طارق رضوان
ثورة ثقافية - 2 - ثقافة السياحة والمتاحف
بقلم : طارق رضوان
فى بداية السبعينيات تولَّى وزارة السياحة رجُلٌ من أهم رجال الدولة فى عصرها الحديث، وهو إسماعيل فهمى- أصبح بعد عام من توليه المنصب وزيرًا للخارجية-. كانت مصر فى حالة حرب وتوقفت السياحة تمامًا، ما جعل الدولة تعانى من قِلة العُملات الأجنبية؛ خصوصًا بَعد غلق قناة السويس للمِلاحة. ابتكر الرجُل السياحة الداخلية ليخلق رواجًا للسياحة ولتبريد الشارع قبل الحرب. رحل الرجُل وبقيت الفكرة. فقد كان يملك ثقافة السياحة. وهى ثقافة تجلب الملايين للدولة. أىّ دولة.
فى أتلانتا بالولايات المتحدة الأمريكية قامت شركة كوكاكولا بإنشاء متحف يضم التراث الخاص بالشركة والمراحل التى مرّت بها منذ إنشائها عام 1886م حتى يومنا هذا. مراحل صناعة المشروب ومراحل تطوُّر شكل الزجاجة التى صُنعت على هيئة «المرأة ذات الفستان الضيق». يتيح المتحف الفرصة لزواره بتذوق جميع أنواع مشروبات الكوكاكولا التى تم تصنيعها من قَبل على مدار السنوات السابقة. كما يوجد مَتجر لشراء الهدايا و«تى شيرتات» طبعت عليها علامات المنتَج، ويبلغ سعر تذكرة الدخول 16 دولارًا، وقد زار المتحف فى الأشهُر الستة الأولى مليون ونصف المليون زائر. وهو المنتَج الذى احتفلت به الولايات المتحدة عام 74 بوجوده فى كل بقاع الأرض. وفى باريس، وتحديدًا فى حى «سيزان» الحى السادس عشر، تم إنشاء متحف للملابس الداخلية. يعرض فيه تاريخ الملابس الداخلية عَبْر كل العصور، وقد زاره فى عامه الأول مليون سائح من زوار باريس. وفى فرنسا أيضًا عرضوا الملابس الداخلية السُّفلى للملك المصرى توت عنخ آمون. وفى الدولة نفسها متحف للفن السيئ وشعاره «الفن السيئ جدّا لا يمكن تجاهله». وفى طوكيو هناك متحف للطفيليات يَعرض أهم وأقدم الطفيليات عَبر التاريخ. وفى مدينة بولونيا بإيطاليا هناك متحف للجيلاتو- الآيس كريم- داخل مقر كاربيجيانى، الذى يقوم بتصنيع آلات الآيس كريم، ويَعرض المتحف مجموعة من آلات الآيس كريم القديمة ويقدم تاريخ الجيلاتو عَبر العصور. كما تُقدم جامعة كاربيجيانى جيلاتو المجاورة دروسًا عملية فى صناعة الجيلاتو. إنهم يبتكرون أى شىء وكل شىء لإخراج الأموال من جيب السائحين الموهوسين بالمتاحف. فقطاع السياحة هو أكبر قطاعات الخدمات فى العالم. فنحو واحد من 12 من العاملين فى العالم يعملون بالسياحة. وتجتذب أكثر من سُبع البشرية. وتُعَد السياحة ثانى أكبر مَصدر للعملة الأجنبية «بعد البترول» فى البلاد النامية. ويَعتبره البعض واحدًا من أكثر قطاعات الاقتصاد ازدهارًا. فى 2018م قُدّر عدد السُّياح فى العالم بمائة مليون شخص. تسيطر الشركات عابرة القارات إلى حد كبير على السياحة العالمية وتُسَخّر فقراء البلاد المضيفة فى خدمتها. يحقق تنظيم الرحلات الرخيصة للأشخاص فى الغرب أرباحًا كبيرة للشركات عابرة القارات. لكن هذا له ثمَنه. فسكان البلاد المضيفة لا يحصلون إلّا على الفتات، بل يحل الضرر الكبير باقتصادهم وأرزاقهم وثقافتهم وبيئتهم. وبَعد الهجمات الإرهابية على نيويورك فى 11سبتمبر 2001م توقف نمو السياحة العالمية، وإن كان لوقت ليس بالطويل، وقد تعافت بصورة كبيرة خلال السنوات الأخيرة من الفترة الواقعة بين عامَى 2002 و2005م. سبب النمو كان لعوامل كثيرة ومهمة. مثل توفر المعلومات وخدمات الحجز عن طريق الإنترنت ورغبة المستهلكين الدائمة فى السَّفَر إلى الخارج والترويج الأقوى والعولمة من جانب الشركات والتوسع فى الناقلات قليلة التكلفة. ولا يحصل الاقتصاد القومى على الكثير، كما يبدو، وتذهب معظم الأموال التى يدفعها هؤلاء السائحون التى تحصل عليها البلاد النامية من السياحة العالمية إلى شركات عابرة القارات من خلال مِلكيتها للفنادق وخطوط الطيران وشركات السياحة. فعندما يزور السُّياح شواطئها تحصل البلاد النامية عادة على ثلث ما ينفقون أو أقل من ذلك. فمثلًا 86 % من تكلفة رحلة يقوم بها أى إنجليزى إلى جمهورية الدومنيكان يبقى فى المملكة المتحدة. وكما يقول ثيا سنكلير- من مركز أبحاث السياحة بجامعة كِنت- هناك مسألة أساسية تتصل بالسياحة فى البلاد النامية هى توزيع عوائد السياحة بين المؤسسات والأفراد فى بلد المقصد وبلد المنشأ. فالعجيب أن من يربح هو بلد المنشأ، وهو أمْرٌ مُدهش وغريب تقوم به الشركات عابرة القارات. ولأن السياحة من أسرع الصناعات نموًّا فى العالم تحرص الشركات على التواجد فى الأسواق النامية واستغلال الفرص الجديدة والابتكارات الجديدة. وتُحدد منظمة السياحة العالمية شركات السياحة عابرة القارات بوصفها شركات أجنبية تقدم خدمات تنقل الأشخاص عبر الاستثمار المباشر أو غيرها من أشكال الاتفاق التعاقدى فى بلد أو أكثر من البلاد التى تستقبل هؤلاء الأشخاص. وبينما تسعى الشركات عابرة القارات إلى السيطرة على القطاعات الأساسية فى السياحة، مثل الفنادق والشواطئ وشركات الطيران وشركات السياحة والمطاعم الكبيرة، فهى تفضل عادة عدم استثمار أموالها بشكل مباشر. وقد تعلمت شركات كثيرة كيف تمارس سُلطتها فى ظل إسهامها بأصغر حصة مالية، وهى تفعل هذا عن طريق الامتيازات وعقود الإدارة وتفرض سلسلة طويلة من الإجراءات على الشركات الأصغر إذا رغبت فى إقامة فندق فى مكان معين من العالم النامى. ومن أجل وفائها بالمعايير تدفع الشركات الصغيرة أموالًا كبيرة حتى يُسمح لها باستخدام اسم وشعار السلسلة، وهو ما يعنى أن هناك ابتكارات كثيرة لترويج السياحة فى الدول التى تَرضى عنها الشركات العابرة للقارات. ولن ندخل فى التفاصيل الاستخباراتية التى تمت على مصر فى السنوات الأربع السابقة لقتل السياحة فيها وحرمانها من أهم مصدر للعُملات الأجنبية. فمصر وحدها تمتلك ثلث آثار العالم. وهى آثار يمكن بترتيبها حَسَب التاريخ تسرد تاريخ البشرية القديم كله. وكل مدينة تمتلك تاريخًا خاصّا بها. وتمتلك آثارًا نادرة- رُغْمَ السرقات المهولة- يمكن أن يقام لها متحفٌ خاصٌّ يزوره السياح. ولأن مصر بلد تعداد السكان فيه كبيرٌ يمكن أن تكون السياحة الداخلية ولو بشكل مؤقت هى التى تروج لتلك المتاحف الجديدة. الأمْرُ لا يتوقف فقط على الآثار المتعارف عليها فقط. لكن مصر تمتلك تاريخًا آخر يمكن من خلاله أن يتم إنشاء متاحف أخرى بغرار متاحف الكوكاكولا أو متاحف الملابس الداخلية أو متحف الآيس كريم. فهى تمتلك تاريخًا قديمًا فى السينما والمسرح والأوبرا والموسيقى وكرة القدم والتنس «كان فى مصر قديمًا بطولة للجراند سلام، إحدى كبرى مسابقات التنس» وقناة السويس والسكة الحديد وغيرها. هذا البلد الطيب يمتلك من الخيرات القديمة التى يمكن أن نروّج لها لتصبح دخلًا مميزًا ومصدر جذب لسُّياح العالم. وبتخطيط بسيط وعلمى يمكن نثر كل هذه الآثار على المدن الجاذبة لسائحى العالم كله. ولتنوع جغرافيتها يمكن أن يتم توزيع المتاحف حسَب الحضارة القديمة وحسَب الموقع الجغرافى. فتاريخ الفراعنة المهول بما يشمله من أدوات يمكننا أن نُنشئ متحفًا على غرار متاحف الكوكاكولا. أدوات التجميل والخبز الفرعونى- الآن يدرسونه فى الغرب- بل تاريخ قصص الحب وتاريخ الكتابة. كلها آثار يمكن أن يضمها أكثر من متحف بدلًا من تجميع الكل فى متحف واحد بمحافظة واحدة. علينا الابتكار لاستغلال حضارتنا القديمة. ثقافة المتاحف فى عالم السياحة تحتاج إلى ابتكارات جديدة بسيطة الفكرة لكنها عميقة التأثير. مصر بلد غنى أكثر مما نتخيل. تاريخها وحضارتها وجغرافيتها سِرُّ غِناها الفعلى يمكن استغلاله لمصلحة الدولة. فقط تنقصنا ثورة ثقافية فى عالم السياحة.•