مودي حكيم
"اقطع الاتصال لإعادة التواصل"
لندن: من مودي حكيم
عام 1990 كانت شبكة الإنترنت في مهدها، وكانت تصنف البلدان وفقا لما تتيحه البلدان للإنسان من حريات وفرص لعيش الحياة التي ينشدها، وكان هذا الطرح انطلاقة لنقاش جديد حول معنى الحياة الجيدة، وسبل تحقيقها. وبعد ثلاثين عاماً، تغير الكثير، ولكن الأمل والإمكانية لم يتغيّرا، فمن لديه القدرة على إيجاد حقبة جديدة لا تنقصه القدرة على اختيار التغيير، وجيلنا من رواد هذه الحقبة.
استمتعنا بمجلس العائلة، كبيرها يؤم الصلاة، وأحدهم يلقي قصيدة شعر، وآخر يروي طرفة، خبرات تتطاير من كل صوب، لقاءات تكفي لتعلم كل شيء عن الحياة. تتكاتف العائلة في وجه كل شيء، ولا تتفرق أبدا. سرق الموبايل أحلى الأوقات.. الكل الكبير والصغير يبحلقون فيه بالساعات.. ويضيع العمر .. يا ولدي.. وينحسر الاهتمام فيه.
ومعه تراجعت هيبة الآباء والأمهات وسلطاتهم وقدرتهم على ردع سلوكيات أبنائهم السلبية، وشعورهم المتواصل بالخوف من التصدي لرغبات الطفل، مفضلين التساهل في تربية الأطفال، متجنبين كلمة "لا" وثبت أن سياسة الإذعان لرغبة الطفل قد تكون له تبعات وخيمة، تدمر العلاقة بين الطرفين، وغالباً ما يخشى الآباء والأمهات على سلامة أطفالهم الجسدية عندما يغيبون عن أعينهم، لكن قلة منهم يدركون الخطر المحدق بهؤلاء الأطفال وهم أمام أعينهم، من خطر استخدام الهواتف الذكية.
إحدى أكبر الأكاديميات المدرسية في إنجلترا The Ormiston Trust تعمل على خطة تقضي بمنع تدريجي للتلاميذ من استخدام هواتفهم الذكية أثناء الدوام. وقد شملت هذه الخطة حوالي 35 ألف طالب وطالبة، في 42 مدرسة حكومية تابعة لها في جميع أنحاء البلاد، بعد أن قامت 8 مدارس ثانوية أخرى باتباع هذه الخطة من قبل.
وتمنع الخطة استخدام الهواتف الذكية أثناء الدوام بالتعاون مع آباء وأمهات الطلاب. كما منعت مؤسسة Lift School وهي مؤسسة متعددة الأكاديميات تضم 57 مدرسة ابتدائية وثانوية ومدارس خاصة في إنجلترا من استخدام الهواتف كي يتمكنوا من التركيز على دراستهم.
وكانت لجنة التعليم البريطانية قد نشرت في 25 مايو الماضي، تقريرها عن المدة التي يقضيها الأطفال في بريطانيا أمام شاشات الهواتف، وكيف يؤثر ذلك على دراستهم وحياتهم، وبينت فيه أن 79 في المئة من الأطفال دون سن الثامنة عشرة وجدوا أنفسهم أمام مواد إباحية عنيفة أثناء تصفحهم لبعض المواقع من خلال الهواتف الذكية، كما أن متوسط عمر الأطفال الذين شاهدوا محتوى إباحي لأول مرة لا يتجاوز 13 عاماً، وقد تعرض نحو 81 في المئة من الفتيات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 7 أعوام و21 عاماً لشكل من أشكال التهديد أو الإزعاج، وارتفعت الجرائم الجنسية المرتكبة ضد الأطفال عبر الإنترنت بنسبة 400 في المئة منذ عام 2013، كما كشف التقرير أن ما يقرب من 25 في المئة من الأطفال والشباب دون سن الـ16 عاماً، استخدموا هواتفهم بطريقة أقرب إلى الإدمان السلوكي. وطالبت اللجنة، الحكومة البريطانية، باتخاذ خطوات جذرية ومطالبة الأشخاص بإثبات أعمارهم في محاولة لمنع الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 16 عاماً من اقتناء الهواتف الذكية.
يستحق الانتباه نهاية
إحدى الأمهات العربيات وهي أم لطفلين وتعيش في لندن، تحكي عن معاناتها مع تأثير الهواتف الذكية على سلوك طفليها، فهي تعيش تحديات كبيرة وتشعر بالحرج الشديد وقلة الحيلة بسبب سلوك ابنتها، البالغة من العمر 9 سنوات، مع مدرسيها وزملائها في المدرسة. ففي كل مرة تخبر فيها معلماتها عن سلوك ابنتها المسيء للأطفال الآخرين والمدرسين، تشعر وكأنهم يشيرون إليّ بأصابع الاتهام قائلين إنها لم ترب ابنتها تربية حسنة أو أنها من أفسدت سلوكها". فهي تربي ابنتها بطريقة عصرية كما تصف، و"تتشاور مع معلمات ابنتها، وتدرس سلوكها وتتبع النصائح المقدمة لها من قبل المختصين في الرعاية الاجتماعية، فتعاقبها حيناً عن طريق حرمانها من بعض الأشياء المحببة لديها، مثل مشاهدة التليفزيون، أو تكافئها حيناً آخر إذا أبلت بلاء حسناً". وتتنهد باستياء من تصرفات الابنة في المدرسة، بطريقة عنيفة، وحين الغضب قد تدفع بزملائها وحتى معلماتها وتشتمهم بعبارات غير لائقة، أمور لا تحدث عندما تكون في المنزل، فقد وضعت قواعد لا يمكنها خرقها إلا ما ندر، ولكن في المدرسة فرصة لممارسة الأفعال غير اللائقة كأن تشتم معلمتها بعبارات غير لائقة لم نستخدمها في المنزل، يبدو أنها التقطتها من صناع المحتوى على اليوتيوب، وبعد تلقيها عشرات الشكاوى بشأن سلوك ابنتها العنيف، قررت الأم سحب الأجهزة الإلكترونية وقطع اتصال ابنتها بالمواقع كلها وخاصة يوتيوب. عاملةً بقاعدة "اقطع الاتصال لإعادة التواصل"، وبهذا أبعدتها عن الأجهزة الإلكترونية واستبدلتها بنشاطات أخرى تتواصل من خلالها مع أطفال حقيقيين تلعب معهم وتتحرك بدلاً من الجلوس طويلاً أمام الشاشة، ولم تعد تشاهد صناع المحتوى والشتائم التي يستخدمونها ولا السلوك السيئ الذي اعتادت على تقليدهم فيه.
إنها واحدة من أمهات كثيرات لديهن اهتمام بطرق تربية سليمة، لكن، بالمقابل، هناك عدد من الآباء الذين لا يحسبون عدد الساعات التي يقضي فيها أطفالهم أمام شاشات الهواتف الذكية، لا يعون تماماً مخاطر الهواتف الذكية ومحتوى مواقع التواصل الاجتماعي على أبنائهم. أمهات لا تراقب هواتف ابنيها اللذين يبلغان من العمر 15 و16 عاماً، أو طفليها اللذين يبلغان من العمر 6 و3 سنوات، مخطئات في عدم مراقبة ما يشاهده الأبناء مما يخالف الأخلاقيات، والأفكار السلبية الخاطئة حول العلاقات الجنسية مما يشاهدونه من مقاطع إباحية عنيفة. "المشكلة أنهن لا يستطعن فصل أبنائهن عن التكنولوجيا، كإحدى ضرورات العصر، ولا يردن أن يكونوا أميين تكنولوجياً، فالأطفال الأصغر سناً، لديهم معرفة ودراية بتطبيقات الهواتف الذكية واستخداماتها وكأنهن سيدفعن بأبنائهم نحو الجهل بدلاً من العلم إذا منعت عنهم هواتفهم الذكية".
الرأي المعارض يري أن التقنيات الرقمية تحمل إمكانات تعليمية هائلة للأطفال، ولا ينبغي اعتبار اتصال الأطفال بالهواتف الذكية أمراً سيئاً، بل يمكنها دعمهم في مهارات القراءة والكتابة الرقمية لدى الأطفال بقوة من خلال المشاركة في مشاريع صناعة الأفلام وتحريرها على سبيل المثال لا الحصر، وبالتالي ثمة حاجة إلى التنظيم ومحاولة منع الأطفال من الوصول إلى المحتوى الإباحي العنيف، لكن، قد لا يكون من الممكن دائماً منع التعرض له، لذلك، هناك حاجة لمزيد من النقاشات النقدية حول هذا النوع من المحتوى الذي يجب وضعه في المقدمة في المدارس وفي وسائل الإعلام الرئيسية وداخل العائلات".
وفي المملكة المتحدة، يبدو أن الحملات الشعبية في المملكة المتحدة مثل "طفولة خالية من الهواتف الذكية" و"الهواتف الذكية المؤجلة" تكتسب زخماً، إذ يضغط الآباء على المدارس لتشديد سياساتها حول استخدام الأجهزة الالكترونية مثل التابليت وآيباد والهواتف الذكية. ومن المفترض أن يلعب قانون السلامة على الإنترنت لعام 2023 دوراً في الحفاظ على سلامة الأطفال من الأضرار التي قد تلحق بهم من استخدامهم للإنترنت، لكن تنفيذ القانون لن يكتمل إلا بحلول عام 2026.
من الضروري إجراء حوار واعٍ مع الأبناء حول الموضوعات التي يتابعونها وتبيان مخاطر أو سلبيات بعض الموضوعات و تحديد معايير و شروط التفاعل مع الآخر عبر الشاشة.
كما أنه من المفيد مراقبة الأبناء وعدم تركهم أحراراً بشكل مطلق وفردي، لكن بدون أن نشعرهم بعدم الثقة والتدخل المباشر.
كما يجب عدم ترك الأبناء في علاقة جانبية مغلقة بينهم وبين أجهزتهم الإلكترونية في عالم آخر، وتنبيههم بشأن المحتوى الذي يحمل طابع العنف والسلبية، ومن ثم مشاركتهم في اتخاذ قرار حظر محتوى كهذا مع تشجيعهم وتوجيههم نحو أنشطة جماعية متنوعة مع الأصدقاء والأقران من شأنها تنمية الذكاء الاجتماعي والعاطفي باستثمار قدراتهم في المكان المناسب.