عاجل
السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
الحياة في بلاد الإنجليز

الغربة الثانية 5

الحياة في بلاد الإنجليز

الصباح غامَ ضياؤه, سقط مسلوب الحول, لفَّ جناحه, أخفض رأسه للغيم الرمادي الذي يتناطح مع الغيم الأسود, ويهدد بالمطر.  



الشتاء في لندن يراوغ الريح, يتوه في شوارعها, وشيخة المدن تستيقظ صبيّة, تخفي رأسها في ضبابها وبردها وعتمتها في وضح النهار.. ومثلما تجعلك تعتاد على الكثير من عاداتها وتقاليدها وتصرفاتها, فتقبلها وتتأقلم معها, ترغمك على التعود على طقسها وتقلباته, على ضبابها وبردها, ومطرها وثلجها.. تتدثر بمعطفك الواقي من المطر, ترفع ياقته و.. تمشي.

 

 في غضون أشهر معدودات, تحول "مكتب روز اليوسف" إلى خلية نحل, تنغل فيها حركة فوّارة تروي الرغبات والتطلعات, وتحقق المرجوات: لقاءات بين الصحافيين مصريين وعرباً, ووكلاء وكالات الإعلانات, ويدور الجدال الأنيس, وتكرج الأقلام على الورق تطرز المقالات, والكلام عن هموم المصريين وقسوة العيش في الخارج ينشر لأول مرة في مجلة مصرية. 

 

وازداد الإقبال على "روزا" المجلة، وما كان يصدر عن الدار, فقد وجدها المغتربون المصريون مرفأ حنينا من قسوة الاغتراب, ونسيما من النيل يحمله الورق، فأخذت حجوزات الإعلانات تترى, وتزداد صفحاتها أسبوعاً بعد آخر.

 

 

وراح  المكتب ينمو ويكبر ويحقق المبتغى، فأخذ لويس جريس يفكر في توسيع وتنويع مهماته, فطرح على عبد الرحمن الشرقاوي فكرة الانتقال إلى مكتب أكبر, بحيث يستقبل محررين أو ثلاثة من مصر يتناوبون على العمل والكتابة من لندن, وترتيب دورات تدريبية  في الصحف والمجلات البريطانية لمحررين واعدين, وترك لي مهمة الاتصال بالمؤسسات الصحافية البريطانية, كما تدبر أمر توسيع المكتب، فوضعت دراسة جدوى, وميزانية توسيع المكتب، وانتظرت.

 

 

تمهل عبدالرحمن الشرقاوي في دراسة ما رفعته له, خصوصاً أن علاقته مع "السلطة" في ذياك الزمن لم تكن على ما يرام, يشوبها الحذر والريبة, الرضا والقبول, هكذا, صيف وشتاء على سطح واحد.

 

وما عاد لويس جريس يفاتحني بما طرحه وأجبت عنه, ولا عبد الرحمن الشرقاوي, عندما زار لندن, ألمح إليه لا من قريب أو بعيد، إلا أن لويس جريس عندما قَبِلَ تولي وظيفة "العضو المنتدب" كأداة ووجهة تنفيذية لسياسة عبد الرحمن الشرقاوي الإدارية والصحافية, عاد إلى فكرته حول مكتب لندن والاهتمام به, فأرسل سعاد رضا, المدير المالي لمؤسسة "روز اليوسف"، لوضع نظام مالي لمكتب لندن, فكانت بداية جديدة .                                                                                        "لندن... لا تقبلك وحدك".  

                                                                                                  

أتلوى بين أفكاري ووحدتي الباردة البليدة, في تلك المدينة التي تهجم عليك بالكآبة, وفعلاً.. لا تقبلك وحدك. 

 

لو غبطت نفسي على شيء, لغبطتها على لحظات السعادة التي احتلتني عند استقبالي زوجتي وولديّ, فكانت تلك اللحظات عزائي عن فترة كنت فيها وحيداً، ولأول مرة عُدت إلى البيت بعد نهار طويل, مثقلاً بالمشاغل والهموم شتى, فكان مضاءً, لا تعشش فيه العتمة, دافئاً, مليئاً بالحب والحنان.

 

  لم نواجه, زوجتي وأنا, أي مشكلة في مدرسة شريف وشيرين, ولا اعترضتنا عقبة, أو وُجّهت إلينا شروط.. فالتحقا  بمدرسة كانت حددتها لنا الإدارة التعليمية في "كرويدن" حيث بيتنا, لتحضيرهما وتأهيلهما لدخول Park Hill Infant School الصفوف الابتدائية، وتلك ميزة من ميزات نظام التعليم في بريطانيا, الأفضل في أوروبا, والأحسن في العالم، والتعليم في مملكة Private إليزابيث الثانية إلزامي من سن الخامسة إلى الثامنة عشرة، ويقع تحت طائلة المساءلة والعقاب، والمدارس منها "الخاصة" التي لا تقل مستوى عن الخاصة, وهي مجانية, تمولها الدولة Public Schools وأقساطها باهظة, و"المدارس العامة" Schools وتشرف عليها, وتراقب مستواها وتفوقها.

 

 

للمرة الثانية, تجرعت زوجتي كأس الغربة، وإن كانت  في المرة الأولى مذاقها حلو, حلاوة أيامنا في بيروت, إلاَّ أنها كانت في بلاد الإنجليز صعبة في بداياتها, فكانت تحبس نفسها في صوت فيروز, لتبدد قساوة المناخ الجديد عليها، فتحملها "جارة القمر" إلى مطارح بعيدة, فتغني مع "عطر الليل" في "أيام فخر الدين" و"ناطورة المفاتيح", وتترغرغ عينيها بدموع فراق لبنان التي أحبّت, وتمنت لو لم ترحل.

 

 

ففيروز هي خارج المكان والزمان, ثالوث الشعر والصوت والموسيقى، ليست الحياة حلوة، ناعمة و رقيقة، سهلة وشفافة، كما في شعر الرحبانيين عاصي ومنصور الذي تغنيه فيروز، إلا أن هذا التضاد والتعارض المتعمد يمنح حياتنا حجمها الفريد, حجم الخيال والحلم, الألم والفرح, وطوفان من الصور والذكريات لمن عاشها ولم يعشها.

 

 

إن ما وصل إليه الرحبانيان عاصي ومنصور لم يستطعه غيرهما، فهما علامة متميزة, فارقة, فريدة في الموسيقى العربية, وشِعرَهُما في المنازل العالية, فهما في الشعر الغنائي والتلحين من الكبار الخلاقين المبدعين, لا أعرف نظيرهما.

 

 

كانت معاناة زوجتي من نوع خاص، معاناة لحياة استمتعنا فيها كأسرة، ذكريات حلوة لعائلة صغيرة, مشت درب الغربة مستمتعة بالدفء الأسري.

 

عندما تسمع " رجعت الشتوية " تصاب بالوحشة، وحشة البعد، تشتهي شتاء جبل لبنان, حيث في كعب الوادي بيت عتيق يتدفأ على الحطب, وحول الموقد تدور الحكايات ويحلو السهر.

 

ومع فيروز تحب "سهر الليالي", والأغنية تحولت إلى شريط سينمائي طويل أدّاه شريف منير, أحمد حلمي, فتحي عبدالوهاب, منى زكي وعلا غانم:

 

كان عنّا طاحون عنبع الميّ

قدامه ساحات مزروعة فيّ

وجدي كان يطحن للحي

قمح وسهريات

ويبقوا الناس بهالساحات

شي معهن كياس شي عربيات

رايحين جايين

وعطول الطريق تهدر غنيات

آه يا سهر الليالي

آه يا حلو على بالي

نغني آه نغني آه

نغني على الطرقات

 

وتسمع " صيف.. ياصيف " و"حبيتك بالصيف " فتغزل الكروم محبة وشهد وعناقيد, والعنب يعصر عوافي وعمر ويقطر السكر ليوم العيد, وتضحك الصبية وتحلى العناقيد, أغصان الزيتون وأشجار الليمون بثمارها الصفراء تطل من الذكرى, وتتسلل رائحة الخبز وعبق الزعتر, فتستسلم لسحر الصوت, وسحر الموسيقى, وسحر الإحساس، وذكرى أياك مضت لا تزال عالقة في الذاكرة, وعلى البال والخاطر, فتتألم الروح لمرارة الفراق, الحرقة في الصدر, والغصة في الحلق, وغربة موحشة أجبرت عليها. 

 

 

وكيف لا ينغمس قلبك في الحزن عندما تسمعها تحكي لك حكاية طفل أكله غول الحرب، وحكاية "شادي" هي حكاية مئات الأطفال الذين عاشوا و"ضاعوا" في حرب الآخرين على بلادهم:

 

 

من زمان وأنا صغيرة

كان في صبي 

يجي من الأحراش 

نلعب أنا وياه

كان اسمه شادي 

أنا وشادي غنينا سوى 

لعبنا على التلج ركضنا بالهوى 

كتبنا ع الحجار قصص صغار 

ولوحنا الهوى 

ويوم من الأيام ولعت الدنى 

ناس ضد ناس علقوا بها الدنى 

وصار القتال يقرب 

عالتلال والدنى دنى

وعلقت على أطراف الوادي

شادي ركض يتفرج 

خفت وصرت أندهله

وينك رايح يا شادي 

أندهله وما يسمعني 

ويبعد يبعد بالوادي

ومن يومتها ما عدت شفته 

ضاع شادي 

والتلج اجى وراح التلج 

عشرين مرة اجى وراح التلج 

وأنا صرت أكبر 

و شادي بعد صغيّر 

عم يلعب عالتلج

 

وربما أحلى ما قيل في فيروز, الذي كتبه أنسي الحاج في ملحق "النهار", في 30 مايو (أيار) 1965:

 

" فيروز تغني في حياتنا, إنها الحضور الضابط الكل, الذي يتيح لنا بسخاء غير محدود, أحياناً, أن نعكس عليه ما هو فينا, وما نحلم أن نكون".

 

 

بذلت زوجتي جهداً لكي تتأقلم مع الحياة الجديدة, ولم تسعفها, بادىء ذي بدء, ساعات العمل الطويلة التي كنت أقضيها في المكتب, مقابل دخل بالكاد يأتي بالكفاف.. فالأسعار نار, وتكلفة الحياة في بلاد الإنجليز مرتفعة لم نتعودها, لا في بلادنا ولا خبرناها في بيروت, حيث الخيرات والبحبوحة. 

 

 

عطلة نهاية الأسبوع "ويك إند" حسبتها زوجتي للراحة والنزهات, كما كنا نفعل في بيروت، فوجدت أن السبت هو للتسوق, وتبضع ما يحتاجه البيت من أسبوع إلى أسبوع، ويوم الأحد تراني وقد أنهكني العمل, أغط في النوم, أصحو متأخراً وأعود أنام في القيلولة, ليبدأ مع الاثنين أسبوع آخر من ساعات العمل الطويلة.

 

 

ومع كرّة الأيام تعودنا على الوقوف في "الطوابير"، والطوابير في كل مكان, في "السوبرماركت", في محطات القطار, ومواقف الباص, في المصارف.. وتظل واقفاً حتى يأتي دورك, فيهدّك التعب والإرهاق، والوقوف في الطوابير أصبح جزءاً من تقاليد وعادات البريطاني، وأنت إن كنت تقف فى أحد الطوابير, فلا تفكر  البتة فى أن تتخطي دور غيرك, فهذا يغضبهم بشكل كبير. 

 

والإنجليزي بطبعه متحفظ. وهو, كما نقول عندنا, "في حالو",  فكل فرد لا يهتم بشؤون الآخر, وبالتالي لا يحب أن يتدخل أحد فى خصوصياته، وهم ينتقدون تلقائيتنا ويعتبرونها عدم احترام للقواعد، لا يحبون تخطي المساحة الشخصية, ولا يحبون تدخل أحد فى تلك المساحة، ولا بد من الاستئذان واحترام قواعد الحديث. وقد لمسنا, زوجتي وأنا, مدى تحفظ وتماسك وثبات عزيمة البريطاني, ورباطة  جأشه وبرودة مشاعره. 

 

 

فالخصوصية مهمة جدأ للبريطانيين واللغة الإنجليزية مليئة بالعبارات الدالة عليها منها keep your nose out أو "خللي أنفك بعيدًا ", وهذه العبارة لها مثيلتها عندنا: "من تدخل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه".

 

 

والدخول مع الغرباء فى محادثة ليس من عادتهم، فى وسائل النقل العام يقرأ معظم الناس الكتب أو الجرائد, أو يركزون نظرهم فى هواتفهم الخليوية النقّالة، ومحاولة بدء محادثة معهم تنتهي قبل أن تبدأ بكلمات لطيفة مقتضبة، إنها لعمري,  ثقافة فردية للغاية. 

 

 

أذكر, فيما أذكر, حادثتين تؤكدان ذلك:  فقد كنا نسكن في منطقة مغلقة طرقها خاصة بسكانها  فقط, بعيدة عن مخاطر الطريق العام, تعرف في تخطيط المدن في بريطانيا  Cul-de-sac, والأولاد يلعبون فيها فى أمان وسلام، وكانوا قد اختاروا من أبناء مجتمعنا السكني أصدقاء من سنهم, لمشاطرتهم اللعب. في عيد مولد شريف دعا  كل أصدقائه للاحتفال معه. وعلى الطريقة المصرية, استمتع الأطفال بالمشاوي, من كفته ولحوم ودجاج, وحلوي وهدايا رمزية لكل من حضر وشارك... تمر أيام وأسابيع، ويحتفل "جون" أحد أصدقاء شريف بعيد مولده,  فيذهب شريف واخته للمشاركة, بعد قليل عادت شيرين باكية, فقد منعتها أم الصبي من دخول منزلها لأنها "غير مدعوّة", فالدعوة موجهة فقط لأخيها، ضممتها إلى صدري محاولاً  التخفيف عنها من الموقف المزعج, وإدخال البهجة إلى نفسها. وأفهمتها طبيعة البريطاني, فكل شيء محسوب فى حياته. يعيش حسب إمكانياته المادية من دون " فشخرة " أو استدانة، يخطط لعطلته الصيفية قبلها بعام, يقتصد ويدّخر, فيؤمن تكاليف عطلته خارج بريطانيا ولو لعشرة أيام, وليس عيباً منه أو انتقاصاً من قدره, إن ترك صديقته تشارك في سداد فاتورة العشاء، وعادات كثيرة ليس هاهنا منفسح لذكرها, لم نعتد عليها فى بلادنا.

 

 

وحدث أننا دعونا للعشاء في بيتنا ريمون عطا الله وأنطوان شكر الله حيدر, وهما صديقين وفيين لنا، صفيين عندنا, ومن زملاء المهنة, تركا بلدهما لبنان على حسرة ومضض, وأُجبرا مثلنا على الاغتراب إلى لندن عندما هاجرت مجلة "الحوادث"، وهما من جهاز تحريرها, مع الصحف المهاجرة من أتون الاحتراب الداخلي (وستكون لي عودة للحديث عن "الحوادث" فيما بعد).

 

 

ليلتها غطى الثلج المطارح, وهبطت الحرارة إلى درجة الصقيع, وحوّل الثلج على الأرصفة والممرات إلى زجاج سهل الانزلاق عليه, وزلّة قدم كفيلة بأن تسبب الوقوع وكسر في العظم.

 

وصلت سيارة الأجرة التي أقلتهما من محطة القطار إلى بيتنا في "كرويدن" بضواحي لندن، وما كاد الزميل أنطوان يمشي خطوات فى الممر المغطى بالجليد المتماسك الصلب, حتى انزلق ووقع أرضاً, وتخوّفنا من أن يكون قد تعرض لكسر في يده اليسرى التي راح يتألم منها, فاستدعينا الإسعاف, وبعد معاينته السريعة, وجدوا أن لا كسر في اليد, إنما شرخ بسيط في العظم, فلفوها  بالضمادات.

 

 

كانت الساعة جاوزت الثامنة مساءً, وصفارة سيارة الإسعاف كانت نبهت الجيران,  فراحت الرؤوس تُطِل من نوافذ المنازل الملاصقة لمنزلنا فى تطفُل, ثم أُسدلت الستائر وكأن شيئاً لم يكن, من دون أن يتطوع أحدهم للمساعدة.

 

 

وفى الصباح  اليوم التالي, وكالعادة, ترافقت مع الجيران إلى محطة القطار التي كانت على رمية حجر من بيتنا, فتوقعت أن يسألني أحدهم عن سبب استدعاء الإسعاف, أو يبدي حرصاً أو رغبة في الاستفسار, فلم يبدر عن أي منهم اهتمام, والحديث دار عن الطقس البارد!    

 

 

بالطبع فسرنا هذا الموقف على أنه  "قلة ذوق", و"برودة مشاعر", و"عدم الغيرة على الجيرة", لكنهم في الحقيقة لا يشغلون أنفسهم بالآخرين, ويعتبرون السؤال والاستفسار في مثل تلك الحالات, تدخل بما لا يعنيهم أو أنه إحراج, فربما لا أرغب في الحديث عن خصوصيات بيتي. 

 

 

وبصرف النظر عن كل السلبيات التي نراها هكذا من وجهة نظرنا, إلا أن بريطانيا "بلاد القوانين", وهي تُطبَّق كما تُشّرَع, بحذافيرها ومن دون تهاون.. والإنسان في بلاد الإنجليز مصونة حريته, يجاهر بها وبرأيه, شفاهة وكتابة, من دون أن يتلفت يميناً أو شمالاً,  محفوظ الكرامة مادام لم يتجاوز القانون, ونظام الحكم يحفظ للشعب حقوقه.

 

 

قد يكون في الماضي, هنيهات, أخصب وأرسخ وجوداً من الحاضر، وبلاد الإنجليز كانت أيامها من الماضي الخصب الجميل.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز