عمر البشير الترابي
البناء الأخلاقي ووضع ميثاق أخلاقي للعلوم الإنسانية والأمن الفكري
اشرف ابو الريش-سلوى عثمان-السيد علي
أكد الدكتور عمر البشير الترابي رئيس تحرير مركز المسبار أثناء مشاركته في ورشة بعنوان (صناعة ميثاق أخلاقي إفتائي للتطورات في مجالات العلوم التجريبية والطبيعة والذكاء الاصطناعي) والتي ينظمها المؤشر العالمي للفتوى التابع لدار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، أن العلاقة بين الدين والعلم، من الأسئلة التي طالما أرادت وضع أجوبة، محددة، إما التصادم أو الوئام.
وكان الانشغال المشترك، متحزبًا بين الأطراف، التي ترى أن العلاقة فيها ما يربّح الدين، وعدمها ما يريح العلم أو النافرين عن الدين، ولكن هذا المنهج أضحى باليًا، اليوم، في لحظة تتجاوز منطق السؤال الرأسي. أو الممايز.
وتقترب من سؤال الواقع والاحتياج إلى درء مفاسدٍ متحققة الوقوع. فقد أضحت المسلمات الكلية، مثل الدولة، والدين، والأسرة، والعلم، كلها مباني تستمد قوتها من قدرتها على إدارة الاستقرار والحفاظ على التضابط الاجتماعي، وتجسير الهوة بين المستقبل والحاضر، بشكلٍ يضمن عدم الانفلات.
وأضاف أن الأمن الفكري هو الضابط الذي يحتاج أن يضبط هذه التغيرات، بمفهومه الذي يشير إلى مراقبة المدخلات، والمخرجات، والحفاظ على قيم التلاحم والتماسك في البناء الحضاري الإنساني، الحديث.
في هذا الإطار الكلي، أضحى النظر إلى الأجزاء، متجاوزًا فكرة النظرة الداخلية، أي من داخل الدين إلى العلم، أو من داخل العلم للدين، بل صارت الدائرة الكبرى، دائرة الحضارة هي المولّدة للتفكير، وصارت الرغبة دائمًا في تحديد أحسن الممارسات لتمتين ما يجمع الناس وما ينفع البشرية. وتبيين المواثيق التي تربط الناس في عهودهم هذه، من الانزلاق نحو الفوضى، والعنف والتفكك وهلاك النسل والحرث والنفس فالدين. فالقفزات الكبيرة التي تعتري العالم، في الاقتصاد الرقمي، بعملاته المشفرة المتجاوزة لضبط البنوك المركزية، والمنظومات القيمية التي تأبطت فكرة الحرية الطليقة، والاتجاهات السياسية الاناركية، كلها أضحت تجعل التفكير يتجاوز النظر الداخلي، بل يستنفر العقل الكلي، للأطراف كلها، لتكوّن عقلاً مركزيًّا، يحافظ على المنظومة القيمية السالفة، ويبني عليها، بهدوء، ودون تحيز. ودور هذه الملتقيات أن تتسع لتساهم في بناء هذه المنظومة العقلية. لذا؛ في منظومة الفتوى والنظر الديني اليوم، لابد من تحديث ما يؤدي إلى مفهوم الاستقرار، ومفهوم الدولة، ومفهوم الضبط الاجتماعي المتزن.
وهذا الضبط؛ عليه أن يتجاوز في الطرح، مفاهيم الحلال والحرام والإباحة والكراهية على أهميتها، إلى المشاركة في البناء الأخلاقي للحفاظ.
ولو أراد توسيع دائرة الإحسان لخدمة ذلك، فله الأمر. وهنا مفاهيم، كثيرة تحتاج إلى سعي بمنطلقات جديدة لتطويرها، من الأمر بالمعروف، على إطلاقه، كما في تعريف الدكتور رضوان السيد له.
ومفهوم الإنصاف على تطويره، ولو على نفسك، بمفهومه الحديثي، الوارد في باب كتاب العلم في البخاري كما في حديث. ومفاهيم الرحمة، والاعتدال وغيرها. وهنا لا بد من التذكير بخطر مفاهيم الإسلام السياسي، التي تصادر البناء الأخلاقي جملة، وتحول الدين إلى كاتلوج؛ يوظّف سياسياً.
ولقد استفادت هذه المفاهيم من لحظاتٍ حرجة، وضغوط شعبوية، يجب اليوم النظر في تفكيكها، تفكيكاً هادئاً يؤدي إلى إعادة بناء للروح، وللأخلاق، وللقيم، يسودها السلم والتسامح والرحمة والانصاف.
هذا بند أول؛ والبند التالي، الذي يحتاج إلى تفكير عميق، حيال التطورات، العلمية. هو، كيف يمكن للتحولات الجذرية أن توهمنا. وكيف لها أن تضللنا، وكيف يمكن أن تقودنا إلى الظلام؛ الفجائي. العالم استيقظ قبل أسابيع في حالة لا يقين مطلقة، تعطلت آلاف الرحلات. بسبب عطلٍ فجائي. وقبله حدثت تحديات أمن مالي عالمية، لقراصنة البنوك.
صحيح هذه تحديات يتم علاجها وتطوير السعي لتداركها، ولكنها تجعلنا دوماً نفكر. ونقول علينا أن لا ننسى الخدمة السابقة. علينا أن لا ننسى النسخة السابقة. علينا أن نحتفظ بنسخة، خطية من ذواتنا. ثمة أجيال اليوم، حياتها، افتراضية بالكامل، لا صلة لها بالواقع، إلا في حدود محددة. هذه الأجيال، يستهويها منطلق المفتي المعتمد على الذكاء الاصطناعي.
وهنا علينا النظر بهدوء أيضًا إلى المفاهيم الاجتماعية؛ المضللة، التي يتم تصديرها، وسأختم بمثالين: الأول: ثمة من يقود عملية بناء مسيس للعلوم الاجتماعية، يقيم مراكز ضحمة، يقيم استطلاعات موجهة، ونسب كبيرة، ودراسات اجتماعية تريد ان تخلط الدين بالقانون، تنتهي بأرقام خرافية عن ميل الشعوب إلى التيار الفلاني او عدمه، وتقام هذه الدراسات والاستبيانات الموجهة، تحت ستار تأسيس علم اجتماع عربي. وهذا أمر يحتاج إلى نظر، حتى لا يطول التضليل بالمعرفة.
ومثال ثاني، حول فكرة الأهلية، وهو شخصي، فقبل فترة دخلت إلى مسجد، في مدينةٍ عربية، ساعة صلاة الجمعة، وجلست انتظر الصلاة، ولكني انتبهت أن المسجد لا يؤمه أحد، فهممت بالخروج ولكن دخل عليّ شاب صغير السن وجلس.
وانتبهت أن وقت الصلاة انتهى وأن المسجد لا يصلي الجمعة، وأنه مصلى، على فخامته. فهممت بأداء فرض الظهر فردًا، فجاءني الشاب، وقال لي نصلي الجمعة، جماعة، فحاولت ان اشرح له أني مالكي، وللمالكية تحديد للعدد، فاستخرج الفتى الهاتف، بهدوء، وأدخل السؤال على الشات جي بي تي، فأفتاه بالجواز. فتعذرت لها حينها، بإذن الحاكم، وان المساجد المأذونة قريبة. وانصرفنا. هذه الطريقة في تلقي العلم والفتوى، هي تطوّر بائس لطريقة القصاصين وطريقة الأسئلة التي يجيب عنها مجهول في منتدى الكتروني. لذا فاستعادة ضابط الأهلية، والأعلمية، والسند، والبشرية، يجب أن تحقق في دراستنا للتطورات ذات الصلة.
في الختام، نرفع التوصيات؛ عبركم، بتوسيع المواثيق الأخلاقية، لتشمل إعادة الاعتبار لمفاهيم الخيرية والأمر بالمعروف والإنصاف والعدالة والتسامح والدولة والاستقرار، والأمن الفكري. وأن يتم النظر بحذر إلى إمكانية استغلال (العقل المصنّع) للمحتوى الديني، لسهولة تجييره لصالح خصوم الدولة والاستقرار، من المتطرفين ودعاة الإرهاب والتشويش.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته