
ظروف
12:19 م - الخميس 1 مايو 2014
بقلم : مصطفى سليمان
أرهقني المطر صباحاً .. كنت أعدو تحت وابله كالهارب من الجحيم، أرفع غطاء الرأس المعلق في كتف الجاكت كي يقيني هذا الجحيم البارد . المطر خير ! . وفرة في الوحل ، وفرة في الأنفلونزا .. وفرة في كمل المنغصات الحياتية ، ولا بديل عن العدو ، باقي من الزمن عشرة دقائق ويرن جرس الصباح بالمدرسة ، وإن تأخرت دقيقة واحدة ستستقبل يداني عصوين تلهبانهما في ذلك البرد القارص .
لماذا لم يشترك لي أبي في " باص " المدرسة ؟.. ظروف .. تلك الكلمة المجيبة لأي سؤال استنكاري أسأله إياه .. تلك الكلمة التي تكلفني السير قرابة الثلث ساعة حتى أصل إلى المدرسة .. ظروف أبي تجعلني أضطر أحيانا للصعود إلى هاوية الطريق الدائري كي أعبره اختصارا للوقت .. أقف على جانب الطريق أتأمل سور الجانب الآخر ، وأحسب بطريقة فيزيائية الفارق بين المسافة بيني وبين السور وبين السيارة القادمة من على يميني ، وبأقصى سرعة أندفع .. يا الله . لو تُخطيء حساباتي يوما .
ظروف .. واليوم هو آخر يوم لدفع المصاريف المدرسية ، ولتك الظروف لم تمكن أبي من استكمال الأقساط لمدرستي الخاصة .. واليوم أيضا هو امتحان نصف الفصل الدراسي الأول في مادة الرياضيات .. أمير عبد الله ، اسمي ، وأشهر اسم في المدرسة ، لتصدري قائمة المتفوقين في العام الماضي .. ذلك الاسم الذي كان سبب ابتهاجي في طابور الصباح ، سيكون سبب غمي وحزني اليوم .
وصلت المدرسة في الوقت المحدد ، كيف أنجو من عيون ناظر المدرسة ، من عيون موظفة الحسابات ، من عيون زملائي عندما يُنادى على اسمي في مُكبر الصوت ، وتراني المدرسة كلها وأنا أخطو خارجاً من الطابور ، مطروداً من المدرسة لحين استكمال المصاريف ، وليست بالجديدة على صاحب المدرسة ، وقد فعلها مرات ومرات ولم يأبه لمستوى أي من الطلاب ولا حالاتهم المادية . دخلت المدرسة وأنا أواري سوءة ظروف أبي بغطاء رأس معطفي ، قبلت بألا أقف في مقدمة الصف ودسست نفسي في وسطه حتى لا يراني أحد من المدرسين أو الموظفين . هل سينادون على أسماء من تخلفوا عن دفع المصاريف في الطابور ، أمام الأشهاد ؟ أم سيمر الأمر بسلام .. بدأت الإذاعة المدرسية ، بسم الله ، رنت كلمة الله في أذني ، محملها جزء من اسم أبي .. كل حرف ينتمي لمجموعة حروف اسمي يدوي في مكبر الصوت كالرعد في أذني . انتهت الإذاعة .. كلمة الناظر ، لم ينادي على اسمي .. كلمة مدير المدرسة وصاحبها ، لم ينادي على اسمي أيضا ، تحية العلم " الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر " مرت المحنة ، انصرف الطابور إلى الفصول .. نزعت غطاء الرأس ، جلست استعد للامتحان ، أتت المُدرسة ، أعطتني الورقة ، قرأت الأسئلة .. ابتسمت .. أعرف إجابات كل الأسئلة ، شرعت في الكتابة .. فُتح باب الفصل ، دخل الناظر يمسك ورقة وينظر فيها ، تظاهرت بالتجاهل وعدم الاهتمام بينما الرعب والترقب رفعا درجة حرارتي إلى درجة الغليان في ذلك الجو المتجمد . الناظر ينادي أسماءً .. أمير عبد الله .. " اللي سمع اسمه ينزل تحت عند مكتب مدير المدرسة " .
في المكتب وقفنا متراصين كمن ينتظر حكم الإعدام ، كسى الخجل والكسوف وخيبة الأمل وجوهنا ، خيبة أمل في أن أجد أبي ظهرا يحميني .. دخل مدير المدرسة ، جلس على مكتبه وأجلس كرشه أمامه ..نظر من خلف نظارته السميكة .. ألقى محاضرة عن ضرورة احترام الاتفاقات ، عن تجاهل الآباء لنداء المدرسة ، وأن المدرسة لابد وأن تتخذ تصعيداً ، كان يعيب في آباءنا من خلف الكلمات .. الوقت يمر وهو ما زال يتحدث .. قاربت حصة الامتحان على النهاية .. أستمع إلى كلمته وعيني تعدو خلف عقاب ساعة الحائط .. أخيرا أنهى المحاضرة " اطلعوا كملوا الامتحان ، واللي مش ها يجيب المصاريف بكره ما يجيش " .. سمعت كلمة الافراج فانطلقت أزيح كل من أمامي ، أعدو بأقصى ما أوتيت من سرعة وقوة تجاه الفصل ، وصلت لبابه وأنفاسي تتسارع ودقات قلبي تسابق الريح .. فتحت الورقة ، قرأت الأسئلة .. أين ذهبت الأسئلة التي رسمت البسمة على وجنتاي منذ دقائق .. اختفت كل الإجابات من رأسي .. ظللت أعصر ذاكرتي وأبحث في كل أروقة عقلي على معلومة فلم أجد ، هربت الكلمات والرموز والمعادلات .. حاولت كثيرا ولا تغيُّر .. أغلقت الورقة محاولا جمع شتاتي ، رن جرس نهاية الحصة ... نزعت المُدرسة الورقة من أمامي . تذكرت رنين أحبال أبي الصوتية وهو يقول " ظروف " .. وضعت رأسي على الدكّة ، وبكيت .
تابع بوابة روزا اليوسف علي