
عاجل| أغرب القضايا.. "المتهم" سرق واعترف بجريمته فأصدر القاضي حكمًا فاجئ الجميع

أحمد فتحي
أغرب القضايا تلك التي تلقي بها الدنيا في وجوهنا، تصعقنا بأحكامها "القاسية، وتقلب حياة البعض منا رأسا على عقب، لتحولهم بين عشية وضحاها، من أفراد صالحين إلى مجرمين، تغلق في وجوههم الأبواب، ويلفظهم الناس والمجتمع.
كثيرًا ما تصادفنا حكايات غريبة لبعضًا من هذه النماذج، "نمصمص" شفاهنا.. نضرب كفًا على كف.. نتعجب من مآلات وتصاريف القدر، ونتساءل فيما بيننا: هل من الممكن أن نكون يومًا مثلهم؟
قد يتمادى بنا التفكير لنفترض ونسأل أنفسنا ماذا سنفعل إن صادفنا أحد هؤلاء المتهمين؟ هل نمد له أيادينا للمساعدة؟ أم يعلو صراخنا للمطالبة بتطهير المجتمع من أمثاله؟
متى نتعامل بقلب نقي نلتمس به الصفح للجميع؟ وكيف نعيد تأهيل من جارت عليه الدنيا، ونصدره للحياة مرة كعنصر صالح لنفسه ولغيره؟ تلك التفاصيل الصغيرة، هي التي تبني الأمم وتحافظ على الترابط بين أفرادها، وتجعلها ندًا قويًا لا ينحني للزمن أو أفاعيله.
في قصتنا هذه البطل هو أحد رسل العدالة، وحامل أختامها وصولجانها الأمين، يزن الأمور بالقسطاس المستقيم، ويعطي كل ذي حق حقه، يتعامل بروح القانون، متجاوزًا تفاصيل ومفاجآت أغرب القضايا التي ترد إليه، متحليًا بإيمان مطلق، بضرورة إعادة الانضباط والتناغم المفقود بين أفراد المجتمع، وإعادة تأهيل من اعوج منهم دون قصد أو تعمد.
أغرب القضايا
بداية القصة
بدأت الحكاية بشاب يافع في السابعة عشرة من عمره، نشأ يتيم الأب والأم، فيما كفلته إحدى جارات أسرته بعد وفاة عائليه، ليتلمس لنفسه طريقًا ينفق به على نفسه - حفظًا لماء وجهه - حتى لا يكون عبئًا على أمه "البديلة".
طاف الأحياء المجاورة لمحل سكنه طولًا وعرضًا، بحثًا عن فرصة عمل شريفة، تكفل له الرزق الحلال، حتى وجد ضالته أخيرًا في إحدى ورش "الحدادة والبرادة"، وبعد أسابيع من الكد والتعب، أقر له صاحب العمل أجرًا أسبوعيًا ثابتًا، شريطة ألا يتغيب ولو يومًا واحدًا.
قاوم الفتى الصغير وكبح اعتراضاته على ضعف المقابل المادي، ليستسلم أخيرًا ويعلن عن قبول العرض المتواضع، الذي يكفي احتياجاته الأساسية بالكاد، علاوة على مساهمة بسيطة، في مصروف المنزل الذي يأويه، ويحتمي بين جدرانه من برد الشتاء وقيظ وحرارة الصيف.
مرت الأشهر الأولى له في الورشة بسلام، فيما يشبه الهدنة التي منحها له القدر ليلتقط أنفاسه، قبل أن تستأنف الدنيا حربها عليه من جديد، وكأنما لم يكفها فقدانه الأهل والسند، لتوجه له لطمة جديدة.
ضربة موجعة
في إحدى الليالي تلقى "فتحي" ضربة موجعة، حينما قررت السيدة التي تحتضنه ترك منزلها، والسفر للإقامة مع عائلتها في الواحات، لتلقي بقنبلتها وتخطره باستحالة انتقاله للعيش معها، مع صعوبة تدبير من يرعاه ويكفله بعدها.
كان قرار السيدة الطيبة صادمًا بشكل لم يستطع الفتى اليافع استيعابه، أو إيجاد فسحة مناسبة من الوقت لإعادة ترتيب أوراقه، ليجد نفسه فجأة دون مأوى أو سكن، ما يعني مزيدًا من المعاناة والحرمان.
حمام شعبي وبطالة
هام الفتى على وجهه وأضناه اليأس والتعب، بحثًا عن مكان يأويه بعد انتهاء العمل، حتى ساقته قدماه إلى أحد "الحمامات الشعبية" بمنطقة باب الخلق، الذي وافق مالكه على مبيته مقابل 3 قروش في الليلة الواحدة، ما يعني التهام هامش كبير من راتبه الضئيل، الذي لا يتجاوز 40 قرشًا أسبوعيًا!
لم تتوقف متاعب "فتحي" عند هذا الحد، لتكون الطامة الكبرى، قرار صاحب الورشة التي يعمل بها، أنه لم يعد بحاجة إلى مجهوداته، ليجد نفسه بلا عمل يكفل له قوت يومه وأجر إقامته.
قضى الفتى التعيس أيامه الأولى، متنقلًا بين منازل أصدقائه، ورويدًا رويدًا بدأ يستشعر التأفف من وجوده، وأنه بات عبئًا ثقيلًا على الجميع، ما عجّل بصدور القرار الذي كان يتوقعه.
"نعتذر عن عدم قدرتنا على استضافتك بعد الآن، ويتوجب عليك لملمة أغراضك والرحيل فورًا".
وحيدًا بين الشوارع والأزقة
مرت الأيام عصيبة، وبحث "فتحي" عن عمل جديد يضمن له الوصول لـ"حد الكفاف"، لكنه فشل في إيجاد مصدر دخل يحقق هذا الغرض.
قضى الشاب اليتيم عدة أيام، كانت فيها أرصفة الشوارع والأزقة هي ملاذه الوحيد، حتى تآكلت مدخراته القليلة، ولم يتبق في جيبه سوى قرش "صاغ" واحد فقط، لم يكن يدري فيما ينفقه، هل يبحث عن لقيمات صغيرة تسد جوعه، أم يدخره لعله يجد ملجأً آمنا يسرق فيه بضع سويعات من النوم الهادئ.
حيلة شيطانية
بعد تفكير مضن، هداه تفكيره إلى حيلة صغيرة، دلف بعدها إلى أحد المقاهي، وطلب كوبًا من الشاي، وما أن دخل "الجرسون" لإجابة طلبه، حتى غافله وسرق ثلاثة مقاعد من المقهى وأسلم ساقيه للريح.
هرب الفتي بغنيمته لكنه لم يستطع الهروب من وخز الضمير، ليجلس على أحد المقاهي، في محاولة لطرد الهواجس والظنون التي تراوده، أو إيجاد مخرج من المأزق الذي وضع نفسه فيه.
جزاء رادع واختبار صعب
لم يستمر الأمر طويلًا، ليستفيق الفتى على يد خشنة تمسك به، وأصوات الجمع تتعالى من حوله "أمسكوه.. شكله حرامي.. هاتوله البوليس".
دقائق معدودة اقتاده خلالها صاحب المقهى إلى قسم الأزبكية، ليعترف "فتحي" أمام النيابة بالسرقة ويقر بجريمته، تسارعت الإجراءات بعدها وتم تحويل الفتى الصغير إلى المحكمة.
روح القانون
أمام المستشار "مصطفى حسنين" أكد الفتى اعترافاته التي أدلى بها أمام نيابة الأزبكية، وأنه سرق بدافع الجوع واليتم وقلة الحيلة، قبل أن يباغت القاضي بطلب مؤلم:
"يا سيادة القاضي.. أرجو أن يتسع صدرك لطلب سارق مثلي، أعترف وأقر بجريمتي، لكنني هنا أخاطب عطفك كأب ورجل خبرته الدنيا بمعنى اليتم وفقدان السند والعطف والأمان، فإذا حكمت فضع في اعتبارك المقدمات التي آلت بشاب مثلي إلى هذا الموضع أمام منصة عدالتكم.. أنتظر قرارك وأتمنى أن يكون خفيفًا، فلن أستطيع مواجهة المجتمع برأس مرفوع بعده".
تأثر القاضي بهذه الخطبة الصغيرة التي ارتجلها الفتي الماثل أمامه في قفص الاتهام، وما هي إلا دقائق معدودة حتى طرق المنصة التي يعتليها ليعلن حكمه وقراره البات..
"حكمت المحكمة ببراءة المتهم"
لم يصدق الفتى أذنيه.. وظل يصرخ داخل القاعة "أنا بريء أنا بريء"، غامت الدنيا بعدها واختفت كل الوجوه من حوله.. تسمرت قدماه، وبحثت عيناه عن ذلك القاضي النبيل، الذي أبى أن يلقي به خلف القضبان، ليحمل وصمة لن يمحيها الزمن.
خرج من القفص وتلعثمت الكلمات على لسانه، ليستكمل القاضي مسلسل المفاجآت، ويأمره بالبقاء داخل القاعة حتى انتهاء الجلسة، قبل أن يصحبه خارج المحكمة بحثًا عن عمل يؤمن احتياجاته، إلا أنه فشل في تحقيق مأربه وقت كتابة هذه السطور آنذاك، ولا نعلم ماذا حدث بعد ذلك؟
وعلق القاضي مصطفى حسنين على دوافع إصداره لهذا الحكم "المفاجئ"، مؤكدًا أنه نابع من إيمانه بضرورة قبول المجتمع لمثل هذا الشاب، مشددًا على أن يكون الصفح والغفران هو المبدأ الحاكم لمثل هذه النوعية من القضايا، وأن يمد له ذراعيه لإتاحة الفرصة المناسبة لدمجه وإعادة تأهيله، ليكون نواة لمجتمع صالح ومترابط، إيمانًا منه بضرورة تطبيق قرارات مؤتمر مكافحة الجريمة، الذي يوجب على القاضي متابعة الأحكام التي يصدرها.
هذه الجريمة وقعت أحداثها قبل 60 عامًا، وسجلتها "جريدة أخبار اليوم" عبر صفحاتها، وتحديدًا في الـ16 من شهر فبراير عام 1963.
"حكايات من زمن فات"