تظل تجربة الهجرة من الريف إلى المدينة حاضرة طوال القرن العشرين والسنوات القليلة الماضية في القرن الحالي الحادي والعشرين تجربة واضحة، في كل دراسات السكان في العالم كله، وفي أوروبا بشكل واضح، وفي الوطن العربي، وفي مصر بشكل حاد.
حيث جاءت الحداثة وما تبعها بحضارة جديدة صناعية، وبتغير في مفهوم الاقتصاد، جعل المدينة هي الحلم لكل أهل الريف، والذين اعتقدوا في معظمهم أنهم يعيشون في الأطراف المحرومة البعيدة.
مما جعل القرى في مصر كما في عدد من دول العالم طاردة للسكان.
مما جعل ظاهرة الريفي الهارب للمدينة ظاهرة اجتماعية مصرية شكلت أزمة وصلت إلى حد التفكير بمنع الانتقال إلى العاصمة القاهرة في فترة التسعينيات من القرن العشرين.
لم تكن فرص العمل ولا قلة الموارد ولا الفقر هي أسباب الهرب، فهناك أسباب أخرى هامة ألا وهي أن الانتقال للمدينة يفتح الطموح إلى أقصاه، ويلغي قيم العائلة والطبقة، ويخلص الفرد من قيم المجتمع الزراعي الأبوية، ويفتح الباب أمام الخصوصية الشخصية والحرية الفردية على مصراعيه.
بالإضافة لكراهية أهل الريف للاختلاف وحضور طاغ لعادات وتقاليد بعضها يخضع لخرافات وأفكار ثابتة ومراقبة الناس لبعضهم البعض وفقًا للتجاور المستمر، والبقاء في مكان محدود.
مما أدى لفقد الريف معظم عناصره البشرية المتميزة، خاصة هؤلاء الذين حصلوا على تعليم عال ممتاز، مما منح القاهرة والإسكندرية ومعظم عواصم الأقاليم في مصر روحًا جديدة، عبر عنها الكثيرون من سكان المدن الأصليين بأنها روح ريفية أدت إلى صبغ المدن بصبغة ريفية.
وظهرت تلك الظاهرة بوضوح في الأحياء التي نشأت على أطراف القاهرة بشكل واضح لتنتج تجمعات سكانية، لا هي مدينة ولا قرية، ومن هنا تأتي أهمية المشروع القوي المصري بشأن الريف الآن.
وذلك لأن هذا التفكير نحو إنقاذ الريف، سوف ينعكس بالتأكيد على الهجرة المتسارعة منه إلى المدن، فهو إنقاذ للمدن من الزحام والضجيج، كما هو إنقاذ للريف من ضيق فرص العمل، وغياب الخدمات اللازمة للسكان. وهو سعي لخلق بيئة عمرانية حضارية، والمشروع الذي يعبر عن تفكير الرئيس السيسي في المصريين الذين هم في الأطراف المحرومة، هو مشروع هام طال انتظاره.
وهو يستهدف خدمة وتحسين جودة الحياة للمصريين في ما يقرب من 4741 قرية وتوابعها وهي في بعض التقديرات 36 ألف عزبة وكفر ونجع.
والمرحلة الأولى كما هو معروف تستهدف وفق البدء بها 1500 قرية، تخدم 18 مليون مواطن مصري.
أما ما أحب أن ألفت الانتباه والنقاش له هو، إن علينا الاستفادة من تجارب الآخرين خاصة في أمريكا الشمالية وكندا في التعامل مع الريف، ففي عالم معاصر لم يعد منح القرى حقها هو السعي نحو قرية بروح المدينة، فالقرية قرية والمدينة مدينة. إذ يجب السعي نحو قرية مصرية بروح القرية الحقيقية المصرية الأصيلة في إطار معاصر.
ولا شك أنه لا يوجد تغيير عمراني في القرية ومحيطها، ولا تقدم في الأنشطة الاقتصادية دون أن يحدث تحولًا في الأداء والتفكير الثقافي للقرية.
ومن هنا تأتي أهمية الحضور الفعال للثقافة والتعليم كمكون جوهري، فالقرى تحتاج إلى مشروعات لمحو الأمية الثقافية والكتابية، في ظل حضور حاد للتكنولوجيا الجديدة، ربما يدفع لإساءة استخدامها.
فالقرية المصرية مبدعة من قديم الأزل، وهو تحتاج لبعث ذلك الإبداع مرة أخرى في إطار زرع وإعادة إيقاظ روح القرى المصرية الحكيمة عبر السعي نحو الثقافة المبدعة، وهي ثقافة في ضوء التكنولوجيا المعاصرة يمكن أن تفهم الحيز المكاني المحدود للقرية لتربطه بالعالم المحيط من حوله فتقلل من الرغبة في الهجرة وتدعم جودة الحياة في الريف.
وهو الأمر الذي يجب السعي فيه عبر التكنولوجيا لجعلها أثيرية، في إطار المزج المبتكر بين ما هو محسوس وما هو رمزي يربط القرية بالعالم كله.
تحتاج القرى لا لقوافل ثقافية تأتي إليها من المركز ثم ترحل، بل تحتاج لأن تقوم هي بعملية إنتاج الثقافة.
قرى ثرية بالغناء والموال والآلات الشعبية تستحق مهرجانات دولية بها، وقرى مدهشة في صناعة النسيج اليدوي وقرى غيرها، قادرة على إبراز التنوع الثقافي المصري.
قرى نحلم بها جميلة نظيفة آمنة مؤمنة بالحرية الشخصية قادرة على منح حياة مريحة ومنتجة ومتصلة بمحيطها الإقليمي والمصري وكل أنحاء الدنيا الأربعة، هكذا نحلم وهكذا ننتمي، وها هي مصر الجديدة تلوح ملونة بألوان زاهية، وبثقة وأمل في المستقبل.



