أيمن عبد المجيد
خريطة جديدة لمصر رسمتها 30 يونيو بالعرق والدماء “1”
في الركن الشمالي الشرقي للقارة الإفريقية، وامتدادها الآسيوي في شبه جزيرة سيناء، تُطل أم الدنيا مصر، أرض الكنانة، بسواحلها الشمالية على البحر المتوسط، وسواحلها الشرقية على البحر الأحمر.
جذور مصر الدولة، ضاربة في عُمق التاريخ البشري، مسافة سبعة آلاف عام، من الحضارة والعطاء والبناء، تلك السنوات الطوال زرع فيها الأجداد دأبًا، فكانت إذا ما حل بالعالم القحط هي خزائن الأرض، وملجأ الأنبياء، فقد قال سيدنا يوسف نبي الله، ابن نبيه يعقوب، لعزيز مصر: "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظٌ عليمٌ".. صدق الله العظيم. في تلك السنوات الطوال، وبجهد مُتراكم من الأجيال المُتعاقبة، نجح المصريون في تعمير 78.990 كيلومترًا مربعًا من مساحة الوطن الغالي البالغة 1.002.000 كيلومتر مربع، بما يعادل 7.8% فقط عُمران من إجمالي مساحة تفوق المليون كم٢. تتوزع مساحة مصر الشاسعة، بين حدودها المترامية على أربعة أقاليم، هي: الوادي والدلتا، اللذان يُشكلان 40 ألف كيلومتر مربع من إجمالي مساحة مصر بنسبة 4%، وصحراء مصر الشرقية التي تشكل 22% من مساحة الوطن الكلية، والصحراء الغربية، التي تشكل 68% وشبه جزيرة سيناء 60 ألف كيلومتر مربع بنسبة 6%.
بنظرة سريعة على خريطة مصر الجغرافية، وخريطتها العمرانية التاريخية، المتراكمة، وتوزيعاتها السكانية، نستخلص قاعدة معلوماتية ضرورية ننطلق منها لتحليل علمي يشخص تحديات الوطن، لقياس حجم ما تحقق من إنجازات.
الخريطة التاريخية، تشغل المساحات التنموية المأهولة بالسكان فيها 7.8% فقط من مساحة مصر الإجمالية، يقطنها أكثر من 103 ملايين مواطن، بزيادة سنوية 2.2 مليون مواطن.
تلك الملايين من البشر، تُعاني خللًا من التوزيع السكاني، جعل من الدلتا- التي تعد أخصب الأراضي المصرية- أكثر الأقاليم كثافة سكانية، وبمقارنة بسيطة بين محافظة القاهرة الأكبر من حيث عدد السكان البالغ 10.2 مليون عند كتابة هذه السطور- 7 يونيو 2022م- بما يمثل 10% من سكان مصر، رغم كون مساحة العاصمة القاهرة المأهولة بالسكان فقط 188 كم٢، من إجمالي مساحتها الكلية 384 كيلومترًا، بمتوسط كثافة سكانية يفوق 53 ألف مواطن في الكيلومتر المربع الواحد.
في المقابل، فإن عدد سكان محافظة جنوب سيناء، 113 ألف مواطن، 33.140 كيلومتر مربع، بكثافة تقارب 3 مواطنين للكيلومتر المربع، وإذا جمعنا عدد سكان شمال سيناء 450 ألف مواطن على جنوبها فإن إجمالي سكان شبه جزيرة سيناء يصل 563 ألف نسمة على سدس مساحة مصر، بكثافة سكانية لا تتجاوز 10 أفراد فقط على كل كيلومتر مربع. من تكدس 53 ألف مواطن في الكيلومتر المُربع، إلى 10 أفراد فقط في المساحة ذاتها، هذا التباين الضخم، ينعكس بشكل مباشر على جودة الحياة، والقدرة الاستيعابية للمناطق المكتظة في وادي النيل والدلتا بملايين البشر، تتهالك البنية التحتية، وتزيد الاختناقات المرورية، وتضيق سُبل العيش، ويزداد الطلب على أراضي البناء لاستيعاب الزيادة السكانية، فتظهر العشوائيات وتلتهم التعديات الأرض الزراعية.
كارثة حقيقية عاشتها مصر، في السنوات الثلاثين السابقة على العام 2011، حالة اختناق جماهيري، ولّدت الانفجار، فاستغل الآلاف حالة الفوضى في العامين التاليين، للتوسع في عشوائية البناء، والتهام المزيد من المساحات الخصبة، التي تكونت على مدار آلاف السنين في الوادي الخصيب، لتثمر غذاء وكساء ملايين الأسر، وتوفر لهم عشرات الآلاف من فرص العمل.
والأرقام لا تكذب، فقد التهمت التعديات على الأرض الزراعية منذ العام 2011 وحتى بداية 2022، 91 ألف فدان من أخصب الأراضي الزراعية، والأعلى إنتاجية، بما يقترب من 10 أضعاف القدرة الإنتاجية للفدان، حديث الاستصلاح بالأرض الصحراوية، ومن نبت ونشأ في ريف مصر، وشهد خير ريفها يقدر قيمة كل متر في تلك الأرض التي لا تبخل على فلاحيها بخيراتها، بأمر ربها.
آليات الردع التي استخدمها الرئيس عبد الفتاح السيسي، وتغليظ عقوبات تجريم البناء على الأرض الزراعية الصادر عام 2019، أسهم بشكل كبير في الحد من العدوان على مستقبل هذا الشعب وأمنه الغذائي، وإن لم يحل بشكل مطلق دون وجود تعديات جديدة على الأرض الزراعية.
وإذا كان هذا واقع العدوان على الأرض الزراعية بشراسته قبل العام 2014، فإن الحاجة كانت جزءًا من دوافع ذلك العدوان، لغياب وجود اعتماد مخططات تستوعب الزيادة السكانية، فالفجوة بين الاحتياجات الفعلية من السكن لمواجهة النمو السكاني، بلغت مليون وحدة سكنية عجزًا عام 2013.
وإذا نظرنا لخريطة الطاقة قبل العام 2014, فإن حالها يرثى له، ليست أفضل حالًا من الرقعة العمرانية، ولا خلل الكثافة السكانية، ولا البنية التحتية التي لا تغطي خدمات الصرف الصحي بها أكثر من 10% من ريف مصر.
فالطاقة الكهربية، عانت منذ العام 2008 وحتى العام 2014، من تقادم 30% من وحدات إنتاج الطاقة الكهربية، واختناق في شبكات النقل الكهربي، وعجز في إمداد محطات التوليد بالوقود، ما أسفر عن فصل اضطراري متكرر للتيار الكهربي لتخفيف الأحمال، ليصل إجمالي العجز بين الإنتاج والاستهلاك ما بين 2000 و3000 ميجا وات يوميًا، عام 2008، ليصل أقصى عجز 6050 ميجا وات صيف العام 2014. ذلك الخلل في القدرات الإنتاجية للكهرباء وتهالك البنية التحتية لمحطات الإنتاج وشبكات النقل بما خلفه من عجز، جعل حياة المواطنين جحيمًا في عامي 2012 و2013، في ظل حرارة الجو، والانقطاع المتكرر للتيار خلال الامتحانات، وفي ساعات الإفطار في شهر رمضان، ليحل الظلام وتتعالى لعنات المواطنين، وتتراجع معدلات جودة الحياة، بينما الدكتور هشام قنديل- رئيس وزراء حكومة جماعة الإخوان- يقدم الحل السحري للمواطنين، ناصحًا بارتداء ملابس داخلية قطنية، فيما أرجع الرئيس الأسبق محمد مرسي الأزمة إلى "عاشور"، ذلك الذي يمنح 20 جنيهًا لعامل الكهرباء لقطع التيار عن مواطني محافظة الشرقية!
كانت هكذا الأزمات والمعاناة، وهكذا كان يرى الإخوان الأسباب، والعلاج في ملابس قطنية، واعتقال عاشور! المناوئ لحكمهم بمحافظة الشرقية، وكم هي المضحكات المُبكيات، لكن الشعب هب ثائرًا ليصحح مسيرته ويعبّر عن إرادته في ثورة 30 يونيو، فيمد جيش مصر يد الحماية للإرادة الشعبية في مواجهة تهديدات الجماعة الإرهابية.
الشهداء والبناءون يرسمون خريطة جديدة لمصر
من يُمعن النظر فيما جرى ويجرى على أرض مصر، يُدرك- بما لا يدع مجالًا لأي شك- أنها ليست مجرد إنجازات، تتحقق في شتى المجالات، بل هي خريطة جديدة لمصر جغرافيًا، وحضاريًا وثقافيًا، بمداد من دماء الشهداء وسواعد التنمية والبناء، تنطلق من رؤية استراتيجية متكاملة مدروسة بدقة، يعمل فريق عمل الدولة على تنفيذها بمستهدفات واضحة ومراحل زمنية محددة.
أهداف الخريطة الجديدة لمصر
الخروج بالتنمية العمرانية والزراعية من الوادي والدلتا للحفاظ على الموارد الطبيعية الحالية، وخفض متوسط الكثافة السكانية، لتحسين جودة الحياة، وخلق فرص عمل وحياة تستوعب الزيادة السكانية، وتلبي احتياجات الشعب فرص العمل والبناء والغذاء.
خريطة حقيقية، يلحظها علماء الجغرافيا، ومؤرخو التاريخ والحضارات، تقاس فيها مساحات العمران بالكيلومترات، ما بين عاصمة إدارية جديدة و14 مدينة وليدة، وملايين الوحدات السكنية، التي حوّلت العجز من مليون وحدة سكنية في 2014، وما قبلها إلى فائض. خريطة جديدة لمصر، تتضاعف فيها الرقعة الزراعية، بمنجزات بضع سنوات، توازي ما تحقق من استصلاح زراعي في 150 عامًا، لتعود مصر لـ"الفأس"، تأكل من عرق جبينها، مستقلة ينبع رأيها من رأسها، تملك قوتها وقرارها، لا تهزها أزمات إقليمية ولا عالمية.
تلك الخارطة الجديدة لمصر، التي سنستعرض تفاصيلها في هذا الكتاب، تؤكد وجود عقل مصري استراتيجي، وفريق عمل لدولة عازمة على البقاء، وبلوغ هدف تعظيم القدرة الشاملة، لتكون عصية مدى الدهر على الانكسار أو الانهيار.
فرسم تلك الخريطة بتفاصيلها العمرانية، وبنيتها التحتية، ومساحاتها الزراعية، وبنيتها التحتية، ومتطلبات ذلك من قدرات تمويلية، وطاقة وإرادة وعزيمة لا يمكن أن تكون إلا إعجاز يسطره المؤرخون بحروف من نور، وإن لم يدرك حجمه بعض المعاصرين الذين قد تعوق أزمات الحياة اليومية القدرة على إبصار ما سيثمر مئات السنين لأجيال قادمة.
(جزء من مقدمة كتاب: "الخريطة الجديدة لمصر" لكاتب هذه السطور الصادر 28 يونيو 2022).. لتفاصيل أكثر الرجوع للكتاب.
هذه الخريطة لجمهورية جديدة عصرية، وضعت لبناتها الأولى ثورة 30 يونيو، تلك الثورة التي نحتفل اليوم بذكراها التاسعة، ففي مثل هذا اليوم من العام 2013، كان شعب مصر على موعد مع الإرادة، ليسطر تاريخًا جديدًا للإنسانية، ويُقدم نموذجًا للحفاظ على الهوية والدولة الوطنية، ويُربك معادلات ومخططات قوى عالمية، سعت لتفكيك الدولة الوطنية بالشرق الأوسط، وإعادة تركيب دوليات فاشلة مذهبية وعرقية متصارعة.
ثورة 30 يونيو، علامة فارقة في تاريخ مصر والشرق الأوسط، بما لها من تأثيرات محلية وإقليمية ودولية، نحن في حاجة ملحة لتوثيقها لتعلم الأجيال التي كانت في ذلك الوقت في سن الطفولة المتأخرة، وباتت اليوم في سن الشباب، ما كانت عليه مصر قبل 30 يونيو، وما هي عليه الآن.
وإذا أردنا بناءً حقيقيًا للإنسان فعلينا بحصون وعيه ومخاطبة عقول شبابنا بأسلوب علمي موثق بالأرقام والتحليل العلمي للآثار السياسية والاقتصادية والتنموية على حياة المواطنين، بدون هذه الخلطة نكون مقصرين، وهذا ما سعيت إلى تقديم نموذج له في كتابي "الخريطة الجديدة لمصر"، متناولًا التحولات في كل القطاعات عبر دراسة مقارنة لما كان، وما نحن عليه الآن مع عمق تاريخي، وفي هذه الحلقات نستعين بأجزاء من هذا الكاتب بإذن الله.
وللحديث بقية