
وايا والعيون الزرقاء
بقلم : د. نهلة زيدان الحوراني
كانت الفوضى تعوث فى كل بوصة فى منزل ابن شيخ القبيلة ... حتى أن رمال الصحراء لم تكن تجد مكانًا على بلاط صالة الدوار كالعادة ... وصراخ ليلى يعلو ... لكنها لم تكن تصرخ من ألم الولادة فقط ... كانت تعلم أن العيون الزرقاء للطفل قد تكون آخر ما ترى من حياتها ...
أفراد قبيلة النوايسة كلهم يملك عيون بنية ... لا دخيل تسلل لهذه العيون من قبل ... أهل الصحراء يعرفون أبناءهم جيدًا ... لكنهم يؤمنون أن للأفاضل منهم كرامات فى ملامحهم كسقوط المطر ... لا قواعد لها ...
دخلت عليها أمها متشحة بزيها الأسود التقليدى ... خلعت ثوبها سريعاً لتظهر بثوبها الأخضر التحتى حتى لا تجلب الفأل السئ لولى العهد ... قبلتها وربتت على بطنها بحنان ... كانت تبكى فى صمت وقد هدأ صراخها ... ليس هناك ما تفعله غير انتظار الرحمة ... أغرى هدوءها الأم كى تتلو بعض آيات القرآن وهى تسمح على رأسها وبطنها ... دعاء ورقية شرعية ...
توقفت عن البكاء قليلاً ... شعرت للحظات أن الطفل تبخر من بطنها ... لا ألم ولا ثقل فى أسفل الرحم ... ربما مات ... ومات معه السر ... لا تعلم لماذا شعرت بأنها تفضل أن تموت ويعيش الطفل ... أخبرتها طبيبة الوحدة الصحية أنه ذكر ... وفرح زوجها لأن النوايسة (خلفتهم) بنات منذ عقد كامل ... ولى العهد بعيون زرقاء يقتلها أفضل من فقدان صاحب تلك العيون حتى لو لم تره ... بدأ فى ركل جانب بطنها الأيمن ... صرخت من السعادة ... الطفل بخير ... سيأتى للحياة ... وسيكون سعيدًا ... هى تعلم ذلك ...
دخلت أم سيد الخادمة بالبخور ... ناولتها كوبًا من عصير العنب البارد ... رفضت شربه لكن أمها نهرتها وأمرتها أن تشربه ... بدأ الألم يزيد ... وأمارات قدوم الطفل تتسارع ... كثر عدد النسوة حولها ... وهى تصرخ من الألم تارة ومن الخوف أخرى ...
أخيرًا هبط طوق النجاة من السماء ... دلفت من الباب لؤلؤة سوداء لامعة ... (وايا) تلك المرأة الحبشية التى قُبض عليها حين حاولت عبور الحدود لإسرائيل منذ عامين بطريق غير شرعى ... هربت واختبأت فى حمى شيخ القبيلة ... والجميع هنا يعلمون أن حمايته بعد حماية الله مباشرة لا يشق لها عصا ... مع الوقت بدأ أهل القبيلة يظنون أنها تعرف كيف تمارس طقوس السحر الأسود ... رغم أنها لم تفعل شيئًا غير التحدث بلغة مفهومة والرقص شبه عارية تحت المطر فى أيام الشتاء القارس ...
صاحت النساء فى وايا ... لا بد أن تخرج قبل أن يموت الطفل أو (ينسخط) ... لكنها طلبت من أمها أن تنفرد بوايا ... تعجبت الأم ونهرتها ... هبت بجسدها قوة غريبة ... وقفت على قدميها بسرعة ... طردت الجميع ... وجادلت أمها حتى خرجت ...
نظرت لعينى وايا السوادوين الكبيرتين ... سرى الخوف داخلها ... تحدثت وايا بكلمات غير مفهومة ... غنت بصوت عالِ ... علت دقات بعض النسوة على الباب لينقذن ليلى ... لكنها صاحت بهن ليصمتن ... طافت وايا حول جسدها المتعرق عشر مرات ... ألقت بعض الأحجار من جيبها فى حجرها بعد أن ضمت قماش ثوبها بين ساقيها ... ثم رحلت ...
سقطت ليلى أرضًا ... جاء الطفل أزرق العينين ... ولم يتخيل أحد أن هناك سبب قوى ليشبه الطفل مهندس منطقة منجم الذهب ... بل ظن الجميع أن ابن ابن شيخ القبيل كان قويًا بما يكفى لقهر سحر وايا ... أما وايا فلم تكن غبية ... كما لم تكن جاهلة بلغة العرب ... كونت ثروة حتى عبرت الحدود ذات ليل ...