![البنك الاهلي البنك الاهلي](/UserFiles/Ads/8372.jpg)
![تهميش الصعيد...وآفاق اللامركزية](/Userfiles/Writers/4068.jpg)
د. أحمد الديب
تهميش الصعيد...وآفاق اللامركزية
بقلم : د. أحمد الديب
ما أكثر ما تناولت السينما الصعيد علي أنه تلك المنطقة الإستثنائية في مصر، والمدججة بالسلاح والتي تسيطر عليها قوانين القبيلة ، والتي تمنح الكبير الذي لا ينطق عن الهوي ولا يسأل عما يفعل كل الصلاحيات ليفعل ما شاء وقت ما شاء . تسخر السينما كثيراً من العقلية الصعيدية فتحاول أن تظهرها علي أنها إما عقلية ساذجة مع شخصية بسيطة ، او عقلية شديدة الصلابة فهي كالحجارة أو أشد قسوة مع شخصية متمردة . في المرات القليلة التي تحاول فيها السينما أن تطرح شخصية الصعيدي الإيجابي ، يجسد الممثل دور الصعيدي الذي كان صعيديا حتي برأ من داءه ليعيش في مصر (القاهرة) مرتدياً البنطال بعد الجلابية وعوج لسانه بلغة أهل كايرو بعد ان كان يقول علي (جرجا بلد الرجالة ) ...(دردا بلد الردالة) . رفيع بيه ، الشخصية الاشهر والتي لم تعد موجودة كثيراً إلا في مخيلة محمد صفاء عامر والذي ربما لم يسعفه الحظ ليسافر إلي مسقط رأسه منذ سنوات عديدة. الصعيدي في وجهة نظر السينما هو عبد السميع في البيه البواب ومنتصر في الهروب ومحمد هنيدي في صعيدي في الجامعة الأمريكية . أما الصعيد فهو المساحات الخضراء الشاسعة العامرة بكل الخيرات من البيضة إلي البقرة الحلوب . الحقيقة أن السينما تعتمد في أطروحاتها علي الحكايا التراثية الشعبية الموروثة ، اما الأطروحات التي تعتمد علي الواقع الفعلي المعاش فنادرة.
هكذا تنظر السينما للصعيد كرد فعل حتمي للتهميش المتعمد والغير متعمد من قبل أنظمة حكم متتالية منذ عشرات السنين . هذه الأنظمة التي لا تنظر إلي الصعيد كأنه جزء يتجزأ من مصر المركزية . تنظر الانظمة المتعاقبة إلي قاطني الصعيد علي أنهم ناس غلابة بعمائم ذات طوابق متعددة قليلي الوعي والثقافة ، تتندر النكات والأحاجي المضحكة بسذاجتهم المنقطعة النظير . أهملت الانظمة المتتالية الصعيد ، بنية اساسية متهالكة من طرق وصرف صحي ومياه شرب ومشروعات إقتصادية لتشغيل الشباب ناهيك عن التهميش الثقافي الفج الذي لا يخفي علي كل ذي عين.
في تصريح لرئيس الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء ، إنه طبقا لبيانات آخر بحث أجراه الجهاز وأعلن نتائجه، فإن نسبة الفقر العامة فى مصر تقدر بـ26.3%، لافتاً إلى أن إقليم الصعيد يعد الأكثر فقرا داخل الدولة، حيث تتراوح نسب الفقر به 50% وأضاف أن محافظة أسيوط هى الأكثر فقرا داخل الجمهورية على الإطلاق، حيث تعدت نسبة الفقر بداخلها 60 % ، يليها سوهاج وقنا والمنيا وأسوان، مشيرا إلى أن المحافظات الحضرية هى الأقل فى نسبة الفقر نظرا لعدم وجود ريف بداخلها، حيث تقل فيها الفقر عن17 %.
محافظ سوهاج الحالي الدكتور أيمن عبد المنعم لديه إجابات دبلوماسية معلبة لكل سؤال ، أهم الإجابات التي يجيب بها علي معظم اسئلة الصحفيين ويرددها في المؤتمرات والمنتديات....." أحب أقول إن سوهاج مش بلد فقيرة ومش طاردة للسكان ، محتاجين نعرف قدرات المحافظة دي وشبابها وننميها .........." . يا سيادة المحافظ ، ومع الإحترام لشخصك وصفتك ، هذه ليست الإجابة النموذجية علي الإطلاق ، حتي لو كانت هي الإجابة التي ستبقيك علي الطريق . الإجابة النموذجية هي " سوهاج من أكثر المحافظات فقراً ومن أكثر المحافظات طرداً للسكان ....وبعدين تكمل زي منتا عايز" . علي العموم تظل الفجوة قائمة بين مسوغات استمرار المسؤول في منصبه وما يفعل علي أرض الواقع..
بين يديك الآن ذلك الخبر الطازج من جريدة الأهرام عدد 10 أغسطس 2016 ولن أعلق عليه ليكون التعليق مسؤولية القاريء الكريم، الخبر بعنوان ...." (صفر) مشروعات الصرف الصحى بسوهاج يحيل المسئولين للنيابة العامة" .... يقول الخبر " أعلن الدكتور أيمن عبد المنعم محافظ سوهاج سحب مشروع صرف صحى ساقلته والذى كان مقرراً الانتهاء منه ودخوله الخدمة منذ 3 أشهر بتكلفة 120 مليون جنيه من الشركة المنفذة لعدم الجدية وإحالة الموضوع للنيابة العامة للتحقيق" وأضافت الأهرام علي لسان محافظ سوهاج... " غياب التنسيق دائما ما يكون وراء تعطل الاعمال وأنه من غير المسموح لأى شخص تعطيل مصالح وأهداف الدولة مهما كان هذا الشخص حيث إن المرحلة حرجة وتحتاج لتضافر كل الجهود وأضاف ان هناك تقاعسا وتخاذلا من قبل بعض الشركات ويجب عليها الالتزام بالجداول الزمنية المعدة لكل مشروع وإلا سيتم سحب العمل منها واحالتها للنيابة العامة للتحقيق" .
وهكذا دأبت الحكومات علي تهميش الصعيد والذي لن تقوم له قائمة في ظل نظام إداري مركزي غير متواكب مع تغير الأزمنة . المركزية ، ذلك النظام الإداري العتيق التي تبنته الدول التي تشكل فيها وحدة الدولة أهمية قصوي . يقول جمال حمدان في كتابه "شخصية مصر"...." لعل من أبرز ملامح الشخصية المصرية، المركزية الصارخة طبيعيا وإداريا. وهي صفة متوطنة قديمة قدم الأهرامات" . ثم تبنى محمد علي النموذج الفرنسي للحكم الذي كان يتسم بهيمنة السلطات المركزية على السلطات المحلية في القرن التاسع عشر وكان الهدف من ذلك توحيد البلاد وتعزيز إيراداتها الحكومة المركزية ، استطاعت فرنسا تطوير هذا النموذج بشكل كبير حيث قامت الحكومة المركزية بتفويض صلاحيات متزايدة للسلطات المحلية المنتخبة وفي نفس الوقت حافظت على كيانها كدولة موحدة.
تركت المادة 179 من دستور 2014 المجال مفتوحاً لإمكانية انتخاب المحافظين ، فضلاً عن رؤساء المراكز المحلية ورؤساء المدن ورؤساء الاحياء وعُمد القرى – وذلك قد يمثل مدخلًا محتملًا للديمقراطية على المستوى المحلي. ومع ذلك فإن هناك بعض الخبراء المصريون الذين يصرون على أن المحافظين يجب ان يظلوا معينين وأن اللامركزية لا تناسب الشأن المصري حفاظاً علي وحدة الدولة وخوفاً من التقسيم . ومع الإحترام الكامل لكل الآراء أقول .... إن هذا التخوف يكون في محله تماماً إذا كانت مصر بلد ذات طبيعة مذهبية أو عرقية كالعراق أو حتي لبنان . لا توجد هذه السمات في مصر والحمد لله فالتخوف ليس في محله تماماً.
فلنأخذ من اللامركزية ما أجمعت كل التجارب الدولية علي أنه السبيل لحل مشكلات الأقاليم دون تطبيق اللامركزية الموسعة والتي يتخوف منها البعض . الرأي الأوقع في هذه الظروف التي تمر بها مصر هو تطبيق روح اللامركزية وليس بالضرورة قوانينها الموسعة الصارمة بإعطاء صلاحيات أكبر للمجالس الشعبية المحلية بمنحهم المسؤولية والمحاسبة معاً .لا بد أن يكون في أيديهم سلطة إتخاذ القرارات العاجلة ، و الإشراف الفعلي على جميع المرافق فضلاً عن الإشراف على القرارات التي يتخذها الرؤساء والمجالس التنفيذية للوحدات الإدارية المحلية – المحافظات والمراكز والمدن والأحياء والقرى – الذين عينوا بواسطة السلطة التنفيذية .
ثمة مميزات متعددة للنظام الإداري اللامركزي ، سياسية وإجتماعية وإدارية . أهم المميزات هي التخفيف من العبء الإداري الذي تحمله الحكومة المركزية ، و السرعة في إتخاذ القرار، وإنجاز المهام وتحقيق الكفاءة الإدارية في المناطق البعيدة عن نظر الحكومة المركزية ، و تحفيز العاملين من خلال إتاحة الفرصة لهم بالمشاركة في عمليات اتخاذ القرار ، و إتاحة الفرص لتدريب المدراء في الأقاليم والمحافظات من خلال تفويض الصلاحية لهم وبذلك تفتح المجال لزيادة خبرتهم والتعلم من خلال العمل .
وبعد ، ما أكثر رؤوس الأموال الصعيدية ، وما أكثر المستثمريين الجنوبيين ، وما أكثر الإعلاميين والكتاب والمثقفين وغيرهم من ذوي المقامات المرموقة . إعلموا أنكم وإن من الله عليكم بالترقي فتركتم الصعيد إلي أماكن أكثر رحابة وأكثر تحضراً ، فإن ذويكم لا يزالون يقطنون الصعيد ، والذي يحتاج إلي جهودكم من أجل طريق ممهد وكوب ماء نظيف ونسمة هواء نقية ، لوجه الله ولوجه ذويكم.