
دمشق - القاهرة
بقلم : د. نهلة زيدان الحوراني
بدت وقد تجمع حولها أطفالها الأربعة كما لو خرجت للتو من صفحة فى كتاب تاريخ ... بقى أن يُكتب تحتها (وتحمل اللاجؤون أوزار الصراعات الداخلية) ... حتى البعد لم يشفع لهم فى الإصابة بصواريخ أرض جو ماركة (دمشق - القاهرة) ...
بعد إصابة ابنها الأصغر الذى لم يتجاوز الأعوام الأربعة فى عينه اليمنى قرر زوجها أن ينفد بجلد أسرته من صراع لا يفهم معظم السوريين ما الطائل الذى سيعود عليهم منه ... هى حرب أهلية بين طرفين كليهما يساوم على وطن هو ملكه فى الأساس ... ما جدوى حكم أرض محروقة ؟! ... بحكم عمله كتاجر عطور كانت حسابات الأرقام مما يحدث تعود عليه بالخسائر والخطة البديلة كانت دوماً هى تغيير النشاط تماماً ... معظم أبناء وطنه لا يطلبون تفاوض الأطراف لأنهم يعلمون أنهم كبش فداء الصراع والتفاوض معاً ... يريدون فقط أن يغلقوا أبوابهم على أولادهم دون أن تصدح كلمات الله كل صباح فى بيت أهل شهيد أغلق بابه عليه أو أُغلق عليه بابه ...
أقامت أسرتها الصغيرة فى مخيم على حدود الأردن للاجئين ... وماذا يبقى لك بعد الإقامة فى مخيم كهذا سوى الرغبة فى وطن؟! ... وكأم تعانى حالات الحنين بدأت سُهيلة تحكى لأطفالها كل ليلة عن سهرات جميلة فى حضن منزل يدفئه صهاريج المازوت الصغيرة شتاء وعن صيف تملؤه نسمات سهل الزبدانى وعن منابع نهر بَرَدَى التى ترعاها أمطار الله وعن أجدادهم الذين بنوا وطناً لا مجال لحروف فرنسية استعمارية فيه إطلاقاً ... كانت فخورة جداً بوطنها ... تنظر على البعد خلف ظلالهم وهم يلعبون أمام خيمتها ... تقرئ سوريا السلام ... وتسمعها ترد السلام رغم أنها تطلبه ...
بعد شهور لم تحصها لتشابه الأيام فى مخيم لا شئ فيه سوى الاستيقاظ والنوم والسمر على الذكريات والحلم بينهما ... قرر زوجها وصديق له النزوح بأسرتيهما للقاهرة ... فرصة مقبولة من أجل أن يواصل الأطفال التعليم ويواصل الأب والأم شكل حياة أكثر استقراراً فى مدينة بعد مخيم ... جمعت سهيلة كل متعلقات أسرتها وذكرياتها فى المخيم فى حقيبة واحدة ... عبثاً حاولت جمع أكثر ...
فى القاهرة استطاع زوجها أن يحصل على أوراق رسمية للإقامة وبدأ فى التخطيط لإلحاق أطفاله بمدارس خاصة ... لم يجد ما يقنعه هذه المرة باجتناب تلقى مساعدات فى هذا الأمر ... لاسيما وأنه بدأ فى التيقن بأن ما يحدث حدث بأيدى العرب جميعا ولن يزول إلا بأيديهم جميعاً ... حظيا بشقة جميلة فى التجمع الخامس ... بدأ زوجها فى ممارسة نشاطه القديم ... رحلت معه عطوره ... وذات ليلة رحل عن الحياة قبل أن يفتتح محله التجارى بعد طريق إعداد طويل ... اضطرابات فى القلب سكت على أثرها نبضه للأبد ...
آلمها رحيله جداً رغم أنه لم يدهشها ... فهذا الرجل دربها كما دربت أولادها طوال ثلاث أعوام على العيش وحدهم ... جميعهم يفعلون ذلك ... حين تصبح وجلاً من أن لا تراهم غداً تبدأ فى إخبارهم بكل أسرارك وكل خطواتك ... لم يكن أحد يتذمر من ذكر الموت ... كان الجميع يدعو ويبتهل ... ويستعيض بالمساءات القصيرة التى يتبادلون فيها ضحكات حقيقية حول زمن جميل ويوميات قصيرة بلا امتداد ... كان الصغير الذى تعافى تماماً يقول لأبيه دائماً : (بدى صير دكتور وعالج كل العالم) ... وصارت كلماته حلماً ...
اليوم وهى تتلقى العزاء فى زوجها ... حولها عشرات السيدات المصريات لليوم الثالث على التوالى ... تفكر جدياً فى قبول عرض خطبة رجل مصرى ثرى حتى تنتهى عدتها وتتزوجه ... سيتكفل بكافة التزاماتها المادية ... اقتربت منها جارتها منى ... قالت بعد أن ربتت على ركبتها داعمةً :
- ماذا قررتِ ؟ لا بد أن ترسمى خطة للمستقبل من أجل أطفالك سريعاً ... سامحينى أننى أتحدث فى أمر كهذا الآن ... أنت تعلمين أننى معك وأدعمك فى كل شئ مهما قررتِ ... بيتى بيتك وجيبى جيبك ...
- أسمعتِ عن عرض الحاج فتحى ؟
- نعم ... ولكن لا أظنك لا تصلحين إلا للزواج فقط ... عاشرتك لشهرين وأعلم أنك أذكى من قبول أول عرض ... ثم أن الحاج فتحى (مش هيطير) ...
- لا أعلم ماذا أفعل ...
- زوجك كان شريك زوجى ... غداً سأنزل معك ونباشر ما بدأه رجل كريم ... ابنتى الكبرى سترعى الأطفال فى غيابنا وابنك يزن صار عليه أن يصحبك ... ما شاء الله هو فى عامه الخامس عشر ويبدو كما لو كان ابن العشرين ... نحن معك وأنت معنا ... ساعدينا كى نفعل ما يريحنا أيضاً ...
صمتت فى حيرة لتلاحظ ذلك الارتياح الذى بدأ فى التصاعد داخلها .. من يعرف سوريا يعلم أن أهلها لديهم ذكاء فطرى فى التجارة حتى أن نسبة كبيرة من أهلها إما يعملون بالتجارة أو يساهمون فى عمل تجارى بشكل أو بآخر ... ونساؤهم كرجالهم فى التمتع بهذا الذكاء الفطرى ... لكنهم ينظرون لهن كبضاعة مزجاة عبر الحدود أحياناً ... ثم أن الحاج فتحى بعد زوجها (مش نافع) ... وآه يا قلبها على يزن ..