى، تنظر إليهن فيأخذنك إلى زمان مضى ولن يعود". نساء مصطفى رحمة مترعات بالصحة والفتنة، السحر والغموض، وراحة البال. وكانت تلك معايير الجمال التي تستهوي الرجال في سنوات مضت، ورؤية الفنان مصطفى رحمة للمرأة، تقترب إلى حد بعيد من رأي هنري ماتيس (1869 ــ 1954) عندما تحدث عن النسوة الشرقيات: "كانت النساء الشرقيات حلما جميلا مفعما بالحياة، وكانت تنتابني رغبة شديدة لأن أعبر عن الأيام والليالي الساحرة التي قضيتها في المغرب، والنشوة التي أحسستها فى إيقاع الألوان، والشخوص المشمسة والإسراف اللوني في هذا الجو المشمس من الاسترخاء، والخدر الذي يغمر الناس والأشياء، بما فيها من توتر تصويري من تلاعب وتداخل العناصر المتعددة للمشهد، لقد تحكمت في هذا التوتر حتى تعطي اللوحة انطباعا بسعادة هادئة، بنوع من السكينة المحببة نتيجة توازن القوى التي اخترتها عن عمد". ويقول رحمة: "مهمة الفنان فقط يوحي لجمهوره عبر أعماله بالمشاعر وجماليات الحياة، بما يساعده أن يحس بالبهجة والحب والسعادة". فالفن "يساعدنا على الشعور بذواتنا، والتعرف على حقيقة مشاعرنا". استطاع رحمة في معرضه الأخير بقاعة بيكاسو بالزمالك أن يبهرنا بعدد من الأعمال الفنية الجديدة، فقد اتسعت الرؤى، وأخذنا لعالمه الهادئ المريح، بألوانه الصريحة الساطعة، وتكويناته المحكمة البناء المتوازنة، وبرع ــ كما عهدناه دائما ــ في ضبط إيقاع خطوطه البسيطة، لتحقيق حالة متناغمة بين الكتلة والفراغ، والظل والنور، والخط واللون، واستطاع أن يوظف ألوانه الصريحة في تأكيد هوية أسلوبه المتميز، وكان لحضور مساحاته اللونية الصريحة دور محبب للنفس باعثا للبهجة، مثيرا للخيال، محققا لأحكام البناء، وتوازن الكتل، وهيئنا اللون الذهبى للدخول في أجواء الحكايات الشعبية وفنتازيا ألف ليلة وليلة الساحرة. وما بين الأساطير والمخيال الشعبي، تنقل بنا الفنان مصطفى رحمة برشاقة المبدع المتمكن بين التعبيرية والسريالية في براعة وتمكن. ورغم أن مصطفى رحمة لا ينفي تأثره بالفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو (1932 ــ 2023) في "إصراره على رسم نساء بدينات لا تعوقهن السمنة عن الانخراط في الاحتفال بالحياة". فإنه نجح عبر مشواره الفني، ومن خلال معرضه الأخير (أساطير) أن يفلت تماما من عالم بوتيرو، ويصيغ مشروعه مبتعدا تماما عنه، ليصبح له بصمة خاصة واضحة لا تخطئها العين، مؤكدا من جديد أنه يمتلك رؤية فنية تخصه هو فقط، وأن تجربته موشاة بثقافة مستنيرة، ووعي عميق بأدوات إبداعه وتفرده.