الحسيني عبدالله
مصر والقضية "القدس عربية"
٢٠ يناير الماضي وصول الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب إلى البيت الأبيض، حَتَّت في الآفاق النوايا الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، فكان التصريح المثير للجدل حول استيعاب جمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية المزيد من الفلسطينيين للقضاء على حق العودة إلى قطاع غزة والضفة الغربية. ليأتي الرد على هذا الهراء من القيادة المصرية ممثلة في فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، وببيان قوي من وزارة الخارجية المصرية للتأكيد على أن القضية لن تموت، ولن يُترك الفلسطينيون من حقوقهم المشروعة وأولها حق العودة، وأن القضية لن تحل إلا بحقوق كاملة وحلول عادلة، أولها حق إقامة دولة فلسطينية. وكل ما دون ذلك كلام لا طائل منه حتى لو قاله رئيس أمريكا. وعلى كل متابع للقضية الفلسطينية أن يعرف عددًا من الحقائق حول الصراع في منطقة الشرق الأوسط، خاصة بعد التصريحات الأخيرة لترامب، الذي شغل وسيشغل العالم كثيرًا في ضوء عدد من الملفات، سيكون أبرزها عودة ملف القدس مرة أخرى بعدما اعترف الرئيس ترامب في عام 2017 بأنها عاصمة إسرائيل. وهو ما يعني أن ملف الصراع الأطول في تاريخ العصر الحديث مستمر بسبب القرارات الظالمة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، التي تكيل دائمًا بمكيال واحد وهو الوقوف دائمًا وأبدًا بجانب الكيان الصهيوني من خلال حق الفيتو ضد أي قرارات تؤثر على أمن إسرائيل. ولعل ما فعله الرئيس ترامب من عملية تأصيل فكرة أن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل بنقل سفارة الولايات المتحدة إلى مدينة القدس بوصفها عاصمة إسرائيل، وبعدها إعلان صفقة القرن للتأكيد على يهودية المدينة المقدسة، وهو ما سيجعل الصراع والنزاع حول مدينة القدس المحتلة مستمرا ليصبح أطوال الصراعات العالمية في العصر الحديث، فالشعب الفلسطيني يعتبرها عاصمة لدولتهم، فيما يعتبرها اليهود العاصمة الأبدية لدولة الاحتلال. والمدينة المتنازع عليها مقدسة عند المسلمين واليهود والمسيحيين على حد سواء. فماذا يوجد في القدس ولمَ كل هذا التصارع عليها؟ فما الذي يمنح هذه المدينة المقدسة أهميتها تلك؟ وكيف يدافع كل جانب عن أحقيته فيها؟ تأتي أهمية المدينة لأصحاب الديانات الثلاث، حيث توجد في القدس في بضع مئات من الأمتار بين جدران البلدة القديمة مواقع مقدسة لمليارات المؤمنين في العالم. فبالنسبة للمسلمين، القدس ذات مكانة دينية كبيرة بسبب وجود الحرم القدسي الذي يضم المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين لدى المسلمين فيها. في المقابل، يعتبر اليهود حائط المبكى أو الحائط الغربي (البراق) الواقع أسفل باحة حرم المسجد الأقصى آخر بقايا المعبد اليهودي (الهيكل)والذي دمره الرومان في العام 70، وهو أقدس الأماكن لديهم. وعند المسيحيين، هناك كنيسة القيامة التي تعد من أقدس المواقع المسيحية وأكثرها أهمية في العالم. وفيها ضريح يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر، وبني على الموقع الذي يعتقد أنه قبر المسيح، بحسب الإنجيل. ويزعم اليهود أن القدس عاصمتهم التاريخية منذ 3000 عام، لأسباب دينية وسياسية. وبحسب روايات التراث اليهودي، فإن القدس بالإضافة إلى وجود الهيكل فيها الذي هدم مرتين، كانت عاصمة مملكة إسرائيل التاريخية التي حكمها الملك داود في القرن العاشر قبل المسيح، وبعدها لمملكة الحشمونيين اليهودية. وإثر قيام إسرائيل في 1948، كانت القدس الغربية عاصمتها بينما بقي الجزء الشرقي تحت سيطرة الأردن. واحتلت الدولة العبرية الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية عقب حرب الأيام الستة في 1967. كما ضمت إسرائيل القدس في1980 وأعلنتها عاصمتها الأبدية والموحدة، في خطوة لم يعترف بها المجتمع الدولي وأيضا الولايات المتحدة. حيث لا يزال المجتمع الدولي يعتبر القدس الشرقية مدينة محتلة. للقدس معنى قومي ووطني مستمر، وبالنسبة للفلسطينيين الذين يحلمون بالاستقلال فإن الدفاع عن القدس والأقصى هو ما يحشد صفوفهم. والحقيقة الظاهرة أن الحرم القدسي من الأسباب الرئيسية للتوتر المستمر. ولا يزال لأسباب تاريخية يخضع لإشراف الأردن، ولكن قوات الأمن الإسرائيلية تسيطر على كل مداخله. وفي الحرم القدسي، المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين لدى المسلمين. لكن السلطات الإسرائيلية تسمح برغم ذلك لليهود بزيارة باحة المسجد في أوقات محددة وتحت رقابة صارمة، لكن دون السماح لهم بالصلاة هناك. في المقابل، يستغل يهود متطرفون سماح الشرطة الإسرائيلية بدخول السياح الأجانب لزيارة الأقصى عبر باب المغاربة الخاضع لسيطرتها، لاقتحام المسجد الأقصى وممارسة الشعائر الدينية اليهودية فيه، حتى أنهم يجاهرون بأنهم ينوون إقامة الهيكل مكانه. وتزيد تلك الزيارات والنوايا المعلنة والصريحة من مخاوف الفلسطينيين من قيام إسرائيل بتقسيم المسجد الأقصى بالزمان والمكان بين اليهود والفلسطينيين، في ساعات الصباح لليهود وباقي اليوم للفلسطينيين. وهذا الوضع الموروث من حرب 1967 يجيز للمسلمين الوصول إلى المسجد الأقصى في كل ساعة من ساعات النهار والليل، ولليهود دخوله في بعض الساعات، لكنه لا يجيز لهم الصلاة هناك. وتكرر تل أبيب دوما أنها ترغب بالإبقاء على "الوضع القائم" في المسجد. وعن هذا الصراع والتدخل بين الدين والسياسة يقول المؤرخ اليهودي والأستاذ في جامعة تل أبيب شلومو زنذ، مؤلف كتاب “اختراع الشعب اليهودي”، و“اختراع أرض إسرائيل”، و“كيف لم أعد يهوديا" بعد تحول إسرائيل نحو اليمين الديني الذي يقوده الحاخامات والأحزاب الدينية المتطرفة. وبهذا يتم تديين السياسة وإضفاء طابع القداسة عليها (بالدين)، وتسييس الدين بإضافة طابع الدناسة عليه (بالسياسة). لقد نشأت إسرائيل التي ظلت “مزعومة” عربياً حتى العام 1967، ثم إسرائيل التي ترفض الانسحاب إلى خطوط الخامس (يونيو) 1967 بعدها، ثم إسرائيل التي ترفض السلام بعد العام 1973، ثم إسرائيل المعترف بها بالمبادرة العربية، على يد اليهود العَلْمانيين الذين ظلوا يفصلون بين السياسة والدين، وإن انطلقوا صهيونياً منه (أرض الميعاد). ربما كان لبروز الأصولية الإسلامية في العقود الماضية والإرهاب باسمها تأثير ما في بروز الأصوليات الدينية في العالم. فقبل هذا البروز كان المشهد السياسي في بقية العالم -إجمالاً- عَلمانياً، أي يفصل بين الدين والسياسة، ويحمي حرية التعبير للناس كافة بالقانون والممارسة. ولعله لهذا وجد المسلمون المهاجرون واللاجئون الفارون من بلادهم الدكتاتورية، أمناً جسدياً واجتماعياً وسياسياً ودينياً في أوروبا وأميركا، فأقاموا المساجد والمراكز الإسلامية في كل عاصمة ومدينة، بحرية تامة ورحابة صدر عز نظيرهما في تاريخهم، إلى أن صارت “القاعدة” و”داعش” يهددان أمنهم وبقاءهم هناك بتفجيراتهما الإرهابية في الغرب. ولعل اغتيال إمام المسجد ومساعده في نيويورك والحكم على أنجم شودري في لندن، هما بداية المسار العكسي لوجود المسلمين هناك. وفي إسرائيل صارت الفتاوى الدينية اليهودية تسمح لإسرائيل بإصدار أشنع وأبشع القوانين العنصرية ضد بقايا الشعب الفلسطيني وإضفاء القداسة عليها. تستخدم إسرائيل، منذ نشأتها إلى اليوم، استراتيجية خاصة ضد الفلسطينيين المسيحيين لـ”تطفيشهم” في الآفاق، في سعي محموم منها لجعل المعركة/ الحرب في المنطقة تبدو وكأنها بين الإسلام والمسيحية، وأن إسرائيل هي القاعدة الأمامية في هذه الحرب، التي يجب دعمها بها لتفوز. لقد كانت نسبة الفلسطينيين المسيحيين في فلسطين حتى العام 1948 نحو 20% من السكان أو أكثر، ولكنهم اليوم لا يتجاوزن 2%. وبهذا الدمج بين الدين والسياسة في إسرائيل؛ أي بتدنيس الدين وتقديس السياسة، لا يجرؤ على معارضتها أحد. هل تستطيع المعارضة في أي بلد تسيطر عليه هذه المعادلة التصدي لسياسته العنصرية واللانسانية؟ وأخيرًا.. تهدف الأديان في الأصل إلى سعادة الإنسان، وحل مشكلة المعرفة، وإضافة المعنى للحياة الإنسانية. ولكنها بالسياسة تصبح مصدر شقائه.. وهنا ستكتب بداية نهاية إسرائيل.