د. أحمد الديب
ذكريات رمضانية في الصعيد
بقلم : د. أحمد الديب
لم يكن رمضان بحاجة ليطرق علينا الأبواب . كل الأبواب كانت مفتوحة علي مصراعيها والقلوب . كانت الأرواح بحاجة إلي الاغتسال من شوائب سنة كاملة . كل خيط امتد فتدلت منه الزينات والشارات , كل فانوس بسيط تلألأ , كل بيت اجتمع أفراده علي مائدة واحدة ملؤها البركة والوفرة , كل نفس سامحت وتصالحت بعد خصومة و كل أذن طربت لصوت الشيخ محمد رفعت والشيخ المنشاوي والشيخ عبد الباسط عبد الصمد ...كل هذا وذاك كان من تجلياتك يا "رمضان" الطفولة. الأبيض ، والأسود كانا هما اللونين السائدين في تليفزيونات الصعيد قبل أن تعبث الألوان بالطموح . لم يكن لشيء أن ينافس رمضان حتى التليفزيون ، الذي لم يكن منتشرا في البيوت كانتشار المذياع الذي ما أن يشرع رمضان في الزيارة حتى يضبط مؤشره علي إذاعة القرآن الكريم التي كانت تصدح وتصدح بالكتاب والحكمة بثقافتها الوسطية السمحة. أجمل ما كان يمتاز به شهر "رمضان " في الصعيد عنه في أي مكان آخر هو " اللمة" . التجمع حول الإفطار وحول السحور ، وفي المساجد خلف الإمام في الصلوات . كان رمضان شهر اجتماعيات بامتياز . يعود فيه الغائبون ، ويتصالح فيه المتخاصمون ويتجمع فيه المتفرقون . كنا أطفالا ننتظره في شوق . لم تكن لدينا أعباء الكبار. كنا مخيرين في الصيام . كان منا من يستطيع الصمود حتى المغرب فيتناول إفطاره مع الكبار ومنا من لا يسعفه صموده إلا إلي صلاة الظهر ومنهم من يقاوم حتى صلاة العصر . وقبل الإفطار بينما تصدح ميكروفونات المساجد بتلاوة ما قبل الإفطار . كنا ننطلق من الشوارع الجانبية إلي الشوارع الرئيسية نتجمع من كل صوب وحدب وفي يد كل منا دراجته البدائية المصنوعة من أغطية زجاجات المياه الغازية . نلهو ونمرح ونضحك ونتشاجر ثم نعود إلي البيوت مع أذان المغرب وليس في نفوسنا شيء إلا آثار اللعب ، وعلي ملابسنا تراب الشوارع فننضم إلي الكبار في إفطار كنا نشم رائحته من بعيد. صلاة التراويح كان لها من اسمها نصيب..... " تراويح" . يروح فيها الصائمون عن أنفسهم بركعات النوافل . يتلوا الإمام القران بصوت يليق بما يقرأ . لا يطيل فيشق عليهم ولا يقصر فيستكثرون . كان الإمام يبتغي بين ذلك قواما . فإذا فرغ المصلون من صلاة التراويح ، تنقر الميكروفونات إيذانا بقراءة القرآن في ما يسمي بالسهرة الرمضانية التي هي من أهم سمات رمضان في الصعيد .تجتمع العائلة حول المقرئ الذي يصاحبهم في كل ليلة من ليالي رمضان فيجود حتى وقت السحور. أبخرة الشاي الذي ما زال يغلي علي نار هادئة منذ الإفطار تملا الأجواء , كان المشروب الأوحد والألذ والأنسب للسهر والسمر، فإذا شرع المقرئ في التلاوة تخفت الأصوات حثي تتلاشي ويطفئ كل ذي سيجارة سيجارته احتراما . لم تشتهر الكنافة الاصطناعية في الصعيد بعد ، إلا أن يجلبها القادمون من الشمال ...فقبل رمضان بأيام يشمر المحترفون عن ازرعهم لبناء ا فران الكنافة البلدي الطينية الدائرية أمام البيوت ، يعلوها مصباح شديد الإضاءة ، يظل ساهرا حتى الصباح . كنا نتزاحم علي شراء الكنافة اليدوية الرائعة التي ما تلبث أن تترك الفرن حتى تحتضنها أوراق الجرائد قبيل أن يشق الكيس البلاستيكي المصبوغ طريقه إلي الصعيد. يجوب المسحراتي الطرقات بطبلته ، بينما لا يزال الناس سهارى يتابعون مسلسل محمد رسول الله , يحرصون علي ألا تفوتهم أغنية المقدمة لياسمين الخيام فقد أصبحت طقسا رمضانيا قبل أن ينقطع البث التليفزيوني للقناة الأولي التي كنا نفضلها لنقاء صورتها عن القناة الثانية المشوشة دائما بعد أن تفشل كل الجهود لضبط "الاريال" فوق الأسطح الممتلئة بأعواد الذرة التي جففتها الشمس. ؤكد الإمام أثناء خاطرته القصيرة التي تتوسط التراويح أن العشر الأواخر من رمضان هي أيام العتق من النار بينما تستعد البيوت لإضرام النار في الأفران المنزلية التي تعلو سطوح المنازل. تجمع الأسر ما لديها من زروع جافة (وقيد) ، تسابق الزمن لشراء الدقيق والسكر والسمن والخميرة والمكسرات لصناعة البسكويت المنزلي والكعك والغريبة والفايش الصعيدي . كل مقدرات الأسر ومكتسباتها وأنشطتها تتوجه لهذا الخبيز الطري المعجون بطعم البيوت . ثلاث ليال علي الأقل هي المدة التي تحتاجها الأسر لإتمام خبيزها وسط فرحة الأطفال وانهماك الكبار . ما أن ينضج البسكويت حني تتبادل الأسر منتجاتها المنزلية وفي كل مرة تتبادل فيها الأسر بسكويت العيد حتى تملا الأجواء جملة (كل سنة وانتو طيبين) ،الصادقة من القلب.