د. خالد غريب
الزراعة فى أرض كمت
مصر بلد عظيم عبر عنها أهلها بالعديد من الصفات والجميل أن أغلبها اعتمد على فكرة الزراعة والخصوبة، وكان أشهر تلك الأسماء هو كمت ويعنى السمراء، إشارة إلى خصوبة تربتها السمراء، ومنها واجة أى الخضراء وباقة أى الزيتونة وغيرها من الصفات.
مثلت الزراعة مكانة كبيرة لدى المصري القديم، وكانت الكتب الدينية فى مقابر ملوك الدولة الحديثة تتحدث عن إيزيس وهى تنزل العالم السفلى لأوزيريس بسنابل القمح رمز الزراعة والنماء.
عبر المصري القديم عن الفلاح بالكلمة «سختى» وهى ترتبط بالعمل فى الحقول، حيث إن كلمة سخت تعنى الحقل، وقد ارتبط الفلاح بأرضه ارتباطًا عظيمًا وحظى بمكانة كبيرة لدى الملوك، ففى الأسرة الرابعة حين أراد الملك العظيم خوفو أن يكمل بناء هرمه استعان بالفلاحين ولكن فى فصل الفيضان الذي يتوقف الفلاح عن عمله، فإذا انتهى الفيضان توقف العمل وعاد الفلاح إلى أرضه، كما أعطى الملوك لكبار موظفيهم حق انتفاع لأراضٍ صحراوية يقومون بزراعتها ويحصلون على دخل منها إضافة إلى نفوذ المالك، وفى نفس الوقت يزيدون الرقعة الزراعية، ومن منّا ينسى خون إنبو الفلاح الفصيح الذي ترك قريته وترك القليل من محصول أرضه لزوجته مريت (يعنى اسمها الحبيبة) ولأطفاله وخرج ليبيع الباقى فطمع أحد الموظفين الفاسدين فى المحصول ونهبه من خون إنبو الذي اشتكى للملك الذي انتصر لحق الفلاح.
فى الدولة الوسطى حين أراد الملوك أن ينهضوا بمصر بعد الثورة الاجتماعية الأولى والحروب الأهلية اتجهوا إلى المشروعات الزراعية فقاموا بإنشاء سد اللاهون لاستصلاح 27000 فدان من الأرض للزراعة، وأقاموا السدود لحماية الأراضى، وحين جاء العصر البطلمى وأنشئت قناة لربط النيل بالبحر الأحمر أطلق عليها قناة سيزوستريس (ليست قناة السويس) وهو النطق اليونانى لأحد ملوك الدولة الوسطى العظام سنوسرت.
بعد أن خرج الهكسوس من مصر سعى الملوك فى عصر الإمبراطورية المصرية لرفعة شأن أرضهم وفلاحيهم وظهرت الأعياد المرتبطة بالأرض بل يصور معبد هابو أعياد الزراعة والعودة للنماء مع المعبودين مين وسوكر، كما حرص تحتمس الثالث أعظم ملوك مصر على إحضار كل ما كان ينقص مصر من محاصيل ونباتات وصورها على جدران الكرنك فى الصالة الشهيرة المعروفة بصالة النباتات، وحين عبرت الكتب الدينية عن الجنة فى العالم الآخر صورتها على شكل الأرض الزراعية وأطلقت عليها حقول الإيارو.
فى العصر المتأخر وعلى الرغم من تواجد عناصر أجنبية كثيرة على أرض مصر إلّا أن الفلاح المصري ظل محور القوة وظلت الزراعة هى محور القوة الذي تتحدث به مصرمع أعدائها، حتى إذا كان عام 332 قبل الميلاد استقبلت مصر الإسكندر المقدونى الذي أظهر تقديرًا واحترامًا لمصر، ولما لا وهو يعلم أهمية ما يخرج من أرضها ويعلم تمامًا أن هذا البلد يمتلك القمح الذي يغذى الجسد، والبردى الذي يغذى العقل، فمصر كانت الدولة الوحيدة التي تغذى العقل والجسد، فأحد الكتاب الرومان كان يخاطب صديقًا له كتابة ثم توقف قائلًا: أعتذر لن أتمكن من إكمال الخطاب لأن البردى الذي ترسله مصر لم يعد كافيًا.
كانت اليونان تنتظر القمح المصري بل إن بطلميوس الثانى كان يراهن بالقمح فى الحصول على أندر كتب الفلاسفة اليونانيين ليضعها فى مكتبة الإسكندرية، كما حرص نفس الملك أن يتم حفر قناة سيزوستريس لربط تجارة البحر الأحمر الزراعية، وحين أراد أن يكرم زوجته أرسينوى أهداها أكثر الأراضى خصوبة وهى أرض الفيوم التي كانت أخصب أراضى الدنيا وسماها أرسينوبوليس.
ومن العظيم أن نعلم ان القمح المصري عيّن إمبراطورًا على روما، فبعد موت الإمبراطور نيرون عام 68، مرت روما بعام من الاضطرابات يسمى عام الأباطرة الأربعة والذي انتهى بالقائد فسبسيانوس الذي زار مصر وطلب مساعدتها للوصول إلى العرش فمنعت مصر التي كان يحتلها الرومان القمح مشترطة أن تعيد إرساله بعد تولى فسبسيانوس الحكم، وهو ما وافق عليه السيناتو الرومانى مباشرة ودون نقاش.
وقبل أن ننهى، نعلم أن الفلاح المصري كان منذ القدم يزرع أرضه وفقًا لتقاليد الزراعة وحركة النجوم، ولذا فإن التقويم المصري القديم المعروف بالتقويم القبطى يحب الكثيرون تسميته بالتقويم الزراعي، فكل شهوره ارتبطت بأسماء معبودات ورموز زراعية، فبداية السنة مع شهر توت (المعبود جحوتى) ويقول أهلنا حتى الآن توت رى ولا فوت، بابة (با أيبت = عيد أمون) زرع بابة يغلب النهابة، هاتور (حتحور) الذهب المنثور وهو لون سنابل القمح، كيهك (كاحركا =ميلاد النماء والخير) فى يوم 12 كيهك ولد المعبود أوزيريس ونقول تعبيرًا عن الوقت كيهك صباحك مساك، طوبة (عبتى = الحنطة) وفيها يتوقف الرى لأن طوبة تخلى الشابة كركوبة، ثم تأتى العواصف من مخير رب العواصف وحرفت الخاء إلى شين فنقول أمشير أبو الزعابيب الكثير، ومن بعدها يبدأ الحصاد فنقول برمهات (بابر أمنحتب = أحد الملوك المؤلهين) فى برمهات روح الغيط وهات، برمودة (بارننوتت = ربة الحصاد) برمودة دق العمودة أى تبدأ التدرية، بشنس (باخنسو) ونقول بشنس يكنس الأرض كنس، ومن بعدها يتوقف الزرع والمحصول فيأتى بؤون (با إينت أى عيد الوادى) ونقول بؤونة حجر ينشف المية على الشجر، ثم يهل الفيضان فى أبيب تسمع للمياه دبيب، وينتهى العام مع مسرى (مسى رع = ميلاد الشمس) فنقول فى مسرى نسمع للمية عسرة.
هكذا كانت الزراعة وكان الفلاح المصري والآن مع الجمهورية الجديدة تقوم الدولة بالعديد من المشروعات إلا أنها لم تغفل الزراعة فاستصلحت العديد من الأراضى الزراعية التي ستحقق مع الوقت بمشيئة الله الاكتفاء الذاتى من المحاصيل تحقيقًا لمبدأ أن من يملك غذاءه يملك حريته.
عاش الفلاح المصري فى عيده، وعاشت أرض الخير والنماء كمت.