عاجل
الأحد 6 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
We
رمضان زمان
البنك الاهلي

سهرة رمضانية في قهوة متاتيا  

نشرت مجلة "روزاليوسف" منذ 70 عامًا تحقيقًا موسعًا عن "سهرة رمضانية في قهوة متاتيا"، أشهر روادها من النخبة المصرية العربية آنذاك.



 

 

وتضمن التحقيق أن قهوة الخواجة متأثرة أمام حديقة الأوزبكية، وإن كان يحذو للبعض أن يطلق عليها قهوة البوسطة-وفي الليل بعد الإفطار يعذب الحديث والكلام، ولكنه في رمضان تلك السنة من عام 1875 لم تكن قهوة متاتيا تشهد فقط عذب الحديث وإنما أيضا كلاما يشغل الفكر ويثير العقل ويحرك الخيال.في الدين والحكم والسياسة والوطنية.

 

 وفي ذلك الأمر المحبب في رمضان أكثر من أي شهر مضى بصفته الشهر الذي أنزل فيه القرآن، في تعاليم الإسلام كانت الأذن تسمع كلاما ليس كأي كلام.

وكما أعلن الشيخ إبراهيم اللقانى الصحفي المعروف وقتها: و"الحق أن الشجاعة كانت ضرورية لكل رجل يتكلم في مصر بصراحة"، كلاما ليس كأي كلام، فقد كان كلام "السيد" كلاما شجاعًا وصريحًا -أو كما ذكر الشيخ محمد عبده في مذكراته.

 

"كلاما يطير المقيدة ويلعب بالنفس إلى معالي الأمور، وكان طلبة العلم ينتقلون بما يكتبونه في تلك المعارف إلى بلادهم إيرام البطالة، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحبائهم، فاستيقظت مشاعر ونبهت عقول وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من العالم خصوصًا "في القاهرة"، كلاما ليس كأي كلام، فقد كان إلى جانب شجعاته عميقا ثمينا، ولهذا شهدت قهوة متاتيا رجالا يستمعون للسيد، كان لهم قيما بعد شأن كبير وتاريخ عظيم.

 

وشهدت مقهى متاتيا "أديب أسحق"، الذي حضر من بيروت ليتحول من متسكع " للسيد" إلى خطيب ثم صحفي ثورى ووطني، وشهدت خليل النقاش وإبراهيم المريلحى ويعقوب صنوع الذين شاركوا في صنع نهضة أدبية وصحافية ومسرحية عزت مصر والشرق العربي، وإلى جانبهم جلس محمد عبده واللقانى وأيضًا عبد الله النديم، وحتى الشباب، الشباب الغض لم تخل منهم القهوة -فلذات ليلة حضر واحد قرأ له "السيد" محاضره كتبها فتنبأ له بأنه سوف يكون يومًا وطنيا مرموقًا وكان "سعد زغلول".

وفي سهرات رمضان وفي قهوة متاتيا، انطلق كلام ونفجر فكر كان هو وراء الثورة العرابية فيما بعد، بل كان ربما بدايتها أيضا، فمن بين الذين قابلوا السيد ذات ليلة ضباط من الشباب المصري بعد أن استسلموا شكوا له عدم قبض رواتبهم منذ شهور فكان إن تحدث «السيد» إليهم حديثا طويلا، خرجوا بعده إلى نظرة المالية، حيث انتظروا حضور نوبار باشا ووزيريه الأجنبيين: ريعرز ويلسون، و"دولتير" فحبسوهما في الوزارة وملصوا أذانهم وقصوا شواربهم.

وانطلق كلام وتفجر فكر، كان هو وراء عديد من الجرائد والمجلات التي انبثقت فجأة تهز المياه الراكدة وتحاول تحرير العقل من متاهات الجمود والغفلة وهذيان المتخلفين والرجعيين.

 

جرائد حملت أسماء "أبو نظارة" ووزعت 15 ألف نسخة في وقت كان تعداد مصر 6 ملايين. و"مرآة الشر " التي أصدرها " سليم المنحور" في التسام تحمل في كلامها المطبوع الفكر المتدفق في الأزبكية، جرائد وطنية كان لها شأن في مصر والشرق وحتى أوروبا "كجريدة مصر" التي أصدرها "أديب أسحاق" في القاهرة، والتجارة التي أصدرها في الإسكندرية والتي حملت فيما بعد شعار " مصر للمصريين" ثم "العروة الوثيقى" التي طبعت فيما بعد في الخارج و"نزهة الأفكار"التي تعرضت كغيرها للإغلاق والمصادرة، ليقبض الفكر يرفض الكتم والقهر فتخرج جريدتنا "المحروسة" و" العصر الجديد" اللتان راسي تحريرهما سرا عبدالله النديم، كان ذلك كله نتيجة حتيمة لما قال"السيد" وكان "السيد" نتيجة حتمية للتاريخ، فالتاريخ يصنع البطل، وكان الشرق الذي "تشكى لا الجروح بل الضمادا "في عهد تحكم فيه الإقطاع والاستعمار بسلاحه التقليدي " الجمود ورجعية الفكر" هذا الشرق وقلبه مصر كعهدة أيضا قد قرر الحركة واتجه صوب الثورة.

 

وفي قهوة متاتيا وفق ليالي رمضان عندما يحلو تذكير الإنسان بخالقه كان "السيد" يقبض في الحديث، وكان الحديث ممتعًا حلوا لأنه كان كلام العقل الواعي والعاطفة الصافية - كلام يموج بالتحرر والفهم الصحيح للإسلام بعيدًا عن دروشة المتحولين وذهول المتدروشين، كلام ليه المحبة والوحدة وليس فيه البغضاء والفتنة، ولذا لم يكن غريبا أن يحضر تلك الجلسات عديد من الأخوة المسيحيين من بينهم ميخائيل عبد السيد الذي كان يصدر "جريدة الوطني"، وكان "السيد" في ذلك يقول فهما يقول: إذا نظرنا فيما بين أيدينا من الأديان وجدان الدين الإسلامي قد أقيم على أساس من الحكمة متين ورفع بناؤه على ركن لسهادة البتروكين - وذلك أن عروج الأمم على معارج الحق الأعلى وتدرج الشعوب في مدارج العلم الأجل وصعود الأجيال على مراقي الفضائل وإشراف الإنسان على حقائق الحياة ونيلهم للسعادة الحقيقية في كل من الدارين - كل ذلك مشروط بأمور لا يتم إلا بها.

 

الأول: صفاء العقول من كبر الخرافات وصدأ الأوهام، لأن عقيدة وهمية أو يندس بها العقل لقامت حجابا كثيفا يحول بينه وبين حقيقة الواقع ويمنعه من كشف نفس الأمر -بل إن خزانة قد تقف بالعقل عن الحركة الفكرية وتدعوه بعد ذلك على قبول كل وهم وتصديق كل ظن فيكون الهوية في يدي المحتالين وعميدا في جمال ؟؟ والدجالين.

 

الثاني: أن تكون نفس الأمم بتق؟ وجهة الشرف طامحة إلى ؟؟. أن دين الإسلام فتح آداب الشرف في وجوه الأنفس وان؟؟ كل ذي نطق ألا محق لامتياز الأجناس وتفاضل الأصناف.  

 

 فالناس إنما يتفاضلون بالعقل والفضيلة، وبعض الأديان التي تفضل شعبا خاصا على بقية الشعوب كشعب إسرائيل مثلا.

يخاطب أبناء ذلك الشعب بالكرامة ويذكر غيرهم بالتحقير والإهانة، فارتفع امتياز الجنسية وجاء من بينهم رؤساء انتحلوا لأنفسهم ما سلبوه من الكرامة لغيرهم.

والثالث: أن تكون عقائد الأمة هي أول رقم في ألواح نفوسها مبنية على البراهين القويمة والأدلة الصحيحة، فأولئك المتبعون للظن القائمون بالتقليد تقف عقولهم عندما تعودت إدراكه فلا يذهبون مذاهب الفكر ولا يسلكون طرائق النظر لتغشيهم الغباوة بالتدريج ولتتكاتف عليهم البلادة حتى تعطل عقولهم عن تمييز الخير من الشر.

والرابع: فأنا أكتفي الآن من القول بهذا النص الشريف" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".    وهكذا سمع جلوس قهوة متاتيا ذلك التفسير العصري للدين وهذا الهجوم الصريح على الاستسلام والغلوبة والوهم والغيبيات، ولكنهم سمعوا أيضا أحكامًا خرجت من فم "السيد" ليتناقلوا الناس وتصبح على مر السنين نبراسا لآداب الحياة .

قال "السيد"، فيما كان يقول: إن الأديان كلها أساسها واحد وإنما يوسع شقة الخلاف بينها اتجار رؤساء الأديان بها".

   ما معنى باب الاجتهاد مسدود؟ وبأي نص سد باب الاجتهاد؟ أو أي إمام قال لا ينبغي لأحد من المسلمين بعد أن يجتهد لينفقه في الدين؟، إن الدين لا يصح أن يخالف الحقائق العلمية فإن كان ظاهره المخالفة وجب تأويله.

   "قيود الأغلال أعوذ من قيود الأوهام".

 "شر الأزمنة ما ينجح فيه الجاهل ويسكت الحكيم".

  "لا خير في العدل الضعيف، كما أنه لا خير في القوى الظالم".

 "أحقر الناس من يطلب موت الناس ليحيا وأعظمهم من يستميت ليحيا ولو بإنسان واحد".

 "الأزمة تلد الهمة ولا رجاء من المستضعف إلا إذا يئس ولا يتسع الأمر إلا إذا ضاق ولا يظهر فضل الفجر إلا بعد الظلام الحالك".

"ألف قول لا يساوى في الميزان عملا واحدا".

"أن تطعن حاكما سرا وتعبده جهرا لا تستحق الحياة".

"نهض الغرب بالعلم والعمل وانحط الشرق بالجهل والكسل". "لا خير في حق لا تدعمه قوه".

"من ظن أنه خدع الإنسان بالباطل يكون أول مخدوع".

"الأديب في الشرق يموت حيا ويحيا ميتا".    وذات ليلة كما يحكى "جمال الدين المخزومي باشا" في خواطره.

ظل السيد يتكلم طول الليل في قهوة متاتيا وكان ليلتها يقول": إنكم معشر المصريين قد توالت عليكم قرون من زمن الملوك الرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون عبء نار الفاتحين. 

وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين. تسامون الحيف والجور وتنزل بكم الخسف والذل وأنتم صابرون، بل راضون، وتستنزف قوام حياتكم التي تجمعت بما يتحلب من عرق جباهكم بالعصا والمفرعة والسوط وأنتم صامتون. فلو كان في عروقكم دم فيه كريات حيوية وفي رؤوسكم أعصاب تتأثر فتثير النخوة والحمية لما رضيت بهذا الذل وهذه المسكنة، هبوا من غفلتكم. أصحوا من سكرتكم، عيشوا كيفية الأمم أحرارًا ضعفاء!

 وبعد تلك الليلة خرج "السيد" ليتوكأ على عصاه وكانت ليلة الأحد 24 أغسطس سنة 1879 كانت شوارع القاهرة شبه خالية والفجر يكاد ينبثق عندما هجم على السيد، قرب بيته رجال الشرطة ليحجزوه في القسم حتى الصباح ثم ليساق حتى محطة السكة الحديد فيركبوه قطارا صوب السويس ومنها يجبرونه أن يركب بآخره منفيا صوب الهند.

وركب «السيد» الباخرة لا يحمل سوى الملابس التي عمل جسده بعد أن صادر البوليس كل أمتعته وكتبه، وكان أن سأله القبطان عن متاعه فأجاب «السيد» بقوله مشيرا إلى الملابس التي يرتديها على جسده "هنا ملابسي"، ومشيرا إلى رأسه "هنا كتبى".

ثم صدر بعد رحيله في العدد 31 أغسطس بيان رسمي لشركة الأهرام.

يقول فيما يقول: لقد استشعرت حكومتنا الخديوية التوفيقية الجليلة التي مازالت على بصيرة لاسيما في هذا العصر الجليل الذي أنعم الله فيه نفيها بحضرة خديويها الم؟؟ الجدير بكل تبجيل، بأن هناك جمعية سرية من الشباب ذوي البطش مجتمعة على فساد الدين والدنيا، رئيسها شخص يدعى جمال الدين الأفغاني، فأبعدت ذلك الشخص المفسد من الديار المصرية بأمر من ديوان الداخلية لإزالة هذا الفساد من البلاد عبرة للمعتبرين ولمن يتجاسر على مثل هذا من المعتدين البادئ من أفعالهم الظاهرة أنهم لا خلق لهم في الدنيا والآخرة".

وهكذا حلت قهوة متاتيا من سهراتها الحافلة وأطبق عليها السكون والوجوم، ليتحرك جمال الدين الأفغاني في مشارق الأرض ومغاربها لا يسكت ولا يصمت حتى يحل في الاستانة فيتا من عليه السلطان عبد الحميد ويضفي أن بلسانه سرطانا ويأمر جراحه الخاص قمبور زاده إسكندر باشا باستئصال اللسان، وكان أن ثبتت المؤامرة ليخمد ذلك اللسان الذي أزعج الولاة الفاسدين الذين هم في الواقع لا خلق لهم في الدنيا والآخرة.

سكان اللسان ولكن الكلام العذب الصريح الشجاع ظل حيا، فما إن مرت شهور حتى كان الشرق كله يشهد أحداثا عظيمة جليلة، ثورات في الشام وفي تركيا والثورة العربية التي اندلعت في مصر تقول إن مصر للمصريين وتبدأ تخط تاريخ مصر الحديثة.

مصر التي لا تنسى كلمة السيد في قهوة متاتيا ذات ليلة حافلة في رمضان وهو يقول: طالب الموت في سبيل الوطن إما أن يموت شهيدًا وإما أن يعيش سيدا عزيزا 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز