عاجل
الجمعة 2 أغسطس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي

منال خليل تكتب: "تلك المرأة"

منال خليل
منال خليل

من أين لي كل هذا الشعور بالدفء.. الروحانيات،



كلما أخذتني قدماي وقلبي لزيارة حينا القديم، كل زيارة.. أشعر كما لو أنه يلفني الهدوء وسكون الروح عندما اقترب من أول الحارة التي كانت تقطنها أمي،  ملامح المنطقه، ناصية الشارع.. الدكاكين والحوانيت،  عم رفيق البقال مع ربع الجبنة اليوناني وثمن البسطرمة، محل عصير القصب.

عم عيد العلاف وشكل شكاير البقوليات المنضبطة الألوان مع أحبال البامية الناشفة مشبكة بنظام وزهو كما الزينة.

 عم شعبان بتاع العيش والبيض البلدي والحلاوة الشعر،   أتذكر رائحة السلالم الرخامية البيضاء المغسولة ولون وشكل باب البيت ذي الضلفتين وجمال الخشب المحفور مع الحديد والسقف العالي.

 اقترب من بسطة السلالم أكاد أشم رائحة الطبيخ وأسمع صوت شهقة طشة الملوخية، يجاورها طاسة قلية الفراخ المحمرة.

 أكاد أسمع صوت أمي، وكلمه أيوه يا حبيبتي أنا هنا..  من على أعتاب المطبخ عندما كنت أناديها بلا هدف.. فأنصت أكثر. فجميعنا تربينا وأذاعتدنا قول يا ماما أول ما أقدامنا تخطي عتبة باب البيت..  وكأننا نطمئن على الأمان والصحبة والرحمة والخير أنها مازالت ملء المكان.. لندلف آمنين. 

 صوت الراديو على إذاعة القرآن الكريم وتواشيح النقشبندي، ولكن رائحة وطعم البيوت يبدأ وينتهي عند عتبة  "تلك المرأة".. بثوب البيت ذي الورود المبهجة والإيشارب الزهري والوجه المبتسم الراضي.

 بعد أن أتممت جولتي بالمطبخ وطفت بالنملية الخشبية بلون الأخضر الفاتح والشراشف البيضاء.. وقد علاها اصفرار الزمن وتغيير الفصول وغياب "تلك المرأة" وغاب خلفها  كل ما هو جميل وحاضر المحبة والكرم،   مررت بيدي على الهون النحاس مازال بمكانه.. 

ومخرطة الملوخية بالدرج الخالي من مقبضه..

 ألقيت بأنظاري هنا وهناك أبحث عن دماسة وقدرة الفول والسبرتاية، وقد كنت عقدت النية على الاستيلاء عليهم لعلي أشم رائحة فول الخير وقهوة المغارب.. لأحظىَ بمساء خير مع زوجتي وحبيبتي مساء بمذاق البركة والذكريات.

 فتحت شيش شباك الصالة الواسعة وسندت ذراعي على السور مبتسم ومتسائلا أين هو طبق الترمس الآن أو كوب حمص الشام المشطشط ومحادثات البلكونات.  وأنا هنا يا بن الحلال بصوت صباح.

  جمال بنت الجيران بأول شارعنا، أظرف الجوابات ورسايل الغرام البريء وأحلامنا الحلوة.

 ما زلت أرى طنط نزيهة ببلكونة الدور التاني وبيدها طبق لب البطيخ المقلي.. منتظرة عودة عم صدقي من الشغل لتنزل له السبت ليضع فيه أكياس الفاكهة علشان ميشلهاش على قلبه وهو طالع السلم.

 أين ذلك الجامع الزينة الكبير والذي كان يتوسط عرش أحبال الزينة الألوان من السوليفان وفروع الأنوار باللمبات الملونة بلون الفرح والبهجة والتي كانت تصل ما بين البلكونات.

فقد كنا نتسابق على عمل أجمل فانوس وأجمل جامع يشترك في تصميمه وعمله شباب الحي وأجمل حارة وأجمل ناصية شارع يتعالى منها أغاني رمضان وصواريخ الاحتفال، الإفطار الجماعي بطول الشارع وفرحة الجيران.    كان الشعور بالرضا والرزق والبركة يفوح من مداخل البيوت والقلوب وشراعات أبواب الجيران،  جمال الصبايا وحياء الفتيات ومجالسهن قبل ميعاد العودة وكان غالبا ما بين المغرب ولا يتجاوز أذان العشاء.  كنا لا نحتاج لهواتف أو ساعات، فالقلوب والأذهان مظبوطة على توقيت ترابط الأسر ومحبة الجيرة وحضن الأم.. أو الأخت الكبرى.

تلك المرأة القاسم المشترك والهرم الأكبر بكل العائلات.

 أخذت أبحث بين الأطباق والحلل عن ذلك الطبق المزركش الذي كان كمرسول الحب محملا بالخيرات من الحلويات البيتي، الكحك أو الرز بلبن.. أو حتى طبق الكشك والبصارة بين الجيران.   كانت كل مشاعر الحب والاحتواء تتصاعد من أعتاب أقدام الأمهات.. جوهر البركة والتبريكات.    المرأة الحنون المتسامحة والزوجه الودودة..  فأين هي الآن! مطحونة، مغلوبة.. ربما!

 تلك المرأة مكافحة معاندة صامدة كالجبل أكيد.

 تلك المرأة التي وضع الله في قلبها فيضا من الصبر والاحتمال والمحبة وإن لم تلد يوماً، فهي أم بالفطرة حبيبة ولطيفة وقريبة لمن أحبها بصدق.

"ما كانتش تحب اللون، الباهت  ما كانتش تحب الميّة الفاترة، وكانت  لما بتكره، تكره موت وأما تحب، تحب صبابة وأما بتحزن، تبقى ربابة وأما بتفرح، يبقى الفرح على البوابة، كانت زى الشمس وكانت، لما بتغضب تبقى..  مهابة".. كما وصفها بالريف شاعر العامية زكي عمر. 

 - فدائما ما كانت وستظل المرأة والأم المصرية قوية وعفيةو مُلهمة...  - سيدتي:  أنتِ.. العظيمة بذاتك وأنتِ الجميع  دُمتي بجانب رجلك ومع ابنك وابيكِ وأخيكِ ساندة وشايلة ومحبة، ست الكل وست البنات الحبيبة دوماً "أنتِ جذر الشجر الطيب.. أنتِ الأرض والثبات".

 سلاماً طيباً على كل من لم تتخل عن أنوثتها الفطرية وحافظت على ممارسة طقوس أنوثتها مع زوجها في مقابل كل التحديات والتغيرات فحافظت على عفتها وكرامتها وأذكر مقولة د.مصطفى محمود رحمة الله عندما أوصى  الأولاد فى كتابه الخروج من التابوت: "ضاعف الخبز الذي تُعطيه لأمك، واحملها كما حملتك؛ فقد كنت عبئاً ثقيلاً عليها، ولكنها لم تتركه للآخرين يحملونه".

   فسلامّا محمل بالزهور والاحترام وكثيراً من الحب أيتها المرأة التي تفيض أمومة، يدوم العِز والعِزة ودام وجودك وإن لم يقل أحد لكِ  بعيدك: أنا أحبك     - نقول لكِ نحن: نحبك كثيراً بكل يوم   فأنتِ الحب والحضن الأول والحقيقة الوحيدة بحياة كل المخلوقات.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز