عاجل
الإثنين 15 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
الكتاب الذهبي ثورة 30 يونيو
البنك الاهلي
مفهوم الـ "نَحْنُ" عند المصريين وتجلياته في ثورة 30 يونيو  "2-1”

مفهوم الـ "نَحْنُ" عند المصريين وتجلياته في ثورة 30 يونيو  "2-1”

تَعَرَّضَ الضميرُ الجمعيُ المصريُ لآليات التفكيك التي حاولت أن تضرب في قلب التماسُك البنائي المصري في أعقاب أحداث يناير2011، وقد سَجَّلنا تاريخيًا كيف اعتاد الناس في المجتمع المصري عند خروجهم للمجال العام، إعلاء قِيَم الجماعية وسيادة روح الجماعة، مقابل تراجُع قِيَم الأنانية والفردية. كما كانوا يحرصون على إعلان التطابُق والإتفاق مع المعاني الجمعية المشترَكة؛ كالعيب والحرام وأصول التربية.... إلخ.



 والمثال الواضح على ذلك أن استخدام الناس لكلمة "نَحْنُ" كان يُعلي من شأن الهوية الوطنية التي تجمَع ولا تفرِّق في مقابل حالة من إنكار الذات الفردية، فكان من الواضح أن المجال العام منضبط بقيم الجماعية التي كانت تسيطر عليه وتوجِّهه.

 

 

وهنا نلاحظ أن مَن يتآمر على المصريين لم يَعُد ينشغل كثيرًا بمحاولة هزيمتهم عسكريًا، بقدر ما يحرص على ضربهم في مِعقل قوتهم الثقافية التي مثَّلت دائمًا قلب جهاز المناعة في مواجهة 40 أمّة قامت بغزو المحروسة عسكريًا؛ لينهزم جميع الغزاة ثقافيًا من شعب مصر الحريص على أن يكون "نَحْنُ" جمعية واحدة لا تنقسم ولا تتجزَّأ إلى شراذم أو جماعات متناحرة. 

 

-    تمزيق الأمّة على مهل دون تعجل

وقد بدأ أعداؤنا في صياغة جديدة مُهمّتها تمزيق الأمّة بفعل فاعل مع سَبْق الإصرار والترصُّد وعلى مَهْل ودون تعجُّل فارتفعت نغمة "نَحْنُ" أيديولوچية دينية تُصنِّف أصحابها بهويتهم الدينية، مقابل تراجُع الهوية الوطنية، فتنفي المصري من مصريته لتحجزه في إسلامه أو مسيحيته.

كما تصاعدت " نَحْنُ ذكورية رجالية تبرز الهوية البيولوچية والجنسية وتعليها على الهوية الإنسانية التي تضُم الجنسين معًا (الرجال والنساء)، كما تدفع الصفوة المثقَّفة للحديث من خلال " نَحْنُ اغترابية متعالية لا ترَى مجالاً لاحتواء البُسَطاء الشعبيين" وهكذا.

 

 

والواقع أن التاريخ المصري يحتاج منّا إلى تقديم قراءة سسيولوچية للمادة التاريخية، بما تتضمنها من مواقف وأحداث قام المؤرخون باستعراضها بدقة، لكنهم لم يقدموا لها تفسيرًا على أرضية ثقافية/سسيولوچية، وظلَّت مجرد رؤية تجزيئية تؤدي إلى أحكام تفتقد إلى العُمْق السسيولوچي. 

 

 

وعلى سبيل المثال: هم يسجِّلون وقائع الهزائم والانتصارات العسكرية من منطلَق أُحادي، تسجيل الحَدَث بصفته هزيمة أو نصرًا من الناحية العسكرية، ولا يتعرَّضون للأبعاد الأخرَى، كأن يصحُب النصر العسكري هزيمة ثقافية كما حدث في نصر الهكسوس العسكري على مصر القديمة، وهزيمتهم الثقافية أمامها.

 

 

وقد حرصْت هنا على الاستعانة بأداة تحليل المضمون للنصوص والتصريحات والوثائق؛ لتفسيرها وشرحها والكشف عن دلالاتها السياسية والأيديولوچية.

 

 

وقد ساعدتني في كشف آليات تفتيت الضـمير الـجَـمعي الـمصـري التي حرصَت على إعـادة تـشكيل الوعي الاجتماعى للمواطن المصـري، على أرضـية الانتماء لدين معين، وليس لوطن معين بتأثير خـطاب ديني يدفع الناس للكفّ عن اسـتخـدام كلـمة "نَحْنُ"، عـندما يتحدثون عن الـوطن بعـناصـره الـدينية المخـتلفة؛ حـيث يأخذون في تصـنيف أنفسهم بصـفتهم الدينية والمَذهبية.

 

 

ولاحظنا أن سـيف الانقـسـام الباتـر قد صار معلقًا بأعـلى المجتمع المصري، مترقِّبًا لحظات الغـفـلة لـيهبط هادفًا إلى شَقّ القـلب الواحد والحِسّ الواحد والروح الواحدة، عامدًا إلى التـعامل مع كـرات الدم الحمراء والبيضـاء (مسلمي ومسيحيي مصر) كـكيانات منفصلـة وطوائف متناحرة، وليس كعنصُر واحد يأبَى أن يـرتِّـب مـكوناته حسـب أفضـليـة دينية أو عـنصـرية.

 

 

ومن يتتبع الضجة التي أُثِيرت حول موضوع "صراع الحضارات" لصامويل هانتينجتون؛ يلاحظ أن سَيْلاً من الكتابات الداعية لفهم "الآخر"، وقبول الاختلاف معه، والاستغراق في نقد الذات، إن لم يكن جَلدها، قد تدفَّق بصورة غير مسبوقة.

 

 

ولذا فقد شغَلني البحث في التاريخ المصري في محاولة للقبض على آليات التماسك البنائي للمجتمع المصري عبر تاريخه الطويل، والكيفية التي استطاعت بها الجماعة المصرية أن تطوِّر ضميرها الجمعي بما يكفل لها الاستمرار والازدهار. وذلك كمحاولة لتشخيص أزمتنا البنائية، وذلك من خلال تحليل مفهوم "النَحْنُ". 

 

 

-    مفهـوم الـ "نَحْنُ" والـنـضـج الـبـنـائي

يقول الدكتور علي مختار إن دعاة النهضة في جميع الأمم رَكَّزوا على الجوانب الإيجابية في تاريخهم، وأبرزوا أحداثه وشخصياته ورموزهم القومية في كل المَجالات؛ بل وضخَّموا بعضها لغرس شعور الانتماء في شعوبهم للوطن والأمّة، والحماس لمشروعهم القومي. 

 

 

وفي الصين استعمل (ماو تسي تونج) التُراث الكونفوشيوسي العظيم المتغلغل في وجدان الشعب الصيني، وأعاد تفسيره ضمْن إطار أيديولوچية عصرية ليربط الشعب بمشروعه لتحقيق نهضة الصين الحديثة".

 

 

ولذا أظن أننا بحاجة إلى الإسراع بالعمل على إعمال التحليل الثقافي الاجتماعي في اكتشاف مناطق الدفع لحركة التقدُّم في بنائنا الاجتماعي، ومناطق الجمود والتراجع، وأظن أن علينا أن نبدأ بمكونات الضمير الجمعي أو بالكيفية التي تشكل بها الوعي الجمعي، حتى تحققت للبناء للـمصريين الاجتماعي تلك الدرجة من النضج.. لقد تـرسـخ في الوعى الجمـعي- منذ فجـر الـتاريخ- شعـورٌ حـادٌ بالـمسؤوليـة عن إدارة الـنـهر الذي ما كان لينضـبط في نظام الـري، ما لم تمارس ذلك جـماعة عــاليـة الانضـباط مـن البـشـر.. وبـغـير ضـبط الـنـهر كـان الـنـيل سـيتحـول إلى شـلال جـارف، وبـغـير ضـبط الـناس كان توزيـع المـيـاه سيتحول إلى صـراع دمـوي، وذلـك عـنـدما تـقـف مـصـالح النـاس المـائـية في مـواجـهة بـعـضـها البـعض، مـواجـهة متـعـارضة دمـويـة، ذلـك أن كـل مَـن يـقـيم في أعـلى الـنـهر كـان بـإمـكـانه الإسـراف في اسـتخـدام الـمـيـاه وحـبـسـها عـمّـن يقيـم في أسـفـله، وكـذلـك كـل مَـن كـان مـوقـفه عـنـد بــدايـة الـترع، كـان يـخـتـص نـفـسـه بـنـصـيب مـوفــور مـن الـمـيـاه، ويـحـجـبـها عـمّن تـقـع أرضـه عـنـد نـهـايات الـتـرع .

 

 

لـكـنّ الـمـصـريين لـم يـصـلوا لـهـذه الـمـرحـلـة المتـقــدمـة مــن الاسـتقـرار والـنـهـضـة إلا بـعـد أن دفـعـوا ثـمـنًا غـالـيـًا لـحـياة الـفـردية والأنانـية الـتى سـبـقـت مـرحـلة الاسـتقـرار، في مـجـتمـع زراعـي، عـالي التنـظـيـم؛ حيث عـاشـوا حـقـبـة مـريـرة مـن صـراعـات الأقـالـيم، وتـفتـت السُّـلطـات وتـعـدد الـملـكـيات، وارتـباك نـظام الـري، إلى أن قـام المـلك مـينـا بـتـوحيـد الـقُـطرَيْن الشـمـالـي والـجـنوبـي للـوادي، تـحـت حـكـومـة مـركـزية قـويـة ذات قـدرة تـنـظـيمـية عـاليـة، فـاسـتـطاعـت الـسـيطـرة عـلى الـنهر، بـإقامــة الـقـناطر والـسـدود والـخـزانات، وهي مـشـروعـات هائـلة لم تـكن لتـقـوم إلا من خـلال قـوة مـركـزية، صـار من خـلالها المـتـفـرقـون كيانًا واحـدًا متعاونًا.

 

 

وهـكـذا اسـتطـاع نـضـج الـشـعور الـوطني أن يـطـور مـفـهوم الـ "نَحْنُ" الـذي قـفـز بالـمـصـريين من مـجـرد الـتجـمـع الـفـيزيائي، حـول الـنـهر إلى مـجـتـمع سـيـاسي نـاضـج، بـدرجـة نـضـج الوعـي الاجـتماعي الـمـشـترك، الـذي تـشـكل في ظـل إجـماع ظـل يـتنـامَى كـلـما كـشـفـت الـجـمـاعـة الـمصـرية أنـها بالـ "نَحْنُ" تـصـبح أكـثر حـيـوية وصـلابة؛ بل وسـعـادة.

 

 

يقـول الـطـهطـاوى: "كـانـت مـصـر مـسـتعدة لكسـب الـسـعـادة- أكـثـر مـن غيـرها- بـشـرط انـتظـام حـكـومـتها واجـتـهاد أهـالـيهـا؛ لأن اخـتلال حـكومـتها يـخـل بـمـزارعها، وذلك بـخـلاف غـيـرها مـن الـحـكومـات......".

 

 

ثـم يـؤكـد: "لـما كـان ري مـصر دائمـًا صـناعـيـًا مـدبـرًا، كـان لا بُـد فـيه مـن حـُسـن الإدارة الـمائـيـة، والـضـبط والـربـط في تـطهـير الـترع، وبـناء الجـسـور والـقـنـاطـر، فـإذا كـانـت الحـكـومـة الـمتـولـية عـلى مـصر سـيـئة الـتدبـير؛ فإنها تـجـحـف بالـمصـلحـة العـمـومـية، وهـذا الخـلل يتـرتـب عـلى عـدم وجـود حـكـومـة مركـزية".

 

 

ويـقول جـمال حـمـدان عـن المـجـتمـع الـمصـري: "هو أسـاسـًا تـعـاوني مـنـظم لا يـعـرف الـفـردية في صـورتـها الـضـارية أو الـدمـوية المتوحـشـة، ويـدرك حـتمـية العـمل الـجـماعي الـمـنظـم المـنسـق، وأن مـصـلـحـته ووجوده رهـن بالـتضـامـن والـتـكـامل الإجـتمـاعي، بالـنـظـرة المتـفـتحــة بـلا أنـانيات مـحـلـية أو نـعـرات ضـيـقة أو نـزعـة عـدوانـيـة".

 

- أسـتـاذ عـلم الاجـتـمـاع السياسي بـآداب الــزقـازيـق

 

 

 

جزء من الفصل الخامس

من الكتاب الذهبي عدد يونية

"كيف قضت مصر على الإرهاب .. 30 يونية عقد من الثورة "  

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز