د. حسام عطا
كامل العدد.. موسم اصطياد النقاد في المسرح المصري
كان موسم عيد الأضحى المبارك هذا العام موسماً مثيراً للاهتمام، ونموذجياً لرصد عدد من الملاحظات المتكررة على طريقة التفكير التي برزت أكثر من مرة بصوت خفيض، لكنها تبدو واضحة جداً، وذات طابع يشكل تهديداً جوهرياً لعمل الفنون الجماهيرية وطريقة تقييمها والتفاعل معها الآن وهنا وفي المستقبل القريب.
إنها النتيجة الطبيعية لتراكم طويل يقترب من ربع قرن من الزمان، في إدارة الفنون التعبيرية المصرية. فقد كانت الفنون المصرية ذات الطابع الجماهيري، وعلى رأسها المسرح تحمل طابعاً منظماً يقترب من الاتفاق والعرف المستقر بالنسبة للدولة والمجتمع معاً. فقد كان المتن الاحترافي في المسرح المصري هو مسرح الدولة ممثلاً في البيت الفني للمسرح وفرقه المتعددة. وكان المسرح الغنائي الاستعراضي حاضراً في الامتداد الطبيعي للفرق المسرحية في البيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية. وكان المسرح الجامعي وفرق الهواة وفرق الهيئة العامة لقصور الثقافة، وفي بعض الأحيان الفرق الحرة المستقلة هي الهامش الثقافي الذي يغذي هذا المتن، وقد كانت نقابة المهن التمثيلية تدعم هذا التفكير، بأن يقوم المخرج في تجاربه الأولى الاحترافية بالعمل تحت إشراف مخرج كبير لمدة ثلاثة تجارب احترافية، وقد كانت عضوية شعبة الإخراج المسرحي محدودة العدد رفيعة المستوى وبمثابة اعتراف شديد الخصوصية للحاصلين عليها. وقد كانت جهات الإنتاج الرسمية للدولة حريصة كل الحرص على هذا المسار الاحترافي، في وقت كانت مهنة الإخراج المسرحي مهنة هامة ومقدرة، ولا يحمل هذا اللقب إلا المحترف المبدع الذي يعرف التوصيف المهني ويعرف جوهر المهنة ودورها في الثقافة الوطنية، وجدير بالذكر بأن المؤسسات الرسمية كانت تقدم عائداً مادياً مناسباً لمهنة المخرج وهو لم يتغير كثيراً منذ التسعينات المصرية. وقد كان الهامش الكبير للهواة كثيراً ما يقدم التجارب اللامعة، والتي كانت تشكل منافسة للمسرح المحترف، وكثير من المحترفين قدموا من الثقافة الجماهيرية والتي كانت الباب المفتوح لمعظم التجارب التي قدمت المخرجين المسرحيين الكبار في مصر.
وهنا كان يأتي دور النقد المسرحي، والذي كان دوراً رفيعاً في مستواه المهني والمعرفي والأخلاقي ومصدقاً ومؤثراً ويلقى ترحيباً واعترافاً وصدى لدى دوائر صنع القرار في المجتمع المسرحي وإدارة المؤسسات. وكان في كل جريدة كبرى في مصر مجموعة من النقاد، وبينهم ناقد بارز، وكان رؤساء التحرير يحرصون على وجود هذا الشخص المختص ويفتحون له الأبواب، وكانت مهنة النقد أيضاً تدر العوائد المادية المناسبة لأهلها القانعين بالدور وأهميته وعوائده الرمزية الأخرى. جدير بالذكر أن الإشارة السابقة هنا لمرحلة الثمانينيات/ التسعينيات المصرية وما تلاها حتى ما قبل 2011 بسنوات قليلة. ويبدو أن ذلك سيدفعنا لخلق مرحلة تستحق الرثاء والحنين للماضي القريب، بينما كانت الستينيات المصرية هي مرحلة الرثاء الدائم والحنين المتقد لنا. في مرحلتنا الثانية التي نرثي لها ونحن إليها أذكر من رموزها في الإدارة، كرم مطاوع، عبد الغفار عودة، السيد راضي، سمير العصفوري، شوقي خميس، حسين مهران، وغيرهم.
فهل انتهت تلك المرحلة وباتت بكل ما كان عليها من ملاحظات وبكل ما لاحقها من ملاحظات؟ مركزاً للحنين والرثاء، وهى مرحلة بكل حيويتها لازمتها أحاديث المسرح وأزمة المسرح، والتي كانت عنواناً منتظماً للصحف وللمؤتمرات الكبرى بل ودخلت في اهتمامات دوائر رسمية كبرى. كانت الهيئة العامة لقصور الثقافة في المسرح هي بيت اليسار الثقافي المصري التقليدي تحت بصر وسمع الدولة، بل وعبر إرادتها القوية للحفاظ على الثوابت الوطنية المصرية، وإن تناقض ذلك مع متغيرات عالم السياسة وعلاقتها بالممكن وبالمصالح المتغيرة، وكان ذلك حقاً مدرسة للجماهير العامة ودرساً في علاقة السياسة الثقافية بالسياسة العامة للدولة. وهو الأمر والدور الذي تم تفكيكه بالتدريج، وصارت الهيئة الآن تبحث عن معنى لوجودها ولدورها في الحياة العامة الثقافية وغيرها، وهكذا بدأت تطرح أسئلة الاستثمار الثقافي، وهو ما يتناقض مع قرار الإنشاء الذي جاء بها للوجود، ولم يتغير حتى الآن، مما يجعلها تبدو وكأنها تصارع نفسها بنفسها لتهدر كل طاقتها وأدواتها المستقرة. ولذلك أصبحت تعاني من سؤال هوية يحتاج معها إلى قرار حاسم ورؤية واضحة، فهي بيت الهواية الأول، وكان التطور الطبيعي لروادها الذين تحتفل بهم الآن الإدارة العامة للمسرح مثل رشدي إبراهيم وعبد المقصود غنيم وفوزي فوزي وغيرهم هو دوراً نصف احترافي ساهم في ترسيخ علاقات وثيقة مع الجمهور العام في أقاليم مصر، كما كانت الهيئة تلعب دوراً هاماً في كون مؤسساتها المنتشرة في ربوع مصر هي المعرض العام الدائم للفنون الاحترافية والتي كانت في المتن الثقافي المحترف، وكم سافرت إلى هناك تلك العروض. ولذلك يجب أن نعود إلى المتن، ونسأل كيف تغير؟ مع اختفاء الدعاية المحترفة من البيت الفني للمسرح والبيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية، وغياب لافتة الإعلان الرئيسية أين تذهب هذا المساء من التليفزيون المصري ومن الصحف اليومية، وغياب دعاية الشارع التقليدية، هرب النجوم بحرصهم على الاحتراف، إذ أن المتن المحترف هو احتياجات الإنتاج مع الدعاية اللازمة كي يعرف الجمهور : من يقدم ماذا وأين ومتى؟ وهى الشق اللازم للحفاظ على المال العام، فكيف أقدم منتجاً يقوم على حضور الجمهور ثم أتركه بدون دعاية محترفة؟!!! ومع غياب الركن الثاني للاحتراف هربت معظم النجوم اللامعة بعيداً عن مسرح الدولة إلا قليلا ممن يكافحون مرة ثم يبتعدون مرات عديدة، خاصة مع ضعف تام للمقابل المادي بالمقارنة للدراما التليفزيونية والمراكز الفنية الجديدة في الوطن العربي. وفي تناقض حاد للمؤسسات الثقافية المصرية، يتم بشكل منتظم ومرتب وواضح شغل المتن وقيامه على إبداعات الجدد والهواة، إذ صار نموذج مركز الإبداع هو نموذج المتن حيث يأتي الهواة للحصول على دورة تدريبية يقوم عليها عدد من غير المختصين بمهمة التدريس ومن غير الحاصلين على مؤهلات في هذا الصدد، ثم يصبحون هم المتن الذي على الجميع الاحتفاء به، مما يؤدي إلى غياب النصوص الهامة والعروض التي تتواصل مع الشأن العام المصري وغياب هويات المسارح وأدوارها الاختصاصية، إذ يقدم المسرح القومي عملاً غنائياً استعراضياً، ويقدم قطاع الفنون الشعبية عملاً ضاحكاً، ويصبح على المؤلف المسرحي تتبع أسماء مسرحيات مثل غريبة جداً، ويصبح المشهد عبثياً ويحرم الجدد من فرص العمل مع المحترفين ونضج أدواتهم بالتدريج، مع رفع لافتة كامل العدد. أعرف جيداً أن التسويق وإدارة التسويق الحاضرة في المشهد ذات صلة بالعلاقة الشخصية لبعض من الممثلين بشركات بيع التذاكر، وأعرف جيداً أيضاً أن إدارة التسويق تعمل وفقاً لتوجيه الإدارة مما يجعل الشخص الغامض هو صاحب الإرادة الوحيدة في حضور وغياب الجماهير، ودون مساواة في إتاحة الفرص للجميع، مما يجعلها تبيع التذاكر في اتجاه، ثم تترك اتجاهاً مختلفاً بعيدا عن الحضور الجماهيري. وبالتالي فمسألة إدارة التسويق فقط هي مسألة غير عادلة، وغير مهنية وغير صحيحة إنها تضع العروض المسرحية في قبضة من يقوم بالتسويق كي يرفع في وجوه أهل المهنة لافتة كامل العدد عندما يريد ذلك، مع غياب للنقد المسرحي الذي هو تمييز وتفسير وتحليل وتقييم، وحضور لمناقشات بسيطة ذات طابع شخصي على وسائل التواصل الاجتماعي. مما يؤكد فكرة انهيار المتن والهامش لاستبدال المتن بالهامش والهامش بالمتن، وغياب الأدوار التي حولت نفسها إلى مراكز مستقلة لصناعة ما تشاء، وكأنها تعمل مستقلة عن السياق العام، وذلك لغياب فهم تلك الأدوار الثقافية التاريخية. وانفصال السلطات الإدارية الصغيرة المتعددة بجزر مستقلة تمارس نوعاً من الثقة المفرطة، تلك الثقة التي تتصرف وكأنها تملك وحدها الحقيقة الصحيحة بقوة القرار الإداري. يحدث ذلك لغياب سلطة المحاسبة والمتابعة، ولغياب الخطة الثقافية الشاملة. وفي هذا الإطار، ومع مشروعات متعلقة بالحلم هنا وهناك، وهو حلم مشروع ولا يجب استخدامه بلا افق ولا نتائج احترافية حقيقية، نحتاج إلى أحلام ممكن ان تتحقق وليس أحلام صانعة للبطالة والإحباط، يحدث ذلك مع تفعيل دور عدداً من المراكز الهاوية والموازية. وبدأت عملية تسلل لسحب دور أكاديمية الفنون التاريخي في تعليم الفنون، مع ملاحظة السهولة وحضور الهواة في نقاط التواصل مع الجمهور العام في الأكاديمية، وغياب الإنتاج المحترف مثل مسرحية كاليجولا والتي قدمها نور الشريف وطلاب وأعضاء هيئة التدريس بالأكاديمية في التسعينيات المنقضية إخراج سعد أرش، وهى المحاولة التي تجعل خريجيها يبدون وكأنهم من زمن قديم لا يناسب هذا الواقع الجديد، الذي جعل من حداثة التجربة ووهج بداياتها الهاوية متناً. مما أطاح بكل الأدوار التاريخية للمؤسسات الثقافية الرسمية، ثم سافر المسؤولون عنها معطلين عملها لأخذ نجوم الفن المصري لمواسم خارج مصر، وتقاضوا فيها الملايين الكبيرة، بينما تركوا المتن المصري المحترف مرتعاً للهواة وساحة مخيفة لصغار الإداريين، والتهاب حاد لأعصاب الجدد تحول لعدوانية صارخة على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي المكاتب الفنية التي توزع الاتهامات على كبار الفنانين، ومكاناً يهرب منه النجوم، وتراجع في الأجور والانتظام المهني، ووحدات إنتاجية منفصلة لا رقيب عليها. ولذلك عندما نسأل عن الدور المحوري القيادي للمسرح المصري يرد علينا هؤلاء بلافتة كامل العدد، مع صياغات مذهلة لاصطياد النقاد، أو من بقي منهم فهم يرفضون النقد، لأنهم كامل العدد في صخب إجازة العيد. ويتركون التاريخ والحاضر والمستقبل والإبداع المصري في مهب الريح، ولا مكان بينهم للإبداع المصري المعرفي والجمالي. يحتاج الأمر إذن إلى مراجعة شاملة كي يعود المسرح المصري وجه مصر الحضاري المشرق.