الحسيني عبدالله
حكايات مصيرية.. نهر وشعب
لم تعرف البشرية أمة ارتبطت بنهر أو نهر ارتبط أمة على مر الزمان كارتباط المصريين قيادة وشعب بالنيل وقد ظهر ذلك جليا وبقوة في مشاهد أدبية كثيرة سجلها الأدب المصري بأنواعه، لاسيما أشعار الغزل التي ظهرت بدءا من 1500 قبل الميلاد، وهي فترة تحررت فيها العادات، ويعد عصر الرعامسة على وجه التحديد العصر الذي انطلق فيه الشعر الشخصي متحررا من كل قيد.
وترجح العالمة الفرنسية كلير لالويت، في دراستها "نصوص مقدسة ونصوص دنيوية" ضمن سلسلة منظمة اليونسكو لنماذج الفكر العالمي، أن تلك القصائد "كانت تلقى أثناء الولائم، بمصاحبة الموسيقى على آلتي الفلوت والجنك"، وتورد أبيات شعرية سجلتها قطع عُثر عليها لسطح إناء، محفوظ في المتحف المصري، يحضر فيها النيل بقوة في مشهد غرامي جمع حبيبين كهذا المقتطف:
"حبيبي، كم يحلو لي أن أرحل، أن أنزل إلى النهر واستحم أمامك، إني اتركك تشاهد جمالي، وأنا في سروالي (المصنوع) من الكتان الملكي، من أرقّه، أنا معطرة بالطيب الزكي، أغوص في الماء بجوارك، من أجل حبك، أخرج ممسكة بسمكة حمراء بين أصابعي، يا صديقي، يا محبوبي، تعال وشاهدني".
وتواصل الأبيات حركتها الأدبية لتنتقل إلى المحبوب في فقرات تصويرية جديدة:
"عشق حبيبتي على الشاطيء الآخر، النهر يفصل بيننا، المياه تندفع بشدة في زمن الفيضان، والتمساح واقف رابض فوق شط رملي، لكنني أنزل إلى الماء وأغوص وسط الأمواج، إن قلبي قوي فوق النهر، والتمساح يبدو لي كالفأر، الماء تحت قدمي أشبه باليابسة، إن حبي لها هو الذي يمنحني القوة، كأن (وجودها) قد سحر الماء، أنا لا أدري سوى رغبة قلبي وهي تقف أمامي".
وقد ساعد النيل خيال المصري على أن يخلق شراكة تجمع بين المرأة والطبيعة، وتشير الباحثة الفرنسية لالويت في دراستها إلى أن هذه الشراكة "تمتزج امتزاجا تاما، وتشكل عنصري الخصوبة في الكون. فالمرأة والزهور والثمار لا تختلف من حيث الجوهر، إنها جميعها النموذج والشاهد على الحياة المتجددة، البشرية والنباتية، على حد سواء" ويعد عيد وفاء النيل الذي تحل ذكر الاحتفال به يوم ١٥ أغسطس من كل عام و يمثل بداية العام عند المصريين القدماء فكانوا , يستقبلون الفيضان بالفرح الشديد فهو الخير القادم لإعادة الحياة والخصوبة لأرض مصر بعد فصل الصيف الحار وقلة المياه بالنهر ، وتأثر الفكر الديني كثيرا بفصول السنة فكان التل الأزلي وهو العامل المشترك بين كل أساطير الخلق التي تفسر بداية الكون ما هو إلا تلك الأرض التي تبرز وترتفع أثناء انحسار الفيضان، وأحيانا يطلق المصري على الفيضان عند وصفه لشدته اسم (نون). وقد خصص المصري القديم معبودا للفيضان ومنحه صفات تتناسب وقوة اندفاعه وصفات تتفق وما يحمله من خير وخصوبة، كما ارتبط معبود الفيضان بعروش الملوك فهو الذي يمنح الملك الخصوبة والخير والذي يمنحه الملك بدوره إلى شعبه، وغالبا ما صور “حابي” آله النيل على جدران المعابد في الصف الأسفل ليرمز إلى أنه أساس المعبد وضامن الخيرات والقرابين المقدمة لمعبودات المعبد.
كما ارتبط بالفيضان معبودات أخرى خاصة “خنوم” الذي يتحكم في مياه الفيضان فيرسلها أو يمسكها، وهو صانع البشر من طمي الفيضان، وكان أوزيريس ربا لكل الفصول فهو القوة الكامنة في الفيضان وهو الثور الأسود لون طمي الفيضان وهو الذي تنشق عنه الأرض وتعود روحه كما تعود الروح إلى البذرة الميتة، وهو رب الحصاد حيث يتحول إلى “نبرى”.
ويذكر أنطوان زكري في كتابه “النيل في عهد الفراعنة والعرب”، أن المصري القديم سجل في لوحتين على الورق البردي، معروفتين بورقتي ساليير وأنسطاسي، وهما من مجموعة الأوراق البردية المحتفظ بها إلى الآن في المتحف البريطاني، وترجمها العالمان الأثريان الشهيران ماسبرو وجبس، وهما اللذان نقلاها من الشعر المصري القديم، ويقول مطلع النشيد:
” الحمد لك يا نيل، يا من تخرج من الأرض وتأتى لتغذى مصر، يا ذا الطبيعة المخيفة، ظلام فى وضح النهار، إنه الذي يروى المراعي، وهو المخلوق من رع ليغذي كل الماشية، وهو الذي يسقى البلاد الصحراوية البعيدة عن الماء، فإن ماءه هو الذي يسقط من السماء، هو المحبوب من جب، ومدبر شؤون إله القمح، وهو الذي ينعش كل مصنع من مصانع بتاح، رب الأسماك وهو الذي يجعل طيور الماء تطير نحو الجنوب، إنه هو الذي يصنع الشعير والقمح وبذلك تتمكن المعابد من إقامة احتفالاتها”.
وكان يتم خلال الاحتفال ذبح قربان قد يكون عجل أو دجاجة، ثم تلقى فى النيل رسالة بها بعض الصلوات والمدائح في النيل، وكان الملك يحضر الاحتفال ومعه القادة ورجال الدين وسط جميع طوائف الشعب، وقد وجد على سفوح جبل السلسة شمال أسوان ثلاث لوحات تضم ثلاثة مراسيم في الفترة ما بين 1300 ــ 1225 ق.م تقر بأن يقام احتفال للإله حابى مرة عند أعلى ارتفاع للفيضان ومرة أخرى عند أدني ارتفاع، ويتقرب خلالها بقرابين من الحيوانات والخضروات والزهور والفاكهة.
كما جاء ذِكر أعياد النيل في مائدةٍ للقرابين محفوظة في متحف فلورانس بإيطاليا، ويرجع تاريخها إلى ملوك الأسر الثلاث الأولى، وقال المؤرخ ماسبرو عن العيد الفيضان “عندما يصل الماء المقدس إلى جدران مدينة “سين” يقدم الكهنة أو الحاكم أو أحد نوابه ثورًا أو بطًّا، ويلقيه في الماء في حرز من البردي مختوم عليه، ويكتب في الحرز الأمر الملكي الخاص بنظام الفيضان، ومتى ترأس الملك نفس هذا الاحتفال نقشوا في الصحراء وسجلوا هذا الحادث تذكارًا تاريخيًّا، وإذا تغيب الملك عن الاحتفال ناب عنه الكهنة باحتفال عظيم، حاملين تمثال المعبود سائرين به على ضفاف النيل والجسور مرتلين الأناشيد.
وقد أشار العالم الأثري “دي روجيه” إلى الاحتفال أيضا وقال: “في اليوم الخامس عشر من شهر توت جاء فيضان النيل في سلسلة، وفي 15 أبيب صعد النيل فقدمت القرابين والهدايا للمعبود “حابي”، وفي ذاك اليوم كانوا يلقون له ميثاقًا مكتوبًا من ديوان الملك، فيقبل النيل هذا العهد ولا يتخلف عن وعوده فيمنح مواهبه أرض عبيده المؤمنين”.
ويروي “سنيك” الفيلسوف الروماني، أن المصريين في عهد الرومان كانوا يلقون في نهر بيلاق القرابين، ويُلقي الحكام بعدها هداياهم من الذهب وأنواع الحليِّ المختلفة.
واستمر المصريون على عاداتهم في الاحتفال بأعيادهم، وكما كان يعتقد الفراعنة أن سبب الفيضان نزول دمعة المعبودة إزيس في النيل، اعتقد الأقباط أن النيل يفيض بنقطة تنزل من السماء، ويحتفل في اليوم الحادي عشر من شهر بئونة بعيد “ليلة النقطة السماوية”، التي تنزل بفضل دعوة وصلاة رئيس الملائكة جبرائيل قبل نزولها بثلاثة أيام حيث يسجد ويتوسل إلى ربه بأن يفيض النيل وينزل إلى الأرض المطر والندى.
و حينما دخل العرب مصر، محوا كثيرا من العادات والتقاليد التي كانت متبعة في الاحتفال بالفيضان، لكنهم لم يتمكنوا من محو الاحتفال تماما، بل اضطروا إلى إتباع التقاليد المصرية للاحتفال بفيضان النيل، وفى العصر المملوكي كان الاحتفال يبدأ يوم 26 بؤونة وبعد أن يصل قياس ارتفاع مياه الفيضان إلى 16 ذراعا، يبدأ احتفال شعبي ضخم تضيء فيه القناديل والشموع كل الشوارع، وينتشر الرقص والغناء، وتباع الخمور بكثافة.
ويصف المؤرخ ابن إلياس في كتابه “بدائع الزهور” ليلة من ليالي احتفال المماليك بالنيل “خرجت سفينة سلطان مصر وعامت من بولاق وهي متزينة بالورد والأعلام واستقبلها الأمراء بالطبل والزمامير عند مقياس فيضان النيل”.
سادت في الاعتقاد الشعبي فكرة روج لها المؤرخ العربي أبوالقاسم عبدالرحمن بن عبدالحكم في كتابه “فتوح مصر والمغرب”، أن المصريين كانوا يلقون فتاة شابة مزينة بالحلي ليفيض النيل.
وظل طقس إهداء النيل فتاة شابة في عيد وفاءه مستقر في الأذهان، لكن تم استبدال الفتاة بدمية خشبية على شكل فتاه آدمية، وتذكر الدكتورة نعمات أحمد فؤاد في كتابها “القاهرة في حياتي”، أن حكاية عروس النيل ليس لها أساس تاريخي.
ويقول عباس محمود العقاد في كتابه “عبقرية عمر”، وعقب العقاد على روايةُ ابن عبد الحكم قائلا ” الرواية على علاتها قابلة للشك في غير موضع عند مضاهاتها على التاريخ”. وقد ترسخت الأسطورة في الأذهان وتناقلتها الأجيال كموروث شفهي عن ابن الحكم في مؤلفه، على الرغم من عدم ذكر النصوص المصرية القديمة من قريب أو بعيد لها، فالثابت في المعتقد الديني المصري عدم تقديم قرابين بشرية إلي معبود مهما علا شأنه، كما توجد لوحات وبرديات تصف أحوال النيل وفيضانه وأزماته، لم يرد فيها أي ذكر لـ "عروس النيل" العذراء التي تُقدم كقربان للنيل، وقد فندها كثيرون من علماء دراسات تاريخ مصر القديم ويمكن تلخيص الآراء كما يلي:
عُثر على ثلاث لوحات تصف جميعها المراسم، الدينية والشعبية، التي تحتفل بفيضان النيل، وتعود إلى عصر الملك رعمسيس الثاني ومرنبتاح ورعمسيس الثالث، وتشير إلى أن الملك كان يحضر الاحتفال الذي يبدأ بذبح عجل أبيض وأوز وبط ودجاج كقربان، ثم تُلقى في النيل "رسالة" مكتوبة على ورق بردي تتضمن أناشيد تمدح النيل اعترافا بفضله. تحتفظ بردية "هاريس" التي تعود إلى عصر رعمسيس الثالث بقائمة تذكر القرابين والحيوانات والفواكه والنباتات التي خصصت للمعابد، وتماثيل لمعبود النيل "حعبي"، وكانت تُلقى كل القرابين مع التماثيل في النيل، بحسب البردية.
زار كثير من الرحالة اليونان والرومان مصر بين القرنين السادس قبل الميلاد والقرن الأول، مثل هيكاتية في القرن السادس قبل الميلاد، وهيرودوت 448 قبل الميلاد، وديويدور الصقلي 59 قبل الميلاد، وسترابون حوالي 25 قبل الميلاد، وجميعهم كتبوا عن عادات مصر ولم يشر أي منهم إلى "عروس النيل". كان دخول العرب مصر عام 640 ميلاديا، وكان المصريون يعتنقون الديانة المسيحية، التي تجرّم القتل ولا تسمح بممارسة طقس مثل إلقاء فتاة وقتلها غرقا عرفانا للنيل وفيضانه.
استطاع العالم الفرنسي جاك فاندييه، في دراسته "المجاعة في مصر القديمة"، أن يجمع عددا كبيرا من النصوص التي تحدثت عن المجاعة، وجميعها من نصوص يزيد عددها على 55 من مصادر أثرية مختلفة (منها مصدر واحد وهو معبد إدفو ذكر 35 نصا، وتسع نصوص في معبد دندرة)، لم يأت ذكر لأي "عروس للنيل" بشرية تلقى في مياهه. ويقول العالم المصري رمضان عبده في دراسته "حضارة مصر القديمة"، من إصدارات وزارة الآثار المصرية، إن ابن عبد الحكم "كتب هذه القصة بعد دخول العرب مصر بنحو 230 عاما، فإما أن تكون هذه القصة قد رويت له بمعرفة أحد المخرّفين، وإما أن تكون الحكاية برمتها من تأليفه هو، بقصد تنفير المصريين من مظاهر حضارتهم وعقائدهم القديمة والدعوة إلى الإسلام".
ويضيف المؤرخ عبد الحميد زايد في دراسته "مصر الخالدة" قائلا: "قصة إلقاء فتاة في النيل، التي رواها المؤرخ العربي ابن عبد الحكم لا تعدو أن تكون أكذوبة من الأكاذيب المدعاة على مصر القديمة أو سوء فهم لبعض ما قام به المصريون عند الاحتفال بوفاء النيل في قصة عروس النيل، فهي قصة غير معقولة".
اخير نجح المصريون على مر العصور بربط حياتهم بالنيل فكان الحكام يفرضون الضرائب من خلال تقارير يعدها مجلس شرعي مكلف إداريا بمهمة رصد زيادة مياه النيل، وكانت جباية الضرائب ترتبط بهذا القياس، إذ كانت واجبة وملزمة إذا وصلت زيادة المياه في النيل إلى 16 ذراعا فأكثر، ويتم الإعفاء منها إذا كان مقياس المياه أقل من 16 ذراعا، وبرغم التقدم الذي رافق ثورة 1952، إلا أنها أبقت على هذا التقليد وظل راسخا وهو المجلس الشرعي الإداري الذي كانت مهمته رصد وقياس فيضان النيل، وتولى رئاسته رئيس المحكمة الشرعية العليا حتى ألغيت تلك المحاكم، وكان يتولى رئاسة المجلس مفتي الديار المصرية.
والأمر المثير للدهشة أن تكوين هذا المجلس ومهامه ظلت كما هي حتى عام 1972، وهو العام الذي انتهي فيه عمل المجلس بعد أن فرض الواقع الجديد نفسه حيث لم يعد النيل يفيض بفضل مشروعات ري كبرى أعظمها مشروع السد العالي.