عاجل
السبت 27 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي

د. فريد فاضل يكتب: خزفيات صالحة المتصالحة

د. فريد فاضل
د. فريد فاضل

قصدت دار الأوبرا المصرية، وبالتحديد قاعة صلاح طاهر لحضور معرض للخزف من إبداع الفنانة صالحة، التي دعتني مشكورة لافتتاحه، ولما كانت الانطباعات الأولى تدوم، فقد أدهشني تنسيق المعرض منذ الوهلة الأولى وطلبت إليها أن تقف وسط آنياتها الأنيقة لألتقط صورة تذكارية لهذا العرض المتحفى المبهر. رأت الفنانة أن تتخلى عن بعض نقاط الأمان التقليدية في تنسيق آنياتها الجميلة لكى يخرج المعرض فى صورة مؤثرة لا تنتقص من نجاحها تفصيلة صغيرة، وهذا التناغم السلس بين الآنية المرصوصة على ارتفاعات متباينة تحتضنها لوحات خزفية مثبتة فوق إطارات خشبية هو فى ذاته فنا منفصلا، فن التنسيق المتحفي الذي تفرد له الكتب والمراجع وتدرسه الجامعات والمعاهد فى أرجاء المسكونة.



لقد وقعت الفنانة صالحة فس هوى طين الأرض فى غفلة من الزمن و بطريقة غير مقصودة واستهواها شكل الأوانى القديمة التي تحكى قصصا عن تاريخ الحضارات. فما أجمل الطين حين يخضع لأنامل الفخارى، يشكله حسبما يرى، ينحني عليه فى إشفاق بالغ بليغ فيبدأ الإثنان معا رحلة إلى المجهول على دولاب الزمن، تدور عجلاته تحت الأقدام الحافية فيعود الجسد إلى الطين، أو لسنا تراب وإلى التراب نعود! تسترق الفنانة النظر إلى الآنية الوليدة لتتحسس منها ما تريد، الشكل، اللون، نعومة السطح، رموز و كتابات لغات حضارات قديمة، سادت ثم بادت، وتركت لنا إرثا فنيا عظيما لكى نهتدى به وسط عالم انتصار الآلة على الإنسان وتغلب الذكاء الاصطناعي على الطبيعي.. لعل تلك الأوانى الرقيقة تعيدنا إلى صوابنا مرة أخرى و تثبت جذورها فى طين حضارتنا التي احتار فى سبر أغوارها المؤرخون والعلماء على حد سواء. هل يقصد الفنان رسالة معينة بفنه؟ أم هو إبداع مجرد حر طليق فى سماء الخيال لا تحكمه القواعد و لا تتحكم فيه القوانين؟ فى أغلب الأحيان تكون الإجابة الاثنين معا، فالفن الأصيل هو ما يخرج من رحم التجربة الصادقة المعجونة بعاطفة الفنان و خبرته الحياتية والتي تشكل إختياراته اللاحقة و هنا تنتقل عيوننا إلى حوائط المعرض والتي حولته الفنانة صالحة إلى شواهد تحكى قصة الحضارة وفلسفتها و قوانينها المبهمة، فالحروف قديمة والرموز جميلة الشكل خفية المضمون، والمعنى في بطن الشاعر، لا نحتاج أن نفهمه تماما لكى نستمتع بالفن، فهذا من طبيعته الأصيلة، أليس الفن هو ما يبدأ حين تعجز الكلمة. تستحضرني الشجرة التي وضعتها الفنانة بين شقفات خزفية فصارت عنصرا حيا يؤكد لنا أن التربة تملك  عناصر النمو لكل المخلوقات وأن الخشب باق مثل الخزف، يحكيان معا قصة واحدة. نأتي هنا إلى بالتة الخزف واختيارات اللون و التحكم في تأثيرات الزمن ممثلة فى الحرق المفتوح والذي ترك بصمة داكنة على العديد من الأواني وهذا بعينه ما يكمل السرد من خلال لوحات فنية تترقب الصدفة الجمالية بشوق كبير، فهناك عوامل كثيرة تتدخل فى النتيجة النهائية للعمل الخزفى ومع تراكم الخبرة من خلال التجريب المتكرر يتعلم الخزاف مغازلة أدواته والتحكم فى أكاسيده ونوع الطين ودرجة حرارة الفرن ليضمن على الأقل شيئا من التوقع لنهايات غير محسومة، كثيرا ما لا تخلو من مفاجآت سارة. 

لقد عثر الأثريون على أوان خزفية حمراء مصقولة يشوبها السواد بمنطقة دير تاسا بأسيوط  ترجع إلى العصر الحجري الحديث، وفي منطقة البداري المجاورة وجدوا أيضا آنية تزينها بعض الزخارف البسيطة الجميلة و لعل إعجابى بخزفيات أسيوط يرجع إلى كونها مسقط رأسى كما أن جدة والدتى تنتسب لقرية الشامية بجوار دير تاسا والبدارى.. على أن الشهرة الأكبر فى هذا المضمار ترجع إلى حضارات نقادة المتتالية و أيضا بوتو بالمعادى، فنجد الخزاف المصري يطور من سطح الآنية ويهتم برسم الدوائر الهندسية المتداخلة فى هارمونية بديعة تعكس ذوق الحضارات البدائية والتي تذكرني في حقب تاريخية تالية بفن الأبوريجنال لسكان أستراليا الأصليين وأيضا فن الهنود الحمر؛ سكان أمريكا الأصليين، فالإنسان في كل مكان قد استهوته الدائرة فهو يراها فى الثمار والمكسرات وصخور الشواطئ المساء وقبلها في الشمس والقمر ورأس الإنسان نفسه بل فى حركة الكون كله. 

فى النهاية أود أن أعبر عن شكرى للفنانة صالحة،  المتصالحة مع خزفياتها الجميلة ، تستلهم التراث بشغف بالغ، وتساعدها دراستها الأكاديمية على البحث التاريخى الدقيق فى دأب حثيث يصب بلا شك فى مصلحة العمل الفني، لقد أعادت صياغة فن الماضى السحيق بنكهة حديثة تستلهمه ولا تشوهه وبذلك فهى تستحق مكانا بارزا بين خزافي مصر المحدثين.

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز