د. حسام عطا
الآثار الصامتة ووسائل التواصل الاجتماعي.. عن جدل كساء هرم منكاورع
في غمرة الأخبار المدهشة حول مشروع إعادة الكساء الخارجي لهرم "منكاورع" الهرم الأصغر، من أهرامات الجيزة، بدا لي الأمر جاذباً جداً ودالاً على حالة متكررة ومستحدثة في مصر الآن.
ألا وهي دور وسائل التواصل الاجتماعي في التأثير على الرأي العام وقدرتها على التكاثر السريع، الذي ينعكس بدوره على وسائل الإعلام التقليدية المتعارف عليها من الصحف والقنوات التليفزيونية والمواقع الإلكترونية صاحبة البوابات الإعلامية.
ويبدو أن د. مصطفى وزيري أمين عام المجلس الأعلى للآثار في مصر يعرف ذلك جيداً، فقد اختار إطلاق المشهد الأول وهو إعادة تركيب جزء من الأحجار الجراتينية الأصلية المتناثرة حول الهرم الأصغر، هكذا قال بنفسه في مشهد واضح لا التباس فيه.
وقد تم إطلاق الخبر المصور مذاعاً على صفحته بتطبيق فيسبوك، ومن هنا بدأت سلسلة متدفقة من ردود الأفعال المختلفة.
وكان الطرف الثاني ممثلاً في د. مونيكا حنا المختصة في الآثار، وعميد كلية الآثار والتراث الثقافي في أسوان والتابعة للأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري.
وقد اعترضت على المشروع اعتراضاً عاماً، ولجأت إلى تسمية ساخرة استخدمت العامية المصرية فيها بالإشارة لمشروع إعادة كساء هرم منكاورع، والذي تقوم على دراسته بعثة يابانية مصرية وبإرادة الدولة المصرية ممثلة في المجلس الأعلى للآثار، وهذه العامية الساخرة جاذبة جداً لعالم وسائل التواصل الاجتماعي فصار العنوان هو "تبليط الهرم" والإشارة لا تخلو من سخرية تجعل البعثة المصرية اليابانية في دور الفاعل "المبلط" أي صانع تركيب البلاط الشهير في الحياة المصرية، وهي مهنة رائعة وضعت بيوتنا ومنشآتنا في حالة من "البلاط" الذي يحمي من الأتربة وخلافه.
وبالتأكيد لا يمكن وصف البعثة العلمية بهذا الوصف الساخر. الأكثر إدهاشاً هو تكاثر ردود الأفعال عقب دعوة د. مونيكا لكل الهيئات المصرية والعربية المختصة بالترميم لإيقاف المشروع، حفاظاً على قيمة الأثر الحضاري المصري الإنساني الكبير.
ومن هنا بدأ وزير السياحة والآثار وأمين عام المجلس الأعلى للآثار في الدفاع عن المشروع، وكان الخلاص من الأثر الإعلامي المتدفق يكمن في الإعلان عن تشكيل لجنة علمية متخصصة بها خبراء من مصر والعالم وإشراك اليونسكو في عمل تلك اللجنة حتى تتم الدراسة العلمية للمشروع ومن ثم البدء بتنفيذه بمنحة يابانية مقدمة لمصر في هذا المشروع.
ولست مختصاً في علم الآثار المصرية القديمة، ولذلك فدافع اهتمامي بالأمر هو تحليل الجدل المثار وطابعه الاستقطابي ما بين مشروع القرن، وتدمير الهرم الأصغر، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي وقدرتها على المساهمة في صناعة القرار وتشكيل الرأي العام.
جدير بالذكر أن إطلاق المشروع كان يحتاج أولاً للانتظار لتأمل قرارات اللجنة العلمية، وتأمل ودراسة قراراتها، وإذ أؤكد أن تلك اللجنة مهما بلغ علو القامات العلمية بها ليست إلا لجنة لإبداء الرأي أما التنفيذ فهو مسؤولية المجلس الأعلى للآثار، وعليه يقع عبأ الدراسة العلمية والحضارية وتأمل النتائج العامة، ورؤية المنطقة الأثرية ككل بهرم واحد يحمل الكساء بينما الأكبر والأوسط بلا كساء حتى لو كانت هذه هي الحقيقة العلمية التاريخية.
ولذلك أناشد المسؤولين عن الآثار المصرية إدراك أن القرار هو قرارهم، والمسؤولية الكاملة تقع عليهم في اتخاذ القرار وليس على اللجنة العلمية، ولا على اليونسكو.
كما يمكن ملاحظة إدماج كل ما هو جديد يستهدف مشروعاً مصرياً كبيراً في مساحات الاستقطاب الواسعة، ولذلك يجب الحرص البالغ في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كتعبير عن رأي ومشروعات وقرارات مؤسسية، والعودة للوسيلة الأصلية وهي المؤتمر الصحفي الموسع للهيئات والمؤسسات المصرية الكبرى، وبحضور المراسلين الذين يستخدمون ما يحلو لهم من وسائل التواصل الإعلامي ليصبح الأصل هو المؤتمر الصحفي الرسمي.
كما أود في أمر متصل التذكير بأن صفحات المؤسسات العلمية والأكاديمية والثقافية الكبرى صارت وسيلة لنشر مجموعة من الأخبار والتهاني والتعازي وإعلان الأحداث الصغرى ومتناهية الصغر، مما يضيع معها بريق المشروعات الكبرى عند إطلاقها من ذات الوسائل، مما يجعل تلك المؤسسات الكبرى محل تقدير القياس النسبي لقدرة وسائل التواصل الاجتماعي على الانتشار وهي مسألة تجعلها في وزن نسبي مساوٍ للوزن النسبي للأفراد والهيئات الخاصة المتعددة، ولذلك فيجب أن تعيد الكيانات الكبرى المؤسسية حضورها عبر وسائل التواصل الاجتماعي حفظاً للوقار المؤسسي، وعدم إتاحة القرارات المهمة للجدل المتصل على ذات الوسائل والذي ينتقل من العالم الافتراضي إلى الكيانات الإعلامية التقليدية والواقع المعاش والأفراد والمؤسسات في مصر وكل جهات الدنيا الأربعة.
وقد حاولت التواصل مع د. مصطفى وزيري للحصول على معلومات مدققة، فكان رده الذي فهمته أن تصريحه الأخير بشأن انتظار قرار اللجنة العلمية يريده أن يكون تصريحه الأخير، وقد شكرته محترماً لإدراكه لخطورة التكاثر الإخباري الإعلامي وتفاعله مع وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة.
وإذ تأتي عائلة وزيري في إطار اتصالي الشخصي بهم عائلة عاملة في مجال المصري القديم، وهم من أهل الخلق والكرامة والعلم رفيع المستوى، ولذلك أدركت تحفظ د. مصطفى وزيري عن التصريحات المجددة حرصاً على توقف الجدل المثار.
وإذ نثق في علماء الآثار في مصر وإخلاصهم ومهنتهم يجب أن ندرك الدرس المستفاد في تلك المسألة، وخطورة إدماج وسائل التواصل الاجتماعي في القرارات والمشروعات الكبرى.
ويبقى في سياق متصل التذكير بأن فصل المجلس الأعلى للآثار عن وزارة الثقافة المصرية وإلحاقه بوزارة جديدة، لا يمكن معه فصل الآثار المصرية على إطارها الثقافي الحضاري.
إذ إن المشروعات الكبرى التي تنتظرها في هذا السياق كمشروعات للقرن، هي مشروعات يمكن إدماجها في مشروع كبير هو إعادة إطلاق القيم الثقافية والمعرفية للحضارة المصرية القديمة، أول حضارة في التاريخ الإنساني. ولعل حضور البعثة اليابانية يذكرنا بذلك الحضور للقيم الثقافية التاريخية لأرض الشمس اليابان في نهضتها المعاصرة.
وهو ما شاهدته خلال زيارتي لطوكيو عاصمة اليابان، وكيوتو العاصمة القديمة، وقدرة اليابان المعاصرة على إدماج الآثار القديمة بها مع الحياة اليومية المعاصرة، وإحياء التقاليد الثقافية القديمة في إطار حداثي، وهى ذات القيم الأصلية في مصر القديمة من احترام للعدالة والعمل وحسن الخلق.
وأيضاً إدماج الآثار في محيط خلاق من التنسيق الحضاري الذي هو امتدادها الطبيعي، وإعادة إنتاج الفنون والملابس والاحتفالات المصرية القديمة لإدماجها مع الآثار المصرية، حتى لا يبقى الأثر صامتاً، بل حياً معاصراً متجسداً بكل قيمه الثقافية المعرفية النبيلة.