![البنك الاهلي البنك الاهلي](/UserFiles/Ads/8372.jpg)
![هوامش علي دفتر النصر](/Userfiles/Writers/4068.jpg)
د. أحمد الديب
هوامش علي دفتر النصر
بقلم : د. أحمد الديب
تُطل علينا ذكري حرب أكتوبر المجيدة ونحن في أمس الحاجة لاستنشاق نسائم النصر واستحضار صور التضحية والبذل والعطاء المكللة بالنجاح . ومع الصعوبات الكبيرة والتحديات الجمة و بوادر اليأس التي أوشكت أن تتسرب إلي العقول والأرواح ، تُطل علينا في الميعاد قصص الصبر ووحدة الهدف وحسن التنظيم ورشد القيادة وعدالة القضية لتبعث بالأمل من جديد بأن هذا الشعب العظيم يستطيع أن يصنع تاريخه المجيد الذي يبعث ليس فقط علي الاعتزاز وإنما يرسل بطاقة أمل استثنائية لتخترق موجات اليأس المظلمة المهلكة.
ولأن المنح لا تُولد إلا من أرحام المحن ، فقد وُلد نصر أكتوبر من محنة غير مسبوقة تجرعنا فيها مرارة الهزيمة حتي آخر قطرة . تمزقت فيها نفسية المجتمع المصري ما بين الدهشة والحسرة والإحباط والإكتئاب إلا أن الهزيمة أنتجت فيما أنتجت روح الترابط والالتفاف حول هدف واحد وهو النصر وتحرير الارض ، فإذا بالهزيمة المدهشة تتحول إلي نصر مدهش وإذا بآلام تستحيل اعتزازاً بالنصر الذي تحدث عنه العالم كله .
كان لعبد الناصر رحمه الله كاريزما ملهمة وشعبية غير مسبوقه خصوصا في أوساط الطلبة والشباب والعمال والفقراء الذين الهمهم خطابه وأدهشهم توجهه نحو العدالة الإجتماعية وأعجبهم تكراره لكلمات العزة والكرامة والاستقلال الوطني كما ابهرتهم نظافة يده وعزوفه عن البهرجة التي كانت تحيط بطبقة الحكام ما قبل عصره .لا أدري أتكون هذه الكاريزما وتلك الشعبوية هما اللتان أبقيتا علي رصيد عبد الناصر حتي بعد النكسة الغير متوقعة لتكون للعاطفة اليد الطولي في حسم رد الفعل أم أنه العقل الجمعي الذي كانت حساباته لصالح عبد الناصر . وبغض النظر عن الأسباب تبقي النتيجة واحدة وهي أن الشعب التف حول قيادته نحو الهدف الأسمي فكانت حروب الاستنزاف التي مهدت لنصر أكتوبر الاستثنائي .
تُوفي عبد الناصر رحمه الله بعد النكسة بما يقارب الثلاثة أعوام ليتعرض الشعب إلي صدمة أخري تضيف إلي آلام الهزيمة التي لا تزال آثارها تتمكن من الوجدان ليحل محل عبد الناصر رجلاً مختلفا في الشكل والموضوع والأسلوب ، يحمل نمطاً آخر من أنماط القيادة ، هو الرئيس السادات رحمه الله . وكأن المرحلة الزمنية كانت تقتضي أن يكون علي سدة الحكم رجلاُ أقل شعبوية من عبد الناصر ولكنه أكثر ذكاءاً وانفتاحاً وأوسع رؤية وأبعد نظراً. كانت التركة ثقيلة علي السادات لا مناص ، ما بين هزيمة مدوية وأوضاع اقتصادية حرجة ناهيك عن القطاعات العريضة من الشعب التي لم تجد في السادات ما وجدته في عبد الناصر بطلها وزعيمها الأسطوري.
وعلي هامش النصر ، تكمن أهمية دراسة نموذج السادات في كونه أحد القادة الذين نجحوا في الإنتصار علي الذات قبل الانتصار علي العدو . يتحدث ستيفين كوفي في كتابه الأشهر " العادات السبع للناس الأكثر فعالية"... عن السادات في غير موضع ، وينصح قرائه بقراءة كتاب السادات الذي يسرد فيه سيرته الذاتية.. " البحث عن الذات" . وبرغم من ندرة الدراسات التي تحلل امكانيات القيادة عند السادات ، أري ان الأمر سيكون من الذي يمكن أن نطلق عليه " السهل الممتنع " لزخم الشخصية وتنوع أنماط القيادة فيها . وبعيداً عن الأحكام العاطفية التي يمكن أن تجعل الباحث متحيزاً لشخصية السادات ، أري أن معظم أنماط القيادة وكذا صفاتها التمثيلية والعامة تكاد أن تتمثل في نموذج الرئيس السادات رحمه الله.
في كتابه الذي صدر باللغة الإنجليزية والذي يحمل عنوان "" THOSE I HAVE KNOWN أو "هؤلاء الذين عرفت" ....يحكي الرئيس الراحل أنور السادات عن ذكريات الحرب فيقول... " إن سنوات ما بعد النكسة جعلتني أدرك أن أخطاء الديمقراطية التي يمكن أن تصيب جيل بالكامل لا يمكن أن تُقارن بأخطاء الدكتاتورية في يوم واحد" . وعلي الرغم من أن تجربة السادات الديموقراطية لم تكن كاملة وأخذت منحي هرول فيه رجال الأعمال وأصحاب السطوات إلي حزب الرئيس ، فإنه يُذكر للسادات ريادته في هذا المضمار بعد النصر ، كما يُذكر له تبنيه لإتجاه سياسي يكون فيه المدنيون هم الفئة الغالبة في ثلاث حكومات بعد نصر أكتوبر .
لا نصر بلا قيادة تعيد التنظيم وتوحد الصفوف وتحدد الهدف والمسار إليه . ويبقي علي هامش الذكري ، الجندي المصري المجهول في كل آن ، الطبيب والمهندس والفلاح والعامل الذين اخشوشنت أيديهم من حمل السلاح بعد أن اخشوشنت من حمل الفأس والآلة والكتاب والقلم . فكانوا أول الصفوف ينزفون العرق في السلم وينزفون الدم في الحرب ليسطروا ملحمة تضحية في كتاب التاريخ تستلهمها الأجيال الجديدة فتكون أيقونة انتصار تجترها الأيام من الماضي عوناً لنا في بناء حاضر أمة ومستقبلها.
إن أهمية نصر أكتوبر تتعدي زمان النصر والذي هو أول وآخر نصر علي عدو نحتاج من يذكرنا بين الفينة والفينة أنه عدو .ذلك الأسطوري الذي لا ُيهزم لم يعد بعد ذلك النصر أسطورياً . فلتُذكرنا ذكري أكتوبرفي كل عام أنه قابل للهزيمة ، شريطة أن تكون القضية عادلة ، وإذا ما توافرت قيادة رشيدة ذات رؤية ثاقبة وشعب صبور يؤمن كل الإيمان بحقه في استعادة أراضيه وعزته وكرامته ، فيلتف حول قيادته التي رأَوا منها ذات الإيمان بالقضية ولمسوا بأيديهم وشاهدوا بأعينهم روعة الإصطفاف الوطني والعطاء وحسن التخطيط وبذل الدم والعرق فأنجزوا نصراً مشهوداً علي دوي صيحات " الله أكبر"!.
ما أحوجنا إلي استعادة ثقافة الانتصار علي المستويين الفردي والمجتمعي . ما أحوجنا إلي روح أمل جديد ينفث في الهمم نيران الحماسة ، ويزود الجيل الجديد بميراث نجاح حقيقي ، يتعدي تاثيره فخراً بالماضي وولعاً به ، إلي تحليل حقيقي للأسباب الجوهرية وراء هذا الانتصار العظيم الذي أنجزه المصريون في ظروف لا تقل صعوبة عن ظروفنا الحالية المعاشة .
علي هامش ذكري نصر أكتوبر، وحتي لا تمر علينا الذكري في كل عام دون دروس . أقول إن الأمم التي لا يساعدها ماضيها في أن تتجاوز واقعها وتشتشرف مستقبلها وتخلقة بكلتا يديها ، هي أمم فقدت ماضيها ومستقبلها علي حد سواء . تاتي ذكري نصر أكتوبر لتمنحنا فيما تمنحنا مناعة ولو مؤقتة ضد محاولات التيئيس التي وللأسف لاح تأثيرها ليس فقط علي المستوي النفسي ، وإنما تعدي تأثيرها ليطول الأداء العام والمضي قدماً نحو البناء والتنمية والرخاء . لا أحد يعيش في مصر غير المصريين ، ولا أحد سوف يهلكه اليأس لا قدر الله غيرهم . إما أن نعيش فيها بالأمل في فضل الله وثقة في أنفسنا وقدرتنا علي تخطي الصعاب كما فَعل أشياعنا بالأمس ، أو فلنواجه التيه الذي نتمني من الله أن يعصمنا ويعصمكم منه.