أيمن عبد المجيد
قراءة في القمة الإفريقية الروسية من وحي الجلسة الافتتاحية
تمثل القمة الروسية الإفريقية، قمة التحدي الروسي، في معركة بسط النفوذ في مواجهة أمريكا والغرب على الساحة الإفريقية، فيما يمثل نجاحها فرصة للدول الإفريقية لاستثمار التنافس الدولي، في بناء شراكات عادلة لتحقيق المصالح المُشتركة.
أولًا: الشراكات العادلة بعد عقود من
استنزاف الثروات
تحولت ثروات القارة الإفريقية من نعمة، إلى نقمة على مدار عقود عانت فيها بلدان القارة من الاستعمار، وما خلّفه من آثار ما زال عدد منها يُعاني هزات سياسية حتى اليوم آخرها ما حدث بالنيجر بالأمس من الإطاحة بالرئيس المنتخب بواسطة الحرس الجمهوري.
ومع التحرر بدأ التنافس مع الأقطاب الدولية لبسط النفوذ في إفريقيا، وما إن انهار الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينيات القرن الماضي، حتى فقدت إفريقيا مزايا التنافس بينهما وفرضت أمريكا هيمنتها دون مكاسب إفريقية تُذكر.
مع تنامي القدرات الصينية، وانتهاج بكين سياسة القوة الناعمة لبناء شراكات المصالح المتبادلة، عادت لإفريقيا فرصها للتنمية، لكنها تنمية تدفع ثمنها مواد خام من ثرواتها، تفقد بتصديها فرصة توطين تكنولوجيا الصناعة، وما تخلّفه من قيمة مُضافة.
ومع استعادة روسيا قوتها، وتحوّلها خلال العشرين عامًا الأخيرة من مستورد للغذاء إلى مصدر لنحو 20% من سوق الحبوب العالمي، وتنامي قدراتها في صناعات التسليح والتكنولوجيا، وتنامي نفوذها، وصولًا لاشتعال الحرب الروسية الأوروبية في أوكرانيا؛ عاد لإفريقيا التنافس بين القوى العظمى على الشراكات.
ومع تنامي التنافس الدولي، في واقع مغاير، شهد تنامي قدرات الدول الإفريقية والاتحاد الإفريقي، بات خيار كل القوى الدولية التعامل مع إفريقيا كشريك مصالح حقيقية لا نفوذ وسيطرة استعمارية.
ثانيًا: نجاح القمة يحقق أهدافًا مشتركة
روسية إفريقية
أ-مكاسب روسيا:
١- بالأمس القريب شاهد العالم محاولة فاجنر التمرد، وهو ما استثمره الغرب في محاولة خلق صورة ذهنية زائفة حول تصدع النظام الروسي من الداخل، بينما الحقيقة أن بوتين تخلص من رأس فاجنر الذي يثير القلاقل، وأبقى على جسده ليؤدي الوظائف التي تم بناؤه من أجلها في إفريقيا وغيرها. وهذه القمة التي يشارك بها 49 من رؤساء الدول والحكومات والمؤسسات الإفريقية والدولية، في مدينة سان بطرسبرج، يصحح الصورة الذهنية عن قوة الدولة الروسية.
٢- حالة الحرب التي تخوضها روسيا في مواجهة الغرب على الجبهة الأوكرانية، تمتد إلى ساحة الاقتصاد، فسلاح العقوبات ومحاولات عزل روسيا هو السلاح الأهم لدى الغرب.
ومن ثم عقد تلك القمة الروسية الإفريقية الثانية، للبناء على الأولى، في ظل هذه التحديات، يمثل صفعة لسلاح الحصار الأوروبي، ومحاولة روسية للحد من مفعوله بمواصلة بناء الشراكات.
٣- تمتلك روسيا ثروة من الحبوب، تحتاج إليها إفريقيا، ومن ثم إعادة اتفاقية الحبوب مصلحة مشتركة روسية إفريقية، موسكو تسعى لزيادة وارداتها وتسويق إنتاجها، وكسر القيود غير الشرعية التي تفرضها أوروبا، وإفريقيا تحتاجها لتحقيق الأمن الغذائي والحد من موجات التضخم.
وهنا قال بوتين إن ما يوجه إليها من اتهامات زائفة وشائعات بتحميلها مسؤولية ارتفاع أسعار الحبوب، منافٍ للحقيقة، مشيرًا إلى أن الغرب استفاد من اتفاقية الحبوب لتوفير احتياجاته، وحرمان الدول الفقيرة.
وهنا تطرق بوتين إلى أن روسيا تمثل 20% من سوق الحبوب العالمي، بينما أوكرانيا 5% فقط، مشيرًا إلى توريد روسيا 11 مليون طن لإفريقيا عام 2021، وتنامي التبادل التجاري مع القارة هذا العام بنسبة 30%، تضاف إلى 18 مليار دولار حجم التعاون.
ومن هنا فإن قدرة روسيا على الوفاء بتعهداتها بعودة تصدير الحبوب، بأسعار مخفضة لإفريقيا، والإعفاء من تكاليف النقل، يمثل أهمية بالغة تمكن الدول الإفريقية التي تعاني من أزمات الغذاء من رفع قدرتها على تحقيق معدلات أعلى من الأمن الغذائي.
٤- حشد روسيا لكل مقومات قدرتها الشاملة وفي المقدمة القوى الناعمة
فقد لاحظنا في كلمة بوتين، رده على ما وصفه بالشائعات التي يروجها الغرب، ودعوته للشباب الأفارقة للمشاركة في منتدى سوتشي الدولي للشباب، المقرر عقده العام المقبل، وإشارته لما تقدمه روسيا من فرص في جامعاتها، والتي تزداد العام المقبل لتصل إلى 45 ألف فرصة، فضلًا على مشروعات الطاقة التي بلغت 30 مشروعا في 16 دولة، أهمها محطة الضبعة النووية في مصر، ليأتي السلاح الروسي الجديد التي تشهره علنًا، ممثلًا في استخدام المؤسسة الدينية الرسمية المعتدلة في تعزيز النفوذ الروسي في إفريقيا، انطلاقًا من القيم الاجتماعية والدينية المشتركة.
بدا هذا السلاح الديني واضحًا، في كلمة كيريل بطريرك موسكو وسائر البلاد الروسية، الذي تطرق لخطورة القوانين الأوروبية على كيان الأسرة، مشيرًا إلى أن الغالبية العظمى من الدول الإفريقية ترفض القوانين الأوروبية التي تبيح المثلية وما يسمونه القتل الرحيم.
وأضاف أن عددًا من دول إفريقيا لا يزال متأثرًا بسنوات الاستعمار الأوروبي، منوهًا إلى أن الاستعمار سعى لإشعال الفتن الطائفية والمذهبية، وهو ما يجب الحذر منه ومواجهته، وتعزيز سبل العيش المشترك بين كل أبناء الأديان.
وكان واضحًا ملامح سعادة بوتين بكلمة البطريرك، الذي تحدث عن إنشاء الكنيسة الروسية، 30 كنسية في دول إفريقيا.
وهنا استثمار للتوافق القيمي الرافض لما يسعى الغرب لفرضه من تشريعات تنافس القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، ومحاولة لإحباط سلاح الفتن الطائفية الذي يستخدمه الاستعمار ومخلفاته لهدم أسس الدولة الوطنية.
ب- المكاسب المصرية الإفريقية:
١- تمثل روسيا شريكًا استراتيجيًا تاريخيًا لمصر، منذ تأسيس الجمهورية الأولى 1952، وما تلاها من أحداث تاريخية أبرزها بناء السد العالي، ودعم إعادة بناء قدرات الجيش المصري خلال حرب الاستنزاف، التي قدمت لانتصار أكتوبر المجيد.
وتعميق ذلك التعاون المصري- الروسي القائم على المصالحة المشتركة والاحترام المتبادل، أثمر الكثير في الجمهورية الجديدة، بداية من احترام إرادة الشعب المصري في ثورة 30 يونيو، مرورًا بتصدير أسلحة حديثة خدمة استراتيجية مصر في تنويع مصادر السلاح المعززة لقدرات الجيش التسليحية، وصولًا إلى الشراكة لبناء محطة الضبعة النووية، وتوطين تكنولوجيا الصناعة الروسية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس.
وهنا تعاون مصري- روسي، عكسه لقاءات الرئيس عبد الفتاح السيسي المتكررة مع الرئيس فلاديمير بوتين التي بدأت عندما كان الرئيس السيسي وزيرًا للدفاع، وآخرها لقاء الأمس الذي تناول ملفات التعاون المشترك، ووجهات النظر في القضايا الإقليمية والدولية.
ولقد قدم بوتين اليوم بشرى، تتعلق ببدء المنطقة الروسية بالمنطقة الاقتصادية بقناة السويس باكورة إنتاجها العام المقبل، لتصدر منتجاتها من مصر وعبر قناة السويس إلى إفريقيا والخليج وقارة آسيا. وهذا الإعلان بالغ الأهمية، يشير إلى نجاح مصر في خطتها التي تستهدف من تأسيس المنطقة الاقتصادية بقناة السويس، جذب استثمارات عالمية توطن الصناعات والتكنولوجيا الحديثة، ومن ثم تتحول مصر لمركز للصناعات واللوجستيات، تعبر من خلال قناة السويس منتجات العالم لقارة إفريقيا وغيرها من القارات، بما يحقق مكاسب مصرية وإفريقية.
٢- تُعاني غالبية دول إفريقيا من أزمة ارتفاع سعر الدولار أمام عملاتها المحلية، ما ضاعف من موجات التضخم، وإرهاق ميزانيات الدولة بمتطلبات الديون وفوائدها، وتراجع قدرة توفير الدولار المطلوب الإيفاء باحتياجات الاستيراد.
وهنا جاء الحديث في كلمة ديلما روسيف مدير بنك بريكس للتنمية التنمية الجديد، وهو بنك متعدد الأطراف أسسته مجموعة دول "بريكس"، أن الديون هي أكبر التحديات التي تواجه دولنا.
وهنا قدمت روسيف، خلال كلمتها في الجلسة الافتتاحية للقمة الإفريقية الروسية، بأن الآلية الأمثل لمواجهة التحديات الاقتصادية والنقدية، هي تعزيز الاعتماد على العملات المحلية في التبادلات التجارية.
ولعل هذا التوجه الروسي، يسعى لمحاصرة الدولار الذي يحاول حصار روسيا، وباعتماد روسيا وغيرها من دول مجموعة "بريكس"- وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا- على العملات المحلية في التبادلات التجارية البينية مع دول إفريقيا، سيحد من معدلات طلبها للدولار، ومن ثم انخفاض قيمته، وتمكن الدول الإفريقية من احتياجاتها الأساسية، ومن ثم ينعكس إيجابًا على الأسعار وخفض معدلات التضخم وتنامي القدرات النقدية والاقتصادية.
٣- الشراكة التنموية الروسية الإفريقية تعزز قدرات البنية التحتية:
وهنا كانت الإشارة في كلمة بوتين إلى مشروع سكك حديد إفريقي يربط أرجاء القارة، ولقد كانت مصر رائدة في هذا التوجه مع الاتحاد الإفريقي، من خلال مشاريع طريق القاهرة كيب تاون، والربط الكهربي الإفريقي، ومنطقة التجارة الإفريقية الحرة.
ولقد نجحت مصر في السنوات العشر الأخيرة في تأسيس بنية تحتية متطورة تمكنها من أن تستثمرها في أن تكون بوابة إفريقيا للاستثمار والتنمية، وربما ما أعلن بشأن بشائر إنتاج المنطقة الاقتصادية الروسية بمحور قناة السويس دليل نجاح الرؤية وثمار الجهد.
تنمية قدرات مصر وغيرها من الدول الإفريقية في إنتاج طاقة متنوعة، وبينية تحتية وأمن إعلامي وغذائي أساس لمستقبل أفضل في ظل تنامي التحديات.
وفي الختام، لا يمكن تجاهل عبارتين بالغتي الأهمية في الجلسة الافتتاحية لهذه القمة: الأولى: دعوة بوتين شباب إفريقيا للمشاركة في منتدى سوتشي الدولي للشباب العام المقبل، وهو السير على خطى مبادرة مصرية رائدة تحولت إلى مؤسسة هي "منتدى شباب العالم، وما شهدته أسوان من منتدى شباب إفريقيا".
والثانية هي: "الأمن الإعلامي"، وهو مصطلح ورد على لسان بوتين، إلى جانب مصطلحات أخرى كالأمن الغذائي، والقدرات الحكومية.
والرابط بين الأمن الإعلامي، ومنتدى شباب العالم، وما استوحته منه روسيا في منتدى سوتشي الدولي للشباب، ارتباط عميق، فالأمن الإعلامي يتطلب توافر أركان، ربما تتطلب مقالًا آخر، لكن نختتم هنا بالقول: بأن منتدى الشباب الذي روّج البعض أنه إنفاق بلا جدوى، كان ضرورة ملحة لمواجهة تزييف واقع ما حدث في مصر من أجهزة معادية.
وهو ما تلجأ إليه روسيا اليوم، لاستضافة شباب يمثل المستقبل من مختلف دول العالم، لتقديم حقائق تواجه حملات التزييف من قوى الغرب التي تصارع روسيا على جميع الجبهات، وفي القلب منها جبهة الإعلام.
وللحديث إن شاء الله بقية.