
القهوة.. إيتيكيت "الكيف"
بقلم : د. نهلة زيدان الحوراني
قبل يومين بعد أن تناولت قهوتي في أحد مقاهي مدينة المنصورة الجميلة أحببت أن أقدم قهوتي كهدية لمن يأتي بعدي، لا يهم إن كنت لا أعرفه، بل يكفي أن تكون القهوة رسالة تواصل إنسانية راقية بيني وبين من لا أعرف. أهدي ذلك الوقت والنكهة الجميلة التي أحببتها لإنسان آخر.. كتبت ذلك قي ورقة على حائط التوقيعات بالمقهى، ثم دفعت للمسؤول ثمن قهوتي مضاعفًا. أخبرته أن الضيف القادم، الذي يأتي بعدي ويطلب قهوة كالقهوة التي شربتها، أنا أهديها له. وبعد ساعة تلقيت اتصالًا من المقهى يخبرني أن الشخص الذي أهديت له قهوتي فعل مثلما فعلت. وددت أن أشكره كثيرًا لكنني لا أعرفه. كلانا تواصل بالمحبة مع أشخاص لا يعرف عنهم أي شيء سوى أنهم بشر يستحقون السعادة. هذه الحادثة التي حدثت معي جعلتني أكتب معكم عن كيف تجعلنا القهوة نتعامل معه كملكة طوال الوقت.
تاريخيًا وحتى الآن عندما يتعلق الأمر بالقهوة تبدأ رحلة التسامح في كل القواعد والقوانين. يبدأ مع التسامح الكثير من الاستمتاع، فلا يعود السبب وراء الالتزام بقواعد الإيتيكيت الراحة والأناقة فقط. بل تظهر أشياء أخرى منها : (الكيف والتباهي). فنحن نتعامل مع ثاني أكثر السلع استخدامًا على سطح الأرض.
يبدو أن قصة اكتشاف شجيرات القهوة ذاتها مؤشر على أن "الكيف" سبب أساسي في الركض خلفها قبل أن يتذوقها بشر، فهي قصة معروفة. بدأ الأمر في عدن حين بدأ راعي الأغنام اليمني (تقريبًا في القرن الخامس عشر الميلادي) يلاحظ أن أغنامه تسهر كثيرًا في الليل مؤخرًا، كما أنها أصبحت مصابة بحالة من النشاط والنشوة العجيببين كل مساء. أحب الراعي هذه الحالة واندهش منها في ذات الوقت لذا قرر أن يختبرها بنفسه. راقب أغنامه عن كثب في اليوم التالي. لاحظ أنها تاكل أوراق شجيرات مورقة خضراء لها حبوب خضراء صلبة قليلًا. تناول بعض أوراقها لكن مذاقًا كان مرًا جدًا حد أنه لم يتمكن من تحمل مضغه. جرب مضغ الحبوب، فوجدها أقل مرارةً. أصابته حالة النشاط التي راقبها بين صفوف أغنامه في الفترة الأخيرة. قام بغلي الحبوب كي يتمكن من شربها سريعًا بعيدًا عن مرارتها القاسية في حال المضغ. انتشرت القهوة بين متصوفي ودراويش اليمن ليتمكنوا من إحياء الليل.
انتشرت القهوة في المنطقة العربية حين انتقلت من اليمن إلى مصر التي نشرتها للعالم العربي، كما انتشرت القهوة في المناطق التي تنبت فيها هذه النبتة السخية في شحذ الحواس نتيجة لأنها تتسبب في تمدد الأوعية ومن ثم يزداد تدفق الدم للدماغ، فيزداد نشاط شاربها إجمالًا. صارت القهوة مشروبًا محبوبًا حيث تنبت في المنطقة العربية وشرق أفريقيا وأميريكا اللاتينية. يُروى أنها اتخذت اسمها من هضبة في أثيوبيا تُسمى (كافييه) وهي الهضبة التي أخذ منها الفرنسيون القهوة لأوروبا وتركيا في القرن السادس عشر الميلادي.
من الأشياء الغريبة التي تراها في انتشار القهوة أن اسمها تقريبًا في العالم كله متقارب عدا اليونان. ومن الأحداث الغريبة التي صاحبت انتشار القهوة أن الفرنسيون بعد أن حملوها لتركيا حرم الأتراك شربها شرعًا لفترة طويلة، ثم أطلق شربها بلا قيود حتى أن الأتراك كثفوا نكتها بالتحميص والطحن كي تظهر القهوة التركية المعروفة، وظهر المثل التركي المعروف (فنجان القهوة يحفظ المودة لأربعين عامًا) وظهرت مجموعة من الجمعيات الراعية للقهوة هناك. أصبحت تركيا العثمانية أكبر موزع للقهوة في العالم في ذلك الوقت.
يتميز الحال مع هذا المشروب "صاحب المزاج العالي" بقواعد إيتيكيت أنيقة وعفوية في ذات الوقت. إذ يجب الالتزام بفناجين القهوة الرسمية ذات الأذن والطبق المتطابق مع الفنجان في الخامة والشكل. أما الفنجان الخاص بالقهوة العربية الذي لا أذن له ولا طبق تحته المُسمى (الشِّفَة) فيجب ألا يظهر مطلقًا في أية زيارة رسمية إذ يتنافى مع أناقة القهوة إلى حد ما.
من الأمور المعروفة أن تقدم صاحبة البيت أو ابنتها الكبرى إن غابت القهوة للضيوف. تكون الفناجين موجهة للضيوف بحيث تواجه أذنها اليد اليمنى للضيوف ليتلقوها بيسر. من قواعد تقديم القهوة ألا تمتليء الفناجين حد أن تكون (طافحة) بل يجب أن تسمح بأن يحملها الأفراد دون أن يخافوا سقوط القهوة من الفنجان. وعلى الشاربين أن يتمهلوا في شربها حتى تبرد قليلًا ليتمكنوا من تبين نكهتها ، بحيث تشربها في حالة تسمح لك بتبين كافة خواصها بحواسك وذلك احترامًا للأشخاص الذين أعدوها وأوصلوها لتلك النكهة بجهد وإحساس.
في المناسبات الهامة أو فترات استراحة القهوة في المؤتمرات الهامة توضع القهوة في تجمعات من الفناجين في طاولات موزعة على الضيوف ويأخذ كل ضيف فنجانه بنفسه تاركًا الملعقة على طبق الفنجان بعد ضبط السكر على أن يعيد الفنجان مرة أخرى بنفسه للمكان الذي أخذه منه. كما يجب أن تكون هناك طاولات صغيرة بالقرب من أماكن وقوف أو جلوس الضيوف لوضع فناجين القهوة عليها أثناء الاستراحات بين الرشفات.
في حال سقوط بعض القهوة من الفنجان في الطبق تظهر قاعدة غريبة للإيتيكيت إذ يعتبر البشر القهوة كنز لا يمكن إهدار أي جزء منه. هذه الكمية القليلة من القهوة يتم صبها من الطبق إلى الفنجان مرة أخرى ثم تجفيف الطبق بمنديل ورقي أو محرمة المائدة المتاحة وقتها. ثم تشرب القهوة بعد ذلك بالشكل المعتاد، مع مراعاة أنه يجب أن تضع الفنجان على الطاولة القريبة منك بعد أخذه دون أن ترتشف منه قطرة، وبعد حوالي نصف دقيقة تباشر الشرب.
يجب ألا تبعد الفنجان عن الطبق أثناء الشرب كثيرًا، ولا يجب أبدًا أن تحمل الفنجان بلا طبق. كما يستلزم الأمر أن تمحو السيدات آثار أحمر الشفاه عن الفناجين بمنديل. وكذا يتم محو أية قطرات بن تركتها آثار الشفاه على الفناجين للرجال والسيدات معًا. يجب أن يعود الفنجان نظيفًا كما أتى.
تسمح لنا عفوية العصور الحديثة في حالات الحفلات الرسمية الجمع بين فنجان من طقم وطبق من طقم آخر على أن يكون بينهما تناسق شديد. ظهر هذا الاتجاه في أواخر تسعينيات القرن الماضي على أيدي بعض منظمي المناسبات الرسمية حين أرادوا أن يتميزوا عن منافسيهم . لكن يجب ملاحظة أن المدارس الكلاسيكية في الإيتيكيت ترفض ذلك بقوة.
القهوة توزع على الضيوف من اليمين إلى اليسار وهو اسلوب الأسبقية الوحيد. لا يراعى أي أسلوب آخر سوى أن وججودك على اليمين أكثر يجعلك تحصل على فنجان قهوتك قبل من سواك حتى وإن كنت الأقل مكانةً أو الأصغر سنًا، إذ الملكة الوحيدة هنا هي القهوة. ويجب أن يحنى مقدم القهوة ظهره قليلًا احترامًا لها وللضيوف.