عاجل
الأحد 9 مارس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
الله يا عم طه.. الله

الله يا عم طه.. الله

بقلم : د. نهلة زيدان الحوراني

ربما لأنه لا يتذمر أبدًا، وربما لأن تلك الحديقة التي تنمو بداخله مع كل فرقعة إصبع حتى تشرق الشمس تأخذنا نحوها كدوامة، وربما لأن البحر يحب هؤلاء الذين يصادقون الموج لذا يدخر العواصف لسواهم معظم الوقت. ربما وربما وربما. تعددت (ربما) والاستمتاع واحد. فالجميع ملقون على شهقات صغيرة تشبه ألبومًا مُجمعًا لتفاصيل الحياة. وهو يعبث بالشهقات أنَّى شاء ولا يبدو كمن أرسل سرية عبق عاصف لحياتك وهو ساكن تمامًا.



لا يمكن أن تتخيل أن كل هذا العالم الذي تم تحضيره من بلورة سحرية داخل صندوق بيانو حضر توًا بدخول محمد طه الشاب السكندري الذي عشق التاريخ منذ نعومة أظافره وأحب الألوان والحياة وشكل من موج البحر أواراقًا طواها مراكب لتحارب أسطول الإسكندر المقدوني وتأخذ كل الموسيقى التي حفلت بها قيثارة فتاة رومانية عشقت ساحل مصر. ولأن الرياح لا تحب السفن التي تعاندها فقد بصره في الثانية عشرة من عمره لكنه لم يفقد أبدًا شغفه بالحياة، وكأنه كان يريد أن يختبر كل ما أخذه من العالم في معمل الموسيقى، يعطيه أسماء وإشارات وألوية ثم يعيد صياغته في قصة جديدة بسيطة صديقة للحياة.


لم يتأخر يومًا عن موعده منذ بدأ العمل في هذا الفندق الجميل في رشدي. اضبط ساعتك على خطوته الأولى في بهو الاستقبال، إنها السابعة والنصف مساءً. يدخل بمساعدة أحد العاملين بالبار، ومنذ البداية لا يتوقف هو ولا كل من يصحبه عن الابتسام وتبادل كلمات بصوت هاديء منخفض لا يصلك وسط ضجيج الزبائن لكن يصلك حالة الطمأنينة التي يثيرها. في الشتاء يضع شمسيته البيضاء لتأخذ متكأها المعتاد إلى يمين البيانو البني الشديد اللمعان ثم تختفى قامته القصيرة خلف البيانو حين يجلس، ورغمًا عنك ستجد أن الكثير من الحضور يمطون رقابهم للأعلى بحثًا عنه خلف البيانو، حتى يظهر رأسه مجددًا عندما يحضر عصير الليمون. يسود هدوء مؤقت. يشرب الليمون ثم يفتح باب الجنة.


ما يميز هذه الألحان أنها تأخذك حيث يعرف الأطفال أن الحياة بسيطة، فإن كان هناك ما يجمع معظم عازفي البيانو فهو أنهم يعملون على تشكيل سيمفونية من أجزاء متنوعة تجتمع معًا، لكن طه يعمل دائمًا على استخدام آلة العودة بالزمن للخلف، هو بارع في تفكيك كل التعقيد كي يقدم لك النغمة الأولى، يستخدم كل طبقة من طبقات البيانو منفردة كي ترد على طبقة أخرى في حالة شبه حوارية بين أجزاء اللحن الواحد، والغريب أنك منذ البداية تكون جزءًا من الحوار. وتلك النغمات الأحادية البسيطة تجعلك هادئًا مستمتعًا طوال الوقت لأنك في الحقيقة دون أن تدري طفل طوال الوقت.


هذه الطفولة ستجعلك تتواصل معه كواسطة بينك وبين البيانو الذي سيصبح عصاك السحرية، وستطلب منه أن تسمع نغمتك الحنينية المفضلة، وسيدهشك أنه يعزف أي شيء تطلبه ارتجالًا لذا ستتغاضى جدًا وطواعيةً عن بعض (الهنات) في المقاطع الطويلة، فهذا الرجل يهبك رحلة للسماء الصافية الغير معقدة التي هطلت منها على الأرض منذ زمن.


ليست مبالغة أنك بحلول التاسعة وحين يأتي الموعد ويرحل طه، لوحده هذه المرة، ستشعر بجوع شديد لكل شيء لأنك رأيت ملخصًا لحياة جميلة تستحق أن تلتهم كل جزء فيها بنهم وسعادة. ستكون جاهزًا للحب كما كنت في الحب الأول، وجائعًا للحليب كما كانت معدتك في طبعتها الأولى للحياة، وجاهزًا للعب كما كانت مفاصلك الشغوفة بالمسافات دون تعب بعد الخروج من المدرسة أول مرة. وستعلم أن الحياة ليست لحنًا بل مجموعة أصابع بيضاء وسوداء، لذا من الأبسط أن نحاول التعامل مع شخصية كل إصبع على أن نحاول اكتساب أهميتنا ونضجنا من تعقيد لحن معقد. وستقول كما قلنا جميعًا : (الله يا عم طه.. الله).
 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز