نص كلمة شيخ الأزهر في احتفالية مرور 10 أعوام على إنشاء بيت العائلة المصرية
السيد علي
ألقى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، اليوم الاثنين 8 نوفمبر 2021م، الكلمة الرئيسة لاحتفالية بيت العائلة المصرية بمرور 10 سنوات على تأسيسه، معربًا عن ترحيبه بضيوف المؤتمر في رحاب الأزهر الشريف والكنائس المصرية.
وإلى نص كلمة فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى إخوته من الأنبياء والمرسلين.
- السَّيِّد المستشار/ عدلي منصور – الرئيس السابق لجمهورية مصر العربية!
- قداسـة البابا تواضــروس الثاني – بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية!
- السَّيِّد المستشار/ عمـــر مروان- وزيـــر العـــدل، نائبًا عن دولة الدكتور/ مصطفى مدبــولي – رئيس مجلس الوزراء!
- الدكتور القس/ أندريا زكي – رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر!
- غبطة البطريرك الأنبا/ إبراهيم إسحق – بطريرك الأقباط الكاثوليك!
- نيافة المطران/ سامي شحــاتة – رئيس الكنيسة الإنجليكانية بمصر!
- السيدات والســادة الوزراء والسفراء والمحافظون!
- الحــضور الكــريم!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد؛
فأهلًا ومرحبًا بحضراتكم جميعًا في رحاب أزهركم الشريف وكنائسكم المصرية العريقة وفي ضيافة: بيت العائلة المصرية، هذا البيتُ الكريمُ الأصيل الذي نحتفل اليوم بذكرى مرور عشْرِ سنوات على تأسيسه، وكان ثمرةً لتفاهمٍ عميق مدروس بين الأزهر والكنيسة، التَقَيا فيه من أجل تحصين مصرَ والمصريين من فتنٍ أحدقت بالبلاد، ودمَّرت مِن حولنا أوطانًا ومجتمعاتٍ، بل وحضاراتٍ ضاربةً بجذورها في قديم الأزمان والآباد، وراح ضحيَّتَها الملايينُ من الأرواح، والآلاف من المشوَّهين والأرامل واليتامى، والفارِّين والنازحين عن دِيارهم وأوطانهم.
الحــفلُ الكــريم!
لقد وُلِدَت فكرة هذا الكِيانِ الفريد في يناير من عام أحد عشر وألفين في أثناء أداء واجب العزاء في ضحايا حادث كنيسة القديسيْن بالإسكندرية، وكان الحـــــــــديثُ –يومَها– بين قداسة البابا: شنودة الثالث ووفدِ الأزهر الشريف بصُحبة أستاذنا أ.د/ محمود زقزوق، الذي تولَّى بعد ذلك أمانةَ بيت العائلة حتى رحَل عن دُنيانا، وكذلك زميلنا أ.د/ محمود عزب، الذي تولَّى وظيفة المنسِّق العام للبيت، رحمهم الله جميعًا وتغمَّدهم بواسع فضله وكرمه.
وهكذا نبعت فكرةُ بيت العائلة من رَحِمِ تحدِّياتٍ بالغة الحزن والأسى، بحيث وضَعت الجميعَ أمام مسؤوليَّاتهم تجاه الضمير وتجاه الوطن والمواطنين، وكان التحدِّي الأكثرُ إلحاحًا والأشدُّ خطَرًا هو فُقدانَ الأمن والسَّلام والاستقرار المجتمعي، وتنامى جرائم الإرهاب ومُفاجآته الدَّامية، وكُنَّا على وعيٍ كاملٍ، وقناعة تامَّة بأن اللعب على أوتار الفتنة الطائفية لو تُرك وشأنَه فإنَّه ما يلبث أن ينزلقَ بالبلاد إلى حربٍ طائفيَّة ستأتي –لا محالةَ- على الأخضر واليابس.. وقد استشعر الأزهر والكنائس المصرية، يومَها، ما على المؤسسات الدينيَّة من واجب المشاركة في الجهود الوطنيَّة والأمنيَّة والسياسيَّة التي تبذلُها الدولة لدحرِ هذا المخطط اللَّعين، وحمايةِ الوطن، والمواطنين من تداعياته التي تُغذيها، وترعاها، قوًى خارجيةٌ بالتنسيق مع قوًى داخليَّةٍ، وبعدَ ما بات من الواضح أنَّ هدف الجميع هو سقوطُ مصرَ فيما سقطت فيه دولٌ عربية كبرى وصغرى من صراعاتٍ أهلية مُسلَّحة، لا تزال أخبارها البالغةُ السُّوء تَتصدَّر الأنباء المحلية والدولية حتى هذه اللحظة.
في هذا الجوِّ المضطرب، ووسطَ أعاصيرِه الداخليةِ والخارجيةِ، وعَقِبَ أحداث الاعتداء على كنيسة سيدةِ النجاة في بغداد في أواخر ديسمبر 2010م، وكنيسة القديسين في 1 يناير 2011م، دعت الضَّرورةُ الدينيَّة والوطنية إلى إنشاءِ هيئةٍ وطنيَّةٍ مُستقلة باسم بيت العائلة المصرية، ولم تمرَّ بضعةُ أشهر بعد ذلك حتى صدر قرار رئيس الوزراء -آنذاك- بإنشاء هيئةٍ مشتركة باسم «بيت العائلة المصرية» برئاسة شيخ الأزهر، وبابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ومَقَرُّه الرئيسي مشيخة الأزهر بالقاهرة.
السَّــيِّداتُ والسَّــادة!
يطولُ الحديث عن هذا البيت وعن دوره الوطني الذي اضطلع به في صمتٍ وإخلاص، عبر مجالسِه ولجانه المنبثقة منه، كما يطولُ الحديثُ عن أبرز نشاطاته طوال سنواتٍ عشرِ خَلَتْ، وعبر ستةَ عشَرَ فرعًا في خمسَ عشرةَ محافظةً، وغيرِ ذلك من موضوعاتٍ أرى أنَّ جلسات المؤتمر ونقاشاته وتوصياتِه أليقْ ببيانها وإلقاءِ الضوء عليها.
غيرَ أنَّ الوفاء بواجب أمانة الكلمة يقتضيني، وقبلَ أن أُفارق مقامي هذا، أن أُوجز القولَ في أمرٍ أعتقد أنه بحاجةٍ إلى شيءٍ من التوضيح أو لنقل: من التنبيه، قطعًا للشكوك والظنون التي يُثيرها البعضُ، في محاولةٍ لصرف الأنظار عن هذا البيت، وتركه يموت موتًا رحيمًا.. أو يبقى جثةً هامدة بين الحياة والموت.
هذا الأمر هو: محاولة الخلط بين تآخي الإسلام والمسيحية في الدفاع عن حق المواطن المصري في أن يعيشَ في أمنٍ وسلامٍ واستقرارٍ، الخلطُ بين هذا التآخي وبين امتزاج هذين الدِّينين، وذوبان الفروق والقسمات الخاصة بكلٍّ منهما.. وبخاصة في ظل التوجُّهات التي تُنادى -بـ«الإبراهيمية»- أو الدين الإبراهيمي، نسبةً إلى إبراهيم -عليه السلام- أبي الأنبياء ومجمع رسالاتهم، وملتقى شرائعهم، وما تطمحُ إليه هذه التوجهات –فيما يبدو– من مزج اليهودية والمسيحية والإسلام في رسالةٍ واحدة أو دِين واحد يجتمعُ عليه الناس، ويُخلصهم من بوائق النزاعات، والصراعات التي تُؤدي إلى إزهاق الأرواح وإراقة الدماء والحروب المسلحة بين الناس، بل بين أبناء الدِّين الواحد، والمؤمنين بعقيدةٍ واحدة.
وهذه الدعوى، مِثلُها مثل دعوى العولمة، ونهاية التاريخ، و«الأخلاق العالمية» وغيرها – وإن كانت تبدو في ظاهر أمرها كأنها دعوى إلى الاجتماع الإنساني وتوحيده والقضاء على أسباب نزاعاته وصراعاته.. إلَّا أنها، هي نفسَها، دعوةٌ إلى مُصادرة أغلى ما يمتلكُه بنو الإنسانِ وهو: «حرية الاعتقاد» وحرية الإيمان، وحرية الاختيار، وكلُّ ذلك مِمَّا ضمنته الأديان، وأكَّدت عليه في نصوص صريحة واضحة، ثم هي دعوةٌ فيها من أضغاث الأحلام أضعافَ أضعافِ ما فيها من الإدراك الصحيح لحقائق الأمور وطبائعها.
ونحن وإن كنَّا لم نَرَ -حتى هذه اللحظة- هذا الوليدَ الإبراهيمي الجديد، ولا نعرفُ شيئًا عن ملامحه وقسماته، إلَّا أننا –ومن منطلق إيماننا برسالاتنا السماوية– نُؤمن بأنَّ اجتماع الخلق على دِينٍ واحدٍ أو رسالةٍ سماوية واحدة أمرٌ مستحيل في العادة التي فطر الله الناس عليها، وكيف لا، واختلافُ الناس، اختلافًا جذريًّا، في ألوانهم وعقائدهم، وعقولهم ولغاتهم، بل في بصمات أصابعِهم وحديثًا بصمات أعينِهم.. كلُّ ذلك حقيقةٌ تاريخية وعلمية، وقبل ذلك هي حقيقة قُرآنية أكَّدها القرآن الكريم ونصَّ على أنَّ الله خلق الناس ليكونوا مختلفين، وأنه لو شاء أن يخلقهم على مِلَّةٍ واحدة أو لونٍ واحد أو لغةٍ واحدة أو إدراك واحد لفعَل، لكنه -تعالى- لم يشأ ذلك، وشاء اختلافَهم وتوزُّعَهم على أديان ولغات وألوان وأجناس شتى لا تُعد ولا تُحصى.. ثم بيَّن أن هذا الاختلاف باقٍ ومستمر في الناس إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ [هود: 118]، كما بيَّن الله تعالى أنَّه كما خلَقَ المؤمنين من عبادِه، خلَقَ منهم الكافرين أيضًا، يقول الله تعالى في أوائل سورة التغابن: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [التغابن: 2].
وما نُريدُ أنْ نَخْلُص إليه من هذه الكلماتِ الموجزةِ هو أنَّ انفتاحَ الأزهر وعلمائه على كنائس مصر ورجالها وقادتها، وفي مقدمتها: الكنيسةُ الأرثوذكسية، وكذلك انفتاح الكنائس المصرية على الأزهر، ليس كما يُصوِّرُه البعض محاولةً لإذابة الفوارق بين العقائد والملل والأديان، وواضحٌ أن هذا البعض يَصعُب عليه فهمُ الفرق بين احترام عقيدة الآخَر وبين الإيمان بها، وأنَّ احترامَ عقيدة الآخَر شيءٌ والاعترافَ بها شيءٌ آخَرُ مختلفٌ تمامَ الاختلاف.. وفي هذا الإطار يستقيمُ فهمنا لقوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، وقوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48]، وغيرها من آيات القرآن الكريم.
نعم! انفتاحُ الأزهر على المؤسسات الدِّينيةِ داخل مصر، وخارجها، هو انفتاحٌ من أجل البحث عن المشتركات الإنسانية بين الأديان السماوية، والتعلُّق بها لانتشال الإنسانية من أزمتها المعاصرة، وتحريرها مِمَّا حاق بها من ظلم القادرين، وبغي الأقوياء وغطرسة المتسلِّطين على المستضعفين.
الحضـــور الكــريم!
ما أشبه اليوم بالأمس! فقد مرَّ الأزهر والكنيسة المصرية بدورٍ شديد الشَّبَهِ بدور اليوم، وذلك حين تصدَّت هاتان المؤسستان بعلمائها وقساوستها لإحباط الدسائس الاستعمارية في القرن الماضي، وكانت دسيسةُ الأمس هي هي بعينها دسيسةَ اليوم، وأعني بها العبثَ بالعلاقة بين عنصري الأُمَّة، والزعمَ بأنَّ الأقباط يُؤيدون الاحتلال، لكن الحيلة لم تنطلِ على الأزهر ولا على علمائه الذين سرعان ما هرولوا إلى كنائس الاقباط، وكان على رأسهم شيوخٌ كبارٌ مثل: مصطفى القاياتي، ومحمود أبو العيون، وعبد ربه مفتاح، ومحمد عبد اللطيف دراز، وعلي سرور الزنكلوني.. واستُدعي القمص «سرجيوس» بتكليفٍ من الشيخ القاياتي ليَعتليَ منبَر الأزهر، ويتحدثَ مع المتحدثين، وقام علماء الأزهر بتشييع جنازة المسيحيين والمسلمين دون تفريقٍ.. وقد أرسل الشيخ إبراهيم سليمان قصائدَه الوطنيةَ داعيًا إلى الاتحاد الأخوي في أراجيز سهلة، ذاع منها قولُه:
الشيخُ والقسيسُ قسيسانِ * * * وإنْ تشأْ فقُل هما شيخــــــانِ
الحــفل الكريم!
إنَّ الأزهر الشريف حين يحثُّ الخطا إلى الكنائس اليوم ويضعُ يده في يدها من أجل الوطن والمواطنين، وحقِّ الجميع في عيشٍ مشترك آمِن، ومساواةٍ في المواطنة والحقوق والواجبات. إنَّما يُسند ظهرَه إلى علومِه وتراثه وثقافته الإسلامية الخالصة، والتي تقوم على مبدأ «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، وعلى أخوَّة الإسلام: شريعةً وقرآنًا ونبيًا لما سبقه من الشرائع والكتب والأنبياء، وكذلك أخوة نبي الإسلام لعيسى عليه السلام، وقوله: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، في الأُولَى وَالآخِرَةِ»، وقوله في حديث آخر: «أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ، وبشرى أخي عيسى، ورأتْ أُمِّي حينَ حملتْ بي أنَّهُ خرَجَ منها نورٌ أضاءَتْ له قصورُ الشَّامِ».. وما تعلَّمنا من القرآن الكريم الثناء على سيدنا عيسى وعلى أمه مريم عليهما السلام، بل الثناء على أتباعِه في قوله تعالى: “ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً” [الحديد: 27].. ومعاذَ الله أن يكون انفتاحُ الأزهر الحارس للإسلام: عقيدةً وشريعةً وتراثًا، على الأديانِ السماوية تذويبًا أو تفريطًا أو ما إلى ذلك من هواجس وظنون وأوهام يَبعثُها سوءُ فهم الإسلام، وعدمُ إدراك حقيقته وفلسفة علاقته العضوية بما قبلَه من الرسالات الإلهية السابقة، وبخاصةٍ علاقة المودَّة التي تربطُ المسلمين بالمسيحيِّين منذُ فجر تاريخ الإسلام وإلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها.
السادة الضيوف الأجلاء!
إنَّ تشريفَكم اليوم في احتفال بيت العائلة المصرية لهو دعمٌ معنوي كبير يَزيد من عزمنا -بمشيئة الله تعالى- على مواصلة الجُهدِ في مواجهة التحدِّيات والمشكلات التي يتَّسِع مداها يومًا بعد يوم، ونحن -وبفضل تشجيعِكم الدائم- لعلى ثقةٍ من قدرة «البيت» على المشاركة الجادَّة في حل إشكالات المواطنين والارتقاء بمستوى الخدمات التي تُقدَّم لهم، وبخاصة في القرى والنجوع والكفور، ومن خلال فروع «البيت» في محافظات عديدة، وبالمشاركة الفعَّالة مع مُبادرة «حياة كريمة» التي أطلقها السيد الرئيس/ عبد الفتاح السيسي، في يناير من العام الماضي، والتي نأمل أن يكون لبيت العائلة نصيبٌ ملحوظٌ في تحقيقها وإنجاحها بمشيئة الله تعالى وإرادته.
شُكْرًا لَكُم ضيوفنا الأعِزَّاء ومَرْحَبًا بِكُمْ مَرَّةً أُخرى.