النيجر وليست أوكرانيا الحرب العالمية تبدأ من إفريقيا
هدى المصري
التنافس فى إفريقيا وعلى إفريقيا بين القوى العالمية، تحول إلى صراع انكشفت فصوله بصورة كاملة فى أحداث النيجر الأخيرة.
النيجر هذا البلد الأفريقى ذو الأغلبية المسلمة (الإسلام دين الغالبية العظمى من السكان، وتبلغ نسبتهم أكثر من 99.3 %)، والذي يقع فى قلب القارة وفى منتصف الطريق بين أوروبا وجنوب إفريقيا، إحدى الوجهات الأكثر نشاطا، دخل فى دائرة جديدة من عدم الاستقرار عقب الأحداث الأخيرة التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس محمد بازوم، المقرب من فرنسا والولايات المتحدة.
لتصبح النيجر ثالث دولة فى منطقة الساحل فى أقل من ثلاث سنوات، بعد الجارتين مالى وبوركينا فاسو، التي تشهد أحداثًا متشابهة. حيث أدى التمرد العنيف إلى ضعف الحكومة، وأثار الغضب فى الجيش، كما أطلق العنان لهزات اقتصادية شديدة الوطأة على السكان فى واحدة من أفقر دول العالم.
وقد شهدت عمليات الإطاحة بالحكومة فى النيجر ما شهدته كل من مالى وبوركينا فاسو من قبل، من مظاهرات مناهضة لفرنسا الحليف التقليدى للبلاد، فى مقابل تأييد لروسيا التي يتوسم فيها المتظاهرون أن تكون الحليف المستقبلى الأفضل.
انتكاسة جديدة لفرنسا
التوترات التي حدثت فى النيجر الغارقة فى الفقر رغم ثرواتها الطبيعية وامتلاكها لمجموعة واسعة من المعادن التي تلعب دورًا مهمًا فى اقتصاد الدولة أبرزها اليورانيوم والفحم والذهب وغيرها، يصفه البعض بأنه ضربة جديدة فى ذلك البلد الصغير لفرنسا التي بات نفوذها التاريخى فى تراجع مستمر فى القارة السمراء منذ فترة. ما جعلها تلوح بالتدخل الفورى إذا تعرضت مصالحها أو دبلوماسيوها ومواطنوها لأى أضرار، مما يطرح تساؤلا عما إذا كانت تلك الضربة للوجود الفرنسى فى النيجر قد تمت بالقبضة الأمريكية أم الروسية أم الصينية؟
ضربة روسية أم أمريكية
على الرغم من أنه منذ اليوم الأول للاحداث فى النيجر والأنظار تتجه إلى موسكو التي يرى البعض أن لها دورا فى أزمة النيجر أو على أقل تقدير تتحين الفرصة لتوجيه ضربة إلى المصالح الغربية على وقع الحرب المستمرة فى أوكرانيا.
فالتوتر السياسى الذي اندلع فى مالى عام 2020 قام فيه المجلس العسكرى الانتقالى فى البلاد بإحلال قوات فاغنر الروسية محل القوات الفرنسية التي انسحبت العام الماضى، مثلما انسحبت من بوركينا فاسو بعد انقلابين العام الماضى حيث تبنت الجماعة العسكرية الحاكمة هناك خطًا قوميًا شعبويا.
ما دفع باريس إلى إعادة تشكيل استراتيجيتها المناهضة للجماعات المسلحة التي استمرت عشر سنوات فى منطقة الساحل، مع تركيز جهودها فى النيجر، حيث إن لديها 1500 جندى وقاعدة جوية رئيسية بالقرب من نيامى.
فى ظل هذا التجاذب الروسى الغربى فى أوكرانيا والذي يعطى للفشل الفرنسى فى النيجر بعدا إضافيا فى سياق محاولات موسكو الرد على العقوبات الغربية، عبر فتح كل ما أمكن من ساحات جديدة للصراع مع الغرب، والذي باتت القارة السمراء أبرز معاقله.
دلالة رمزية
تزامنت الأحداث الأخيرة مع انطلاق النسخة الثانية من القمة الروسية - الأفريقية فى سان بطرسبورغ، والتي كانت الورقة الأمنية فى القارة الأفريقية حاضرة فيها.
إلا أن بعض المحللين، يذهبون إلى الاعتقاد بأن تلك اللكمة التي وجهت لفرنسا فى القارة السمراء ربما جاءت بالقبضة الأمريكية وليست الروسية، لأن تلك القوات تلقت تدريبًا ودعمًا من الولايات المتحدة الأمريكية، وأدانت الولايات المتحدة، التي تعوّل على النيجر فى مكافحة الجهاديين فى منطقة الساحل، بشدّة إطاحة الرئيس محمد بازوم.
وفى حين كانت فرنسا من أولى الدول التي أمرت بتعليق مساعداتها المباشرة وبإجلاء رعاياها ورعايا دول أوروبية أخرى، لم تقرر الولايات المتحدة إلى الآن لا تعليق المساعدات ولا إجلاء مواطنيها.
فيما يرى خبراء آخرون أن هدف الولايات المتحدة من ذلك هو أن يكون هناك «نافذة» مفتوحة للدبلوماسية ولإعادة الرئاسة إلى بازوم، مشيرين إلى دعم واشنطن للرسالة الحازمة التي وجهتها دول غرب إفريقيا لطرفى النزاع.
إذ أبدت واشنطن دعمها الكامل لموقف الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا إيكواس والتي أعطت المجموعة العسكرية فى النيجر مهلة أسبوع «لاستعادة الانتظام الدستورى».
ميزة استراتيجية لموسكو
ويؤكد هؤلاء الخبراء على أن ما حدث فى النيجر يهدد بتعطيل الاستراتيجية الأمريكية بأكملها لمحاربة الجماعات الإسلامية الأكثر تشددًا أثناء توسعها عبر غرب أفريقيا، وربما يمنح روسيا ميزة استراتيجية فى الوقت الذي تحاول فيه توسيع نفوذها فى المنطقة بحسب صحيفة «وول ستريت جورنال»، بخاصة أن محور النهج الأمريكى تجاه الأمن الإقليمى تركز فى إرسال قوات خاصة أمريكية لتدريب نخبة القوات فى النيجر لمواجهة تنظيمى «القاعدة» و«داعش»، اللذين انتشرت أيديولوجيتهما العنيفة بسرعة من الشرق الأوسط وجنوب آسيا إلى منطقة الساحل.
ووفقًا لموقع «بوليتيكو» الأمريكى، قد يكون تغيير النظام فى النيجر بمثابة ضربة للغرب وبشكل أكثر تحديدًا للولايات المتحدة وفرنسا، اللتين تربطهما علاقات قوية بالدولة الواقعة فى غرب أفريقيا، ذلك أن رحيل بازوم القسرى سيمثل انتكاسة أخرى فى المنطقة، بعد أشهر فقط من انسحاب القوات الفرنسية من بوركينا فاسو ومالى المجاورتين، الذي عكس تضاؤل نفوذ فرنسا فى غرب أفريقيا بشكل كبير فى السنوات الأخيرة، وما يجرى الآن يهدد وجود حوالى 1500 جندى فرنسى آخرين فى النيجر..
الصخب الغربى
لهذه الأسباب كان هناك تنديد وصخب غربي مع أحداث النيجر، بالرغم من أن القارة الأفريقية قد شهدت عشرات الاحداث، معظمها مر فى هدوء، لكن توترات النيجر تميزت بهذا الصخب الأمريكى والغربى والتهديدات بالتدخل العسكرى لإعادة الرئيس المخلوع، إذ لوحت فرنسا بالتدخل الفورى إذا تعرضت مصالحها أو دبلوماسيوها ومواطنوها لأى أضرار، ودعمت واشنطن عقد دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا «الإيكواس» اجتماعا عاجلا، وإعلانها أنها مستعدة للتدخل العسكرى لإعادة الرئيس الشرعى إذا لم يعد تنتهى هذه الاحداث فى غضون أيام، وأن كانت فكرة التدخل العسكرى تراجعت لعدة أسباب أبرزها المظاهرات الحاشدة التي خرجت تأييدا للحكومة الجديدة، وهاجمت السفارة الفرنسية، وهتفت بسقوط فرنسا، ورفعت أعلام النيجر وروسيا، الأمر الذي يؤكد أن الحكومة الجديدة لها قاعدة شعبية لا يستهان بها، أما الأهم، فكان إعلان بيان مشترك لكل من مالى وبوركينا فاسو المجاورتين أن أى تدخل عسكرى فى النيجر سيعنى إعلان الحرب عليهما، فى إشارة للاستعداد لخوض حرب جماعية ضد أى تدخل.
داعش وأخواتها
وهذا ما يفسر عودة تنظيم القاعدة للنشاط مرة أخرى فى «مالي» عقب رفضها التوجه الغربى للتدخل العسكرى فى «النيجر» لإعادة الرئيس المخلوع الموالى للغرب.
ليس تنظيم القاعدة فقط ولكن داعش أيضا التي عاودت نشطها بشكل مكثف فى مالى وبوركينا فاسو مرة أخرى.
مثلث الموت
فقد هاجم مسلحون من تنظيم داعش مؤخرا جنودا ماليين يرافقون شاحنات فى طريقها إلى دعم النيجر المجاورة فى مواجهة تهديدات غزو فرنسا وحلفائها للنيجر، لتثبت جماعة داعش أنها قوة أممية لمواجهة الانقلابات المناوئة للغرب.
وخطة هذا التنظيم الإرهابى فى الساحل هو إعاقة أى تعاون عسكرى بين الدول الثلاث (مالى والنيجر وبوركينا فاسو) وجعل هذا التعاون ضربًا من المستحيل، بعد سيطرته على الحدود. حيث يسيطر تنظيم الدولة، ويتحرك فى مجال واسع اشتهر بـ«مثلث الموت» الواقع بين الدول الثلاث مالى وبوركينافاسو والنيجر، ويقارع منافسه القوى تنظيم النصرة التابع للقاعدة، والمعروف أيضا باسم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين».
وأضحى التنظيم حائلا بين الدول الثلاث التي قررت الخروج من العباءة الفرنسية، والتعاون فيما بينها، بعد أن صعب الحركة عبر حدودها، هو ومنافسه القاعدة رغم استعانة مالى بقوات فاغنر الروسية فى تحركاتها، والتي أصبحت بدورها هدفا سائغا للتنظيمين.
كما ظهر سباق لفيديوهات «استعراض القوة» بين جماعات تابعة لتنظيمى داعش والقاعدة الإرهابيين فى منطقة الساحل وغرب إفريقيا، يحمل رسائل تهديد لحكومات المنطقة المشغولة فى تداعيات أزمة النيجر، ووعيدا بمحاصرة مدن.
اللاعب الجديد
فيما تذهب وجهة نظر ثالثة، إلى أنه فى ظل ما تشهده النيجر حاليا من أحداث داخلية،وتدخلات خارجية متمثلة فى كل من روسيا وفرنسا وأمريكا، يظهر لاعب رابع أقوى من منافسيه الدوليين الآخرين يتابع النيجر عن كثب، هذه اللاعب هو الصين.
فلقد ارتبطت الصين بعلاقة وثيقة مع النيجر بداية من عام 1996. ومنذ ذلك الوقت تطورت العلاقة بين البلدين، حتى وصل إجمالى الاستثمار الصينى فى النيجر إلى ما يقارب الـ3 مليارات دولار فى نهاية عام 2020، مما يعنى أنها تتربع على مشاريع استثمارية كبيرة هناك إلى الآن، ووصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى 993.6 مليون دولار أمريكى عام 2022، علاوة على أن النيجر تمثل أرضًا خصبة للصين فى مصادر الطاقة التي يشكل اليورانيوم أهمها. هذه الأسباب تفسر لماذا تتابع الصين النيجر؛ وذلك بالطبع للمحافظة على اقتصادها واستثماراتها هناك.
بشكل عام النيجر هى ورقة رابحة لمن يستطيع امتلاكها، لكن تختلف الدول فى طريقة التعامل معها، حيث وصف الخبراء أن فرنسا وأمريكا لديهم سوء إدارة فى التعامل مع العلاقات الخاصة بالنيجر، إضافة إلى أن النيجر تحمل فى طياتها كرها وحقدا للغرب؛ نظرا للتاريخ الاستعمارى الذي يربط الغرب بالنيجر، وهذا يزيد الأمر صعوبة فى وجه أمريكا وفرنسا.
على الجهة الأخرى، يرى محللون أن المعسكر الشرقى -روسيا والصين- يبدع فى التعامل مع شعب النيجر، حيث التواجد والدعم العسكرى الروسى هناك بكثرة، بالإضافة لتوفير الحبوب والغذاء. والجانب الصينى أيضا يمارس سياسة ناعمة تتمثل فى استثمارات غير مسيسة أو مشروطة مثل: القروض الميسرة، ودعم البنية التحتية، والمشاريع النفطية التي تحقق نموًا وعائدًا كبيرًا للنيجر.
المحصلة النهائية لجميع هذه التدخلات الأجنبية: أن ساحة النيجر أصبحت أرضا ملتهبة، تتراقص فيها الأمم والقوى، لكى تُلبى المصالح والطموحات. فمن سينتزع زمام المبادرة فى هذه المنطقة المهمة؟ هل ستتمكن القوى الغربية من حكم المشهد، أم سيصعد الشرق للسيطرة على خيوط المصير؟
لكن هناك جوانب أخرى تدور حول إرادة وحرية شعب النيجر، هل سيبقى قادرًا على أن يختار مصيره دون التدخل القسرى؟ هذه المعضلة الداخلية والتدخلات الخارجية تجعل المستقبل لغزًا مثيرًا، ينتظر أن يكشف عن أوراقه بتحركاته المفاجئة.