أيمن عبد المجيد
وطن بلا سجون.. "بدر" يلحق بـ"وادي النطرون" والبقية تأتي "١-٢"
ويسألونك عن السجون، قل باختصار وإيجاز: "تقييد للحرية، للحماية المجتمعية، مع الحفاظ على الحقوق والكرامة الإنسانية".
هذا ما ينبغي أن يكون، فالفلسفة العقابية، هدفها تقييد حرية الخارجين على القانون، وفق أحكام قضائية، للردع وحماية المجتمع للحيلولة دون تماديهم في جرائمهم.
ومن ثم إذا كانت العدالة اقتضت تقييد حرياتهم لمدد زمنية، تطبيقًا لأحكام قضائية، فمن الظلم البيّن أن تمتد تلك العقوبة لتهديد سلامتهم الجسدية أو النفسية، أو حرمانهم من حقوقهم الروحية والإنسانية.
كما ليس في صالح المُجتمع، خروج مُدان بانتهاء مدة العقوبة، بذات المعتقدات الفكرية والاستعداد لتكرار الأنماط السلوكية، التي أنجبت فعله المجرم قانونًا، الذي أودى به في غياهب السجن، فمعنى ذلك بقاء تهديد المجتمع قائمًا، ولم يتغير في المُعاقب إلا ما فقده من سنوات عمره خلف القضبان.
تهديد سلامة الجسد، ليس معناه التعذيب والاعتداء البدني، كما يدعي جهلاء بحقيقة الأوضاع، أو تجار الشعارات الجوفاء، منفذي أجندات الخارج، بينما تهديد سلامة الجسد، يتحقق بضعف إتاحة غذاء وبيئة صحية للمُعاقب، من بنية أساسية للمُنشآت، تحقق ظروف إضاءة وتهوية طبيعية نهارًا، وتريض بمعدلات كافية، ورعاية صحية علاجية إذا ما شعر بآلام أو إصابة.
والعدوان على السلامة النفسية، يأتي من امتهان الكرامة، أو الحرمان من الزيارة، أو عدم إتاحة العلاج لمرضى الاكتئاب، والآثار النفسية لتعاطي المخدرات، أو ما دون ذلك من حرمان من احتياجات إنسانية طبيعية، كالرغبة في الاطلاع والقراءة أو مواصلة التعليم.
فيما يعد الحق في ممارسة طقوس العبادة، أحد الحقوق الروحية، وتنمية المواهب واكتساب المهارات وممارسة الرياضات، واستقبال زيارة الأهل حقوقًا إنسانيةً.
هذه الحقوق لا يُنكرها وطني صاحب ضمير، لمن ارتكب خطأ ويعاقب عليه بالقانون، كما أن كل مُنصف لا ينكر أن فقدان بعض من هذه الحقوق في بعض السجون بالماضي، يعود لأسباب عدة بينها البنية الأساسية لسجون أنشئت من عقود بعيدة، بقدرة استيعابية تقل عن مقتضيات نسب الصادر بحقهم أحكام وهم نسبة كما في كل المُجتمعات تزداد بمعدلات تقارب الزيادة السكانية.
ولعل في اعتقادي تآكل حقوق نزلاء بعض السجون، في عهود سابقة قريبة، كان السبب فيه بعض هؤلاء الأفاقين المُتاجرين بملف حقوق الإنسان لمكاسب شخصية أو جهلًا بأبعاد القضية، لأنهم تعمدوا تزييف الوعي العام، بوصفهم من يشرع من الحكام ببناء سجون بالديكتاتورية، فآثر الحُكام السلامة، فلم يشرعوا في بناء سجون تلبي احتياجًا مجتمعيًا تضاعف مع تضاعف السكان في العقود الخمسة الماضية.
فزاد الضغط على البنية التحتية للسجون، مع إغفال تراجع دور المؤسسات التربوية والتثقيفية والإعلامية في التوعية ومكافحة الجريمة، فضلًا على تباطؤ سرعة معدلات التنمية الاقتصادية، قياسًا على سرعة الزيادة السكانية، فتكاثرت الأزمات والتحديات، وتزايد التسرب من التعليم، والعشوائيات.
سأعطي لك مثالًا: هل تذكر الغارمين، والغارمات، هؤلاء البسطاء، وتلك السيدات المكافحات اللاتي دفعتهن الحاجة لتوقيع شيكات لتجهيز بناتهن، أو تلبية متطلبات حياتية ضرورية، فعجزن عن السداد فانتهى بهن المطاف خلف القضبان، يا صديقي ليس كل السجناء قتلة، ولا هم هؤلاء المدانون في جرائم انتماء لتنظيمات إرهابية.
ليس كل السجناء بضعة أفراد تنشغل بهم الخارجية الألمانية في تدخل سافر في شأن القضاء، ولا هم بضعة أفراد ينظم لهم حملات دعائية للإساءة للأوضاع في مصر.
مجتمع المدانين بأحكام قضائية جملة من الفئات المتباينة في طبيعة الجرم، ومدد الأحكام، متبايني الثقافة والدوافع والأسباب، المتنوعة تدرجًا من قضايا تبديد، مرورًا بالسرقة والمخدرات، وصولًا إلى القتل العمد والإرهاب.
حقيقة نجح المتاجرون في ابتزاز أنظمة ما قبل دولة 30 يونيو، فلم تواجه الأزمة مواجهة علمية حقيقية، فظل السجناء يعانون انتقاص حقوقهم بفعل الضغط على المنظومة العقابية، الناجم عن ضعف القدرة الاستيعابية للسجون وأماكن الاحتجاز، من جانب، وغياب الدور المجتمعي في الحد من معدلات اختراق القانون.
وفي الوقت ذاته، ظلت حسابات المتاجرين بحقوق الإنسان البنكية تتضخم، ليس خدمة للسجناء بل خدمة للأجندات الخارجية المعادية، التي استهدفت أمرين: الأول ابتزاز الجهات الخارجية للأنظمة، والثاني تحريض الشعب لرفع درجة المعادلة السياسية، للاقتراب من لحظة الاشتعال والفوضى.
قد تسألني ألم تكن هناك تجاوزات؟ أجيبك كانت هناك تجاوزات لكنها فردية وليست سياسات عامة، وتحدث في كل دول العالم، والحد منها والقضاء عليها يكون بتشخيص دقيق موضوعي للمرض، وقدرة على وصف العلاج الناجع وإتاحته للقضاء على المرض.
لعل لهذا يشدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، دائمًا، على أهمية أن يجتهد المتصدون للشأن العام وقضايا الوطن في التشخيص الدقيق لأزماتنا ومشكلاتنا، حتى لا يخلق التشخيص الخاطئ وعيًا زائفًا، يولد قناعات ضالة، وسلوكًا وأفعال هدامة.
مع الشرفاء الوطنيين، لا خلاف في الهدف، فجميعنا يسعى لكفالة حقوق كل مصري وكرامته، المُقيدة حريته لمخالفته القانون، على قدم المساواة مع كل مواطن يسعى في طلب الرزق وقوت يومه، بيد أن خطأ التشخيص يولد الخلاف في المعالجة، فمن لا يعي دقة أسباب المرض، قد ينحرف بغير وعي، إلى جانب المتاجر بوعي وعن عمد بآلام ومشكلات يضخمها ويضيف إليها تلالًا من الأكاذيب.
أبرز سمات الجمهورية الجديدة، دولة 30 يونيو، بقيادتها الحكيمة القوية، أنها غير قابلة للابتزاز أو الإرهاب، والأعظم فيها، أن قائدها الرئيس عبد الفتاح السيسي، وفريق عمله، لديهم تشخيص دقيق لأزمات الوطن، وإرادة سياسية حقيقية، وعزيمة قوية للعلاجات الجذرية والإصلاح بأجندة وطنية.
هذا الإصلاح، نابع من استراتيجية وطنية للتنمية الشاملة، منبثقة من حقوق أقرها الدستور، العقد الاجتماعي للشعب، ترجمت خطتها بالمستهدفات الزمنية في رؤية مصر 2030، وما ينبثق عنها من استراتيجيات فرعية، في القلب منها الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان.
فالدولة التي أطلقت مبادرة "حياة كريمة"، بالحق في السكن الكريم وكل الخدمات، فقضت على العشوائيات وذهبت لتنمية قرى ريف مصر، هي ذاتها الدولة التي قضت على فيروس سي، وحطمت جمود قوائم انتظار العمليات الجراحية، وشرعت في تفعيل منظمة التأمين الصحي الشامل، وتزرع ملايين الأفدنة لإتاحة غذاء آمن وفرص عمل وحياة كريمة، هي ذاتها التي تقضي على السجون وتنشئ مراكز الإصلاح والتأهيل.
مصر التي تبني عاصمة جديدة، و14 مدينة، ترسم خارطة تنوير جديدة، لم تنس سكان المناطق الخطرة فوفرت لهم سكنًا آمنًا كريمًا، بل لم تنس السجناء، تقدم لهم حياة كريمة، تحولهم إلى نزلاء، في مجتمع إنتاجي إصلاحي، برؤية علمية تقدم حلولًا وعلاجات جذرية.
تلك العلاجات رأيتها، اليوم، رأي العين، في مركز الإصلاح والتأهيل "بدر"، وهو جزء من مجمع أمني بأحدث التقنيات العلمية، شاركت في افتتاحه التجريبي وجولة تفقدية بدعوة كريمة من وزارة الداخلية، بقيادة اللواء محمد توفيق، وقبلها بـ60 يومًا في افتتاح وتشغيل مركز الإصلاح والتأهيل بوادي النطرون.
فاليوم ثاني مركز إصلاح وتأهيل يتم افتتاحه، من سلسلة مراكز إصلاح وتأهيل تعمل وزارة الداخلية على إنشائها، تطبيقًا للاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، معالجة علمية احترافية بأبعادها الحقوقية والإصلاحية والتأهيلية والإنسانية، بل والاقتصادية.
فالدولة عندما تملك الإرادة السياسية، وتحطم التحديات، وتخلق آليات بلوغ مستهدفاتها، ومصر تستهدف بناء جمهورية جديدة، تستعيد حضارتها، بالإنسان وللإنسان المصري، دولة تعمل بعقل استراتيجي ورؤية شاملة.
في اعتقادي، تلك الرؤية في المعالجة الجذرية لقضية السجون، تعمل على مسارين:
الأول: استراتيجية قصيرة المدى بالقضاء على السجون التقليدية، التي أوضحنا عدم صلاحيتها لتلبية حقوق النزلاء الصحيحة والإنسانية، وذلك من خلال إنشاء سلسلة من مراكز الإصلاح والتأهيل بأعلى معايير جودة عالمية، لتحقيق حقوق النزلاء.
نعم نزلاء، ففي تلك المراكز نزلاء لا سجناء، فهناك ترى أسلوبًا علميًا لدراسة السلوك ودوافع الجريمة المعاقب عليها، ثم وضع استراتيجية للإصلاح والتأهيل.
نعم نزلاء لا سجناء، فهناك في مركزي وادي النطرون وبدر، المنشآت الخاصة بالإقامة والإعاشة، على أعلى مستوى من البنية الأساسية للمؤسسات العقابية، تراعي الاشتراطات الصحية، منشآت دائرية في مساحات مفتوحة تحقق ضمانات سلامة التهوية والإضاءة الطبيعية نهارًا، إلى جانب مساحات خضراء تريض، ولممارسة الرياضة في توقيتات محددة للنزلاء، تكفل الحفاظ على صحتهم.
نعم نزلاء، فالمركز في وادي النطرون، به مزارع إنتاجية، خضر، وماشية ودواجن، ومدارس فنية لتعليم المهن والحرف، وفصول للدراسة ومكتبات للاطلاع.
والأهم الأمهات اللاتي تحتضن أطفالًا رضعًا، توفر لهم أسرة للأطفال وحضانة خاصة وملاعب، للحيلولة دون معاقبة أطفال لم يقترفوا أي ذنب.
وادي النطرون وحده يستوعب بكفاءة تكفل كل حقوق النزلاء، ما كانت تستوعبه 12 من السجون العامة، بدأ فعليًا إخلاؤها، تلك السجون العامة إلى زوال، وهي تمثل نسبة 25% من السجون في مصر.
فيما يستوعب مركز الإصلاح والتأهيل في "بدر"، بكفاءة تضمن حقوق النزلاء، ما كان يحويه ثلاثة من السجون العامة، وفي "بدر" من الذين يقضون عقوبات زمنية أقل من نزلاء وادي النطرون.
في كليهما شاهدنا مشفى مجهزًا بأحدث الأجهزة الطبية، يعمل به كفاءات عالية من الأطباء العاملين بوزارة الداخلية، ففي "بدر" مستشفى طاقة 175 سريرًا، به 10 عيادات خارجية و18 سرير رعاية مركزة، بنظام الكبسولة المُعقمة، التي تحقق للمريض الخصوصية وتحول دون انتقال أي عدوى، فضلًا على وحدات علاج الإدمان والاستشارات، ووحدتين للغسيل الكلوي.
في كليهما شاهدنا المسجد والمصلى الكنسي، كفالة للحقوق الروحية، وشاهدنا نزلاء تدربوا على عزف الموسيقى والغناء، ذلك الغناء الداعم لهم في محنتهم، والأغنيات الوطنية التي تؤهلهم للاندماج اللاحق في المجتمع.
في مركز الإصلاح والتأهيل بـ"بدر"، رأيت الدكتورة سارة حسين محمد، أستاذ الموسيقى بكلية التربية النوعية جامعة حلوان، بين فريق من النزيلات أهلتهن فنيًا، بأصواتهن الرائعة وأدائهن البديع، فأصبح لكل نزيلة حلم تعمل من أجل تحقيقه، عند عودتها للحياة الطبيعية.
كانت النزيلات يغنين: "لن ينسانا الله سيأتينا من الغيب حياة.. ينسينا ما قاسيناه لن ينسانا الله".. ثم استمعنا منهن لأغنية "فيها حاجة حلوة".. ما بين الإصلاح النفسي والتأهيل وبث التفاؤل، رأيت في عيونهن بريق التفاؤل والفرحة، وهن يستمعن للإشادة بأصواتهن الرائعة، والأداء المتناغم.
للحديث- إن شاء الله- بقية عن الإصلاحات الجذرية للفلسفة العقابية.