عاجل
الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
يحيى الفخراني.. الملك لير والتقاليد الاحترافية المسرحية

يحيى الفخراني.. الملك لير والتقاليد الاحترافية المسرحية

في ظل المشاهد الساخنة والحرب الدائرة في المنطقة تبدو كل القضايا الثقافية والفنية ذات طابع ثانوي، وفي ظل الانحياز الواضح على أرض الواقع والإعلان الأكثر وضوحاً للولايات المتحدة الأمريكية والدوائر الغربية للكيان الصهيوني وقدرات العدوان المفرط لديه.



تأتي كل الأمور ثانوية، ومعظم ما هو مطروح للتداول في الشأن العام، يأتي في ظل القلق والتوتر والشعور بالألم، فلا يوجد أكثر ألماً من الدم المراق والبيوت التي تهدم والأطفال التي بلا غد والمشردين والنازحين.

وما أصعب الكتابة عن الشأن الاختصاصي في ظل كل تلك الصور المرعبة التي تخاصم الإنسانية.

إلا أن ما استطاعته مصر من حفظ وصون للحياة اليومية ومقدرة على الاستمرار في المشروعات الكبرى سعياً لمستقبل أفضل، والمقدرة على الانتظام الاعتيادي لحيوية عمل المجالات العامة، وفي القلب منها المجال الفني والثقافي لهى مسألة تجعل النظر للشأن الإبداعي المسرحي المصري واجب وضرورة في إطار عام يسعى لحيوية الحياة اليومية المصرية.

وبالتالي فالحديث الدائر الآن على وسائل التواصل الاجتماعي عن إعادة المسرح القومي استعداداته لتقديم مسرحية الملك لير تأليف وليم شكسبير وإخراج الفنان المخرج شادي سرور، لهو حديث الضرورة الذي يبدو ثانوياً في السياق العام.

وذلك لأنه حديث التقاليد المسرحية المستقرة، وحديث الحقوق الإبداعية المرتبط بحقوق الملكية الفكرية، وخاصة إذا ما تعلق الأمر بالتجاهل المتكرر لحقوق الملكية الفكرية للمخرج الكبير الراحل د. أحمد عبد الحليم. أما ما هي قصة وحكاية مسرحية الملك لير من بطولة الفنان الكبير يحيى الفخراني؟ 

بدأ التفكير في تقديمها عام 2005 في المسرح القومي عندما كانت مديرته د. هدى وصفي، وتمت الترتيبات لتنجح وتعرض المسرحية في عام 2006، وتستمر لعدة مواسم وتحصد النجاح الجماهيري والنقدي معاً، وتكتب في لير والفنان يحيى الفخراني دراسات ومقالات عدة تثمن إبداعه وقدراته التمثيلية الفذة وحضوره المسرحي واختياراته رفيعة المستوى. ولأن الفنان المخرج الكبير د. أحمد عبد الحليم كان قد قدم رؤيته الإخراجية الرائعة معتمداً على الفهم العميق للمسرح الإليزابيثي الإنجليزي واعتماده على لغة الإشارة المسرحية المبسطة، والدلالة السهلة والفراغ المسرحي المعتمد على تعدد المناظر وسرعة تغييرها وبساطتها واختزالها. 

وكانت هذه النسخة الإبداعية من الملك لير هي بمثابة إعادة إنتاج وإطلاق فنانين كبار مثل أشرف عبد الغفور الفنان الكبير الراحل، والنجم أحمد سلامة والنجمة سلوى محمد علي وغيرهم، فقد حققت لير حضوراً إبداعياً ومزجت في عرضها الذي قدمه المخرج الكبير أحمد عبد الحليم بين الجماهيرية ورهافة ورقي الذائقة الفنية، وهي ما تجلت في الحضور الكبير للجمهور المصري الذي دعم العرض واحتشد لحضوره لسنوات وفقاً لشباك تذاكر مسرح الدولة مؤكداً على سلامة الذائقة المصرية العامة وانحيازها للفنون الجميلة.

وقد لامس أحمد عبد الحليم في رائعته لير عمق إبداع الكاتب الأيقونة وليم شكسبير، وهو ابن عصره، فعندما كتب نصه لير كانت الممالك الأوروبية آنذاك تعيش الحق الإلهي للحكم، وهو ما يجعل الملك قائماً على حفظ أرض المملكة من الضياع والتفتيت، لأن أرض المملكة (الوطن) هي في حفظ الملك، الذي هو بدوره اختيار العناية الإلهية. وبالتالي فالحفاظ على المملكة كما هي بكامل أراضيها هو تنفيذ للحق الإلهي الذي يحكم باسمه الملوك آنذاك، ومنهم الملك لير في مسرحية وليم شكسبير. وهذا هو عمق فهم الملك لير وقد كانت متماسة مع أحاديث ذات صلة عن علاقة الآباء والأبناء في الحكم تدور في العلن وفي السر وقتذاك، ومن هنا كانت قيمة عرض أحمد عبد الحليم، وحيوية تفكير المؤسسة المسرحية الرسمية آنذاك، والتي كانت تتحرك في مسارها ودورها الصحيح وتمنح المشهد الثقافي والسياسي في مصر قيمة وزخماً وحيوية ومصداقية. وقد كنت آنذاك واحداً ممن كتبوا عدداً من المقالات في تحليل لير والإشادة بها نقدياً عبر تحليل وتفسير وتقييم إطارها المعرفي والجمالي. هذا وقد قام المخرج الكبير جمال عبد الحميد بتصوير المسرحية تلفزيونياً وتم عرضها عرضاً جماهيرياً عاماً على الشاشات التليفزيونية، ولم يعد أمام المتفرج المصري الذي فاته مشاهدتها في دار العرض المسرحي إلا أن يراها في عرضها التليفزيوني، وهى نسخة بديعة للمخرج الكبير جمال عبد الحميد. ثم ومع تكرار العرض ومرور السنوات أصبحت المسرحية متاحة للمشاهدة المجانية على الشبكة الدولية للمعلومات، ويمكن الآن مشاهدتها بالفنان الكبير يحيي الفخراني والاستمتاع بها.

ثم ومع نجاح لير قامت شركة إنتاج خاصة بعملية إنتاج جديد لها، وقام بالإخراج المخرج تامر كرم، وقد تم عرض المسرحية في أحد مسارح القاهرة الجديدة بالغة الفخامة وبأسعار تذاكر باهظة الثمن، فلم تلق نجاحها الأول، وامتنعنا جميعنا عن طرح السؤال الذي كان ملحاً ألا وهو لماذا لا يقدمها الفخراني برؤية مخرجها الأول الذي فكر فيها، وقام بترشيحه لهذا الدور.

ولكن رحيل المخرج الكبير أحمد عبد الحليم ثم رحيل زوجته الفنانة الكبيرة عايدة عبد العزيز رحمها الله، وعمل أبناء الأسرة الكريمة خارج مصر جعلنا جميعنا نصمت، إذ ربما تعذر تجديد حقوق الملكية الفكرية، كما أن المسرح القومي كان يملك حقوقها الأدبية بعد انتهاء فترة التعاقد. وقد مرت لير في نسخة القطاع الخاص الفاخرة دون تعليق نقدي ودون ذلك الترحاب الذي حظيت به النسخة الأولى لمخرجها الكبير.

ثم بعد سنوات أخرى أعلن المسرح القومي عن بدء التدريبات بممثلين جدد ومخرج ثالث جديد لمسرحية الملك لير بطولة الفنان الكبير يحيي الفخراني. وهو كفنان كبير يأتي حضوره مجدداً لمسرح الدولة مكسباً كبيراً وقيمة مضافة بلا شك.

فالفنان الكبير يحيي الفخراني لا خلاف على قيمته الإبداعية والفنية وحضوره الخلاب على خشبة المسرح.

أما الخلاف فهو في مسألة التكرار وإذا كان الفخراني مولعاً بشخصية الملك لير، فنحن مولعون به فيها جداً، أما حقوق المخرج الأول الكبير الراحل أحمد عبد الحليم وهو الذي قدمها في المسرح القومي فهي مسألة أخرى في عمق التقاليد المسرحية وفي أساسيات الفرق الكبرى المستقرة.

ذلك أنه من المتعارف عليه والمستقر عالمياً وعربياً ومصرياً، أن الفرق الكبرى لديها برامج مسرحية تاريخية هي (الريبرتوار)، ومنها ما هو قريب مثل الملك لير، ومنها ما هو حديث مرت عليه سنوات طوال مثل أهل الكهف لتوفيق الحكيم ولزكي طليمات.

وكراسة إخراج زكي طليمات تتيح تقديم أهل الكهف مرة أخرى في موسم جديد، وهكذا لا يموت المخرج في الفرق المسرحية الكبرى ولا يغيب بجسده.

وعليه فعرض الملك لير إخراج أحمد عبد الحليم بطولة يحيى الفخراني يعد مسرحية من ريبرتوار المسرح القومي، الذي ربما كان من المفترض أن يفكر تفكيراً مسرحياً احترافياً بعودتها من تاريخه القريب بنجمها المحبوب الفخراني، وبرؤية مخرجها الأول الذي أراها صالحة حتى الآن.

هكذا تحافظ الفرق الكبرى على إبداع مخرجيها الكبار، فالعرض في المقام الأول منسوب لمخرجه الأول ولفرقة المسرح القومي. 

ولذلك كانت هذه الملاحظات الأساسية، حتى لا تضيع في مسرحنا المسرحي حقوق المبدعين الراحلين، وحتى يتحقق للمسرح القومي قوامه الاحترافي وحرصه على التقاليد المسرحية الراسخة. 

رحم الله المخرج المبدع الكبير أستاذ الأجيال أ.د أحمد عبد الحليم رحمة واسعة وبارك الله في أثره، وأثر أهل الإبداع الذين رحلوا بأجسادهم وباقون معنا بما أبدعوا وأضافوا للثقافة المصرية.

وهي الضمير الحي لمصر، والذي لا يزال مستمراً في العمل والعطاء رغم قسوة ومرارة الحرب الدائرة في المنطقة العربية وجوارها الإقليمي وألمها وتهديداتها الروحية والوجودية.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز