عاجل
الإثنين 10 مارس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
صفقة خاسرة

صفقة خاسرة

بقلم : د. نهلة زيدان الحوراني

لفتت نظره بقوة لسبب لم يعرفه أبدًا ... امرأة خمسينية لم يصلها من الجمال سوى قدرتها على ارتداء فستان قرمزى أنيق جدًا ... كان يعبث بأوتار جيتاره ... شعر ببعض النغمات تشبهها ... ابتسم ... نظر إليها للمرة الأولى مطولًا ... بل حدق بها شاردًا ... ابتسمت ... قالت له : (هل تعرفنى يا بُنى؟) خجل من اقتحام خصوصيتها ... لكنها كانت أكثر مرونة مما يتوقع ... دعته للشاى فى عربة الطعام ...



الطريق من القاهرة لريف الأقصر أطول مما يظن البعض حين لا يكون لديك ما تحبه هناك ... كان فى طريقه لحضور زفاف ابن عمه رضوان ذو الخمس وعشرين سنة ... يكبره بنحو العامين ... ويعلم أن عمه قد أعد له قائمة بأسماء وصور كل فتاة ستمر بجوار أستار صيوان الزفاف ... لم يبق من العائلة سوى هذا العم ... الفرار للقاهرة كان خيارًا مثاليًا بالنسبة له بعد ضغوط شديدة لتولى أمر عدد من الفدادين لا يذكره ... فليس هناك فرق موسيقية غير فرق المديح أو الملاحم ... أو عليه أن يصحب راقصة ... وفى كل الأحوال لن يسمع أحد جيتاره مالم يتحول لآلة أخرى تندمج مع التراث ... وجد حياة جميلة فى الأوبرا ... بعض الحياة الجميلة تستحق أن تعطيها أجرًا بدلًا من أن تأخذ أنت أجرًا ... هو مستمتع بالاندماج مع حياة رسمها وسارت على خطوط هواه حتى لو لم يجد فى خطوطها هؤلاء الذين رسمهم ولم تُنفخ فيهم روح الواقع ... الأشخاص لمحيطون به كالواقع الذى لا يريد حتى يعزف على الجيتار ...

كانت تثير فضوله بعنف ... شعرها الأحمر المصبوغ بعناية ... جسدها المشدود رغم غياب استدارات الحسن عنه ... حقيبة العمل الجلدية البنية التى لا تفتأ تفتحها كل خمس عشر دقيقة ... تتفقد بعض أسعار البورصة على الـ (Tab Let) ... طلاء أظافرها المطابق للون ثيابها ... لم تكن تجذبه لجمالها ولكن لفضول لديه بأنها مختلفة ... تنتمى لذلك العالم الذى يرسمه ...

رشفت أول رشفة من فنجان قهوتها ... قالت بعد شهيق طويل من البن كمن يستنشق العالم :

- أنا ميار ملهم ... سمسارة بورصة ...

- أنا سليم بهجت ... عازف جيتار بالأوبرا .

- رسميًا ؟!

- نعم ... لماذا تسألين ؟!

- طوال سنوات عمرى الكثيرة كنت أتمنى أن ألتقى بعازف أوبرا ... أحضر حفلة موسيقى كلاسيكية مرة كل أسبوع تقريباً ... أى نوع من الموسيقى تعزف ...

- أطوع نغماته الغربية فى التخت الشرقى ... هذا ما أحب وليس كل ما أعزف طبعاً ... أشعر أن الـ (Soft Rock) رياضتى المسلية أحيانًا .

ضحكت ثم تابعت ...

- لم تتزوج إذن ما دمت تمارس رياضة موسيقية ؟

- ليس لهذا السبب ... لكن لأننى لم أجد بعد المرأة التى تغرينى بالقفزة القدرية ... كلنا مقدر له القفز ... إما أن نجد من يلهمنا بالقوة فنصل لضفة النجاة أو من يلهمنا إلهاماً ضعيفة فنغرق فى المنطقة المائية الوسطى ...

- أنا قلت ذلك لسنوات حتى وصلت لما أنا فيه ... والغريب أننى لست نادمة ... سعيدة جدًا أننى عشت الخارطة التى رسمتها ... هكذا يكسب كل عملائى أيضًا ويشعرون بالسعادة ...

- فقط لأنهم يتعاملون مع عقلك الجميل ...

كانت مجاملة واضحة الاصطناعية منه تمامًا ... لكنها تقبلت بحب ... لم يكذب فى أنها ليست جميلة ... هربت من عينيه التى حاولت قياس مدى تقبلها لمجاملته ... أخرجت الـ (Tab Let) ... استبشرت بصفقة ناجحة ... ارتفاع كبير فى الأسهم ... باعت بفرق سعر كبير عن سعر الشراء ... لغة الربح لغتها ... لو خسرت تفقد عالمها الجميل ... وكأنها تعيش حياتها على رهان دائم بأن تبقى حية ... سلسلة من الصفقات تتجدد كل خمس عشر دقيقة ...

قال لها :

- اسمحيلى ولا تسيئى فهمى ... أنت ألهمتنى بلحن ... هلا أسمعتك بدايته لربما كان رد فعلك هو بقية النغمات ؟!

- طبعاً ... أنت ستحقق لى بذلك حلم قديم ... أرجوك تفضل ...

بدأ العزف ... نغمات تشبه لحظة احتراق الشهاب تمامًا ... كان يلاحق مقامًا شرقيًا بنغمة تشبه الصراخ ... شردت فى حياتها ... أخذتها قدماها للنافذة ... القطار يركض بسرعة ... تبدو كل أغصان الذرة الطويلة وكأنها هى من يركض ... شديدة الديناميكية ... تذكرت أمها : (لو أمسكتها يا ميار ستجذبك للخارج ولن نستطيع اللحاق بك) ... حاولت إمساكها مرة فى غفلة من أمها ... لم يحدث شئ سوى أنها مزقت جزءا من الأوراق اليابسة ... علق بيديها البعض منها ... ثم طارت فى الهواء ... انتهت خمس دقائق من الموسيقى ... توقف سليم ثم تابع العزف وكأن نهر إلهامها تدفق إليه ... بهدوء شديد عادت لفنجان قهوتها على الطاولة ... كانت ترتشف سائله البارد كفكرة باردة بدأت تحاصرها ... وبدأت الفكرة تنمو وتتبعثر حول ألحانه حتى حاصرتها تمامًا وتحولت لحق يجب أن تمارسه ... قاطعت صراخ وتره ... قالت : (لا أراك ابنى بحال من الأحوال) ... أصابته صدمة غير معلومة الاتجاه ... لكنه بدأ يشعر بامرأة تعقد صفقة رغبة ... قالت :

- إليك عرضى يا صاحب القلب الكبير ... أنا فى الخامسة والخمسين من عمرى ... لست ولم أكن جميلة يومًا ما ... ولم يطلب أحد زواجى يومًا ... فهل لى أن أطلب منك أن تشعرنى بأننى إنسانة لها الحق فى ممارسة جانب من إنسانية الأنثى بحكم مأذون ... لست مجبرًا على شئ ... لكنه أنت وموسيقاك ... أنت حلمى القديم ... لا أقايض طلبى بشئ ... أنا لا أعرض مالًا وإن كنت أملك الكثير منه ... أنا فقط شخص يطالب بجانب من إنسانيته ... حرمونى من المطالبة بذلك الحق طويلًا تحت مسميات عدة منها الدين مع أن الدين من ذاك براء ...

- ولكن أنا ..... فقط مندهش ......

   أشاحت بوجهها عنه نحو الـ (Tab Let) مرة أخرى ... كان قلبها يغوص فى الأمل والألم معًا ... شعرت أن الحلم يمر بها وأنها صياد ماهر ... ولكن الخوف مؤلم من أن لا تستطيع أكل السمك الذى تصطاده كعادتها ... أنا هو فكان متعاطفًا تمامًا مع أنثى تعصر ذاتها فى قفزة أخيرة قد تسقط منها سقطتها الأخيرة بلا هوادة ... فلا يكون لها القدرة مرة أخرى على القفز ... نظر لها بإمعان ... أطال النظر وهى تتجاهل نظرته ... من قلب متعاطف لقلب يتوق للحياة قرر أن يقبل الصفقة اللامادية ...

ساقها حرمان خريفها لأرض ربيعه ... عرضت عليه الصفقة بهدوء ... شحذ نهره وقرر رى أرضها ... هو يعلم أنه لن يأخذ شيئًا سوى إعطائها الفرصة العادلة ... اتفقا على اللقاء فى القاهرة ... بعد الزفاف والمؤتمر الاقتصادى الذى كانت تقصده ...

   سكنا فى شقته الصغيرة ... قضيا أسبوعًا جميلًا بلا شغف ... لكن كل منهما كان يشعر بسعادة الرضا عن آدائه للمطلوب منه على أكمل وجه ... بعدها عادت لشقتها فى نشوة ... لم تطلب الطلاق ولم يرغب فى ذلك ... لم يستطع أن يقاوم فى داخله ذلك الشعور الذى خبره فى كل تواصل معها ... سنواتها تمتص طاقته ... تجعله يعيش حياته مضاعفة الزمن ... يستطيع أن يضرب كل دقيقة يقضيها معها فى خمس دقائق بكل ما تحمله الخمس من مشاعر وطاقة وأحداث ... فجأة شعر أنه صار أكبر وأنه حصل على فرصته الأولى والأخيرة ... وكذلك هى ... 

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز