أيمن عبد المجيد
الدلالات والسيناريوهات
نتنياهو من «الكونجرس» إلى حرب الاغتيالات
على خشبة مسرح الصراع بالشرق المُبتلى بثرواته ومكانته الجيوسياسية، عرض صانع الحروب، خمسة مشاهد بالغة الدلالة والارتباط، خلال الأسبوع الأخير، فى سياق درامى دموى متصاعد، لا يمكن النظر لأى منها بمعزل عن الآخر، فكلها مقدمات لنتائج، وذريعة للانتقال للمشهد التالى سعيًا إلى ذروة الصراع.
بين المشهدين الأول الأكثر فجاجة، والخامس الأكثر خطورة، مسافة زمنية أسبوع واحد، وجغرافية تتجاوز 11 ألفًا و775 كيلومترًا تفصل واشنطن عن طهران، وما بينهما من تباينات فكرية وسياسية، المعلن من العداء، وتحالفات الخفاء.
ورغم أن الدراما الدموية للقضية الفلسطينية تعود إلى عام 1936، مع بدء تهجير الصهاينة إلى أرض كنعان للقيام بدور وظيفى يخدم الاستعمار التاريخي، فإن الثلاثمائة يوم الأخيرة شهدت جرائم إبادة جماعية غير مسبوقة، تحت سمع وبصر شعوب العالم.
دعونا نحلل مشاهد الأسبوع الأكثر خطورة وسرعة فى تصاعد الأحداث.
المشهد الأكثر فجاجة:
الزمان: الأربعاء 24 يوليو 2024.. المكان: الكونجرس بالعاصمة الأمريكية واشنطن،
الحدث: بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني، يقف خطيبًا وسط تصفيق حاد من غالبية مستقبليه من أعضاء مجلسى النواب والشيوخ.
مشهد خارجى: الزمان: بالتزامن مع استقبال الكونجرس لنتنياهو، المكان: محيط الكونجرس.. الحدث: آلاف المحتجين أمريكيون وعرب، يرفعون لافتات ترفض زيارة نتنياهو وتصفه بمجرم الحرب، مطالبة بمعاقبته بتهمة ارتكاب إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة.
المشهد الثانى:
الزمان: السبت 27 يوليو 2024، المكان: ملعب كرة قدم بقرية مجدل شمس، قرية درزية في مرتفعات هضبة الجولان السورية المحتلة من إسرائيل.
الحدث: صاروخ يستهدف ملعب كرة القدم، مخلفًا 12 شهيدًا من أطفال الدروز، وإصابة 40 آخرين.
نتنياهو يقطع زيارته للولايات المتحدة الأمريكية، متهمًا حزب الله الإيرانى بمسؤوليته عما وصفه بمجزرة مجدل شمس.. حزب الله ينفي مسؤوليته ويرفض مزاعم استهدافه مجدل شمس.
المشهد الثالث:
الزمان: الاثنين 29 يوليو 2024، المكان: قرية مجدل شمس بالجولان المحتلة.
الحدث: مجرم الحرب نتنياهو يزور القرية، مهددًا بالانتقام، والدروز الواقعون تحت سلطة الاحتلال يرفضون زيارته واستغلاله مقتل أبنائهم ذريعة للعدوان على لبنان.
المشهد الرابع:
الزمان: الثلاثاء 30 يوليو 2024، المكان: الضاحية الجنوبية في لبنان.
الحدث: غارة إسرائيلية تقصف مبنى فى لبنان مخلفة شهيدة مدنية ونحو 80 مصابا، ليعلن الاحتلال مسؤوليته ونجاحه فى اغتيال فؤاد شكر رئيس عمليات حزب الله.
حزب الله يؤكد وجود القيادى المستهدف تحت أنقاض المبنى المدمر، وسط جهود لإزالة الركام على أمل العثور عليه حيًا.
المشهد الخامس «الأحدث»:
الزمان: فجر أمس الأربعاء، المكان: العاصمة الإيرانية طهران، الحدث: اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسى لحركة حماس، بصاروخ استهدف مقر إقامته بحسب ما أعلنته حماس، حيث حضر للمشاركة فى مراسم تنصيب الرئيس الإيرانى الجديد مسعود بزشكيان.
المدقق فى تلك المشاهد المتلاحقة يستخلص الآتى:
1: عكست الحفاوة التي عبر عنها أعضاء الكونجرس الأمريكى بالتصفيق المتكرر لنتنياهو، مجرم الحرب، ضوءا أخضر من الإدارة الأمريكية ليواصل سياسات التصعيد.
2: هناك توافق بين الجمهوريين والديمقراطيين على الدعم الكامل لإسرائيل وأمنها وبقائها فى المنطقة، لما تقدمه من دور وظيفى لحماية مصالح القوى الغربية فى المنطقة التي تمثل الاستعمار القديم، وقد عبر بايدن صراحة عن انتمائه للصهيونية، وتسير على خطاه من تخلفه، وعلى الطرف الآخر البديل ترامب الذي نقل سفارة أمريكا إلى القدس.
ومن ثم ستحتاج القضية الفلسطينية والعدوان على غزة مجرد توازنات فى الخطاب الانتخابى الأمريكى للمرشحين، وفق رؤية كل مرشح وحملته للأوزان النسبية للناخبين الداعمين لفلسطين، والداعمين للصهيونية والقدرة على التأثير.
3: من المرجح أن يكون استهداف ملعب قرية مجدل شمس بهضبة الجولان عملية قامت بها المخابرات الصهيونية، لتحقيق هدف رئيسي: تأمين سياسات نتنياهو الدموية، وخلق ذريعة لتنفيذ ما حصل عليه من الأمريكان من ضوء أخضر فى زيارته الأخيرة لواشنطن.. وما يؤكد ذلك:
أولا - استهداف الأطفال تم فى قرية درزية تحت الاحتلال، وهم أطفال سوريون تحت الاحتلال وليسوا من أبناء الصهاينة، وبالتالى إحداث خسائر فى غير أرواح أبنائهم لاستثمار الحدث فى العدوان على لبنان.
ثانيا- شاهد نتنياهو قوة المعارضة الشعبية التي تصاعدت بين المجتمع الأمريكى لما يرتكبه من جرائم فى غزة، وهو ما عبر عنه فى خطابه أمام الكونجرس بأنها مظاهرات تمولها إيران.
ثالثا- فى الداخل الإسرائيلى يواجه نتنياهو تصاعدا فى حدة معارضته ومطالبته بوقف الحرب واستعادة المحتجزين لدى حماس بالمفاوضات، ومن ثم كان من المهم تنفيذ عملية تخلق له ذرائع لمواصلة الحرب، وتضعف حجة منتقديه وقدرتهم على كسب مزيد من الأنصار.
فوفق قاعدة المستفيد الفعلى من العدوان على أطفال مجدل شمس، يتضح أن الصهاينة هم من نفذوها، وهو ما أكده رفض الدروز استقبال نتنياهو ونفى حزب الله مسؤوليته.
رابعًا- المشهد الرابع يعكس اختراقًا صهيونيًا استخباراتيًا شديد الخطورة لحزب الله ولبنان، يتمثل فى رصد قيادات حزب الله وأماكن وجودهم واستهدافهم بدقة، ومن ثم سيستخدم سلاح الاغتيالات بكثافة فى الفترة المقبلة.
خامسًا - اغتيال رئيس المكتب السياسى لحركة حماس فى العاصمة الإيرانية طهران، وعلى هامش حفل تنصيب رئيس الجمهورية الجديد بالغ الدلالات والتبعات.
١- اغتيال رأس حركة حماس، يشير إلى توافق صهيو أمريكى على إنهاء سياسة التفاوض لإنهاء العدوان على غزة بصفقة تبادل أسرى، بل بالقضاء على الحركة بشكل نهائى.
٢- تنفيذ العملية فى طهران، رسالة مفادها أن إيران مخترقة بقوة، وأجهزتها الأمنية غير قادرة على حماية ضيوفها المشاركين فى مراسم تنصيب الرئيس الجديد، ومن ثم هى رسالة أيضا للرئيس الإيرانى.
٣ - الفاصل الزمني الضئيل بين استهداف رئيس هيئة عمليات حزب الله ورئيس حركة حماس يوم واحد، وبعد أيام من زيارة نتنياهو لأمريكا، يعنى تنسيقا لضمان الدعم الأمريكى للاحتلال الصهيونى لمواجهة أى رد فعل عسكرى إيرانى أو من حزب الله، مع توسعة الرقعة الجغرافية للعمليات والصراع.. فضلًا عن أن قيادى حزب الله مطلوب من الأمريكان بتهمة ارتكاب جرائم إرهابية.
سادسًا - أمام إيران تحدٍ مصيري، وفق ما ستسفر عنه نتائج التحقيقات التي لم تتضح بعد-عند كتابة ذلك المقال-، ففى حال اتهمت إسرائيل رسميًا بتنفيذ العملية، سيكون عليها الإجابة عن تساؤلات مهمة: بأى وسيلة نفذته.. هل بقصف صاروخي؟ ومن أين انطلق من داخل الأراضى الإيرانية أم من خارج حدودها؟ وإذا كان من داخلها فهل هناك خلايا داخلية؟ وإذا كان من خارج حدودها فهذا قصور خطير فى منظومة دفاعاتها الجوية، فضلًا عن الاختراق المعلوماتى والتحديد الدقيق للهدف وإصابته.. فماذا يمنع تكرار العملية باستهدافات جديدة لقيادات إيران أنفسهم؟
والأهم ما هو رد إيران على انتهاك سيادتها إذا ثبت تنفيذ الغارة من خارج حدودها؟
سابعًا - فى حين سارع الصهاينة بإعلانهم مسؤوليتهم عن استهداف الضاحية الجنوبية فى لبنان، فإنهم يلتزمون الصمت فى حادث اغتيال هنية، ولعل ذلك لتلافى اعتراف بالمسؤولية يبرر لإيران الرد، وربما يخلق احتمالا ولو ضئيلا جدًا أن الاستهداف تم من جهة ثالثة لديها وجهة نظر مغايرة لسياسات النظام الإيرانى.
ثامنًا - الرئيس محمود عباس محمود أبومازن، كان أول من ندد بالعملية الجبانة، معلنًا الحداد الفلسطيني، داعيًا لوحدة الصف، ولعل تلك الرسالة للفصائل الفلسطينية أن القضية أكبر من الخلافات السياسية الفصائلية، عليهم التوحد فى مواجهة مجرمى الحرب.
تاسعًا - المؤكد أن توسيع رقعة الصراع، من صراع سياسى بين الشعوب ذاتها فى أمريكا وأوربا بين رافضين لجرائم الحرب المرتكبة فى غزة، وداعمى الصهاينة، ثم التصعيد العسكرى فى حرب الاغتيالات، يمثل دلالة بالغة الخطورة فى إشعال المنطقة، وسيدفع الجميع الثمن باهظًا، مع المواجهة الشاملة.
ولا نتجاهل مشهدين مهمين منذ أسابيع قليلة، طائرة مسيرة تستهدف تل أبيب يعلن الحوثى مسؤوليته عنها، وهنا تساؤل هل هو نجاح فعلى فى بلوغ الهدف أم ثغرة دفاعية تركت عن عمد لتبرير استهداف معامل تكرير النفط فى الحديدة باليمن؟
إذن، الملاحة فى البحر الأحمر مهددة، وتوسيع رقعة الصراع، يخدم مصالح صانع الدراما على مسرح الحرب فى الشرق الأوسط.. إنهم يقتاتون ويتربحون من الدماء.
عاشرًا - يبقى الأمل فى سماع صوت العقل، وخفض معدلات التصعيد، فالجميع فى مأزق.
أمريكا مقبلة على انتخابات رئاسية.. نتنياهو يتألم من الصراع الداخلى والخسائر الاقتصادية.. وحماس تواجه أكبر عدوان ونقص عتاد وخسائر بشرية فى صفوف الشعب.. وإيران فى مآزق، ماذا يمكنها أن تفعل فى ظل أوضاع داخلية غير مستقرة بداية من سقوط طائرة الرئيس السابق، مرورًا برئيس يبدأ ولايته الجديدة بتحدٍ بالغ، فهل ستنجر لحرب أم تكتفي بعمليات نوعية لحفظ ماء الوجه وتلافى الخسائر؟ فقواعد الاشتباك شهدت تحولا بالغ الخطورة.
ربما يدفع المأزق المشترك إلى إرغام كل الأطراف على الاكتفاء بهذا الحد من الدماء والتوصل لوقف إطلاق النار.
حادى عشر - مصر تمثل صوت العقل، حيث أدانت سياسة التصعيد الإسرائيلية الخطيرة وجددت تحذيرها من التصعيد الخطير، الذي ينذر بمخاطر إشعال المواجهة فى المنطقة، محذرة من مغبة سياسة الاغتيالات، وانتهاك سيادة الدول، داعية مجلس الأمن والقوى المؤثرة دوليًا للاضطلاع بمسؤوليتها فى وقف التصعيد بالشرق الأوسط، ووضع حد لسياسة حافة الهاوية.
يبقى تصاعد الدراما على خشبة مسرح الصراع، وسط ترقب جمهور شعوب العالم، رهن ما سيفاجئنا به كتاب السيناريو ومخرجو العرض والمنتجون المنتظرون لجنى فاتورة بيع السلاح وثمن إزهاق الأرواح.
حفظ الله دماء الأبرياء من مكر تجار الدماء