أيمن عبد المجيد
تحطيم الأصنام.. هل يوقظ الَّذِينَ اتَّبَعُوا؟
وقف المتهم في القفص، ينتظر شهادة أستاذه، معلقًا عليه الآمال، ولِمَ لا وهو من كان يستمع إلى خطبه ويُطالع دروسه وتغلي الدماء في عروقه، حتى قرر أن يتخذ مما يعتقد أنه الجهاد سبيلًا.
انتظر الشاب اليافع من شيخه أن يصدح في قاعة المحكمة، بما كان يبثه في عقولهم، وما ينثره من أفكار، كانت السبب الرئيس في أن يقف موقفه هذا متهمًا بالإرهاب خلف القضبان، معرضًا لضياع زهرة شبابه في غياهب السجن.
وكان الشاب المتهم يظن في شيخه خيرًا، فالرجل تخلّف عن طلبه للشهاده، يقول الفتى في نفسه: "لعل حبسه حابس، ما أظنه خاف أو جبن".
بينما كان على المنصة قضاة يُدركون أنهم ظل الله على الأرض، وأن دورهم إقامة العدل، ومن بين مهامهم تمكين الدفاع من أداء مهامه، وتحقيق ما يمكن من طلباته، إحقاقًا للحق، ولكشف الحقائق للشباب، فقرر رئيس المحكمة ندب طبيب شرعي للوقوف على الحالة الصحية لمن استدعي، ورد بأنه مريض، وضبط وإحضار من تخلف دون رد أو تبرير السبب.
جاء الشيخ الشاهد بسلطة القانون، فذكره القاضي الجليل، محمد السعيد الشربيني، أن المحكمة لا تستدعي الشهود عبثًا، وأن بعض المتهمين أقروا في التحقيقات أن أفكارهم استقوها من خطب ودروس أربعة شيوخ، هو أحدهم، داعيًا إياه أن يقسم بالله أن يقول الحق ولا غير الحق، فأقسم.
في داخله شعر الشاب المتهم بتشكيل الخلية الإرهابية، أن الفرج آتٍ وشيخه لا شك، سيقول أمام المحكمة ما كان يدعو به في دروسه، يؤصل له فكريًا وفقهيًا، أو ربما وضح وشرح وبين ما قد يكون اختلط عليهم فهمه، وأساءوا تأويله، فالرجل لا شك فقيه متبحر في علوم الدين!
وما أن تحدث الشيخ مجيبًا عن أسئلة القاضي الجليل، حتى بدأ الصنم يتحطم تدريجيًا، مع سقوط الأقنعة، الواحد تلو الآخر، وما أكثرها الأصنام التي تُعبد من دون الله، بل إن شئت الدقة تُضلل الجاهلين التُبع باسم الله، وما الله بغافل عما يفعلون بالإسلام والأوطان، وإن حنثوا إيمانهم وأنكروا في العلن ما يبطنون.
اتسعت حدقتا عيني الشاب المضلل، دهشة، والشيخ يعترف، أنا ورثت الدعوة عن أبي وجدي، وأعلى شهاداتي الدراسية دبلوم المعلمين.
وتزداد دهشة الفتى المخدوع وأصحابه، حين يقر الشيخ بأنه لا يفتي، بل هو أكثر من قال للناس «صلوا على النبي»، فهو لا علاقة له بـ«السياسة»، بل تخصصه «العباد لا العلماء»، «أنا لا أفتي وعندما أسأل أقول: اسألوا العلماء».
شعر الفتى المتهم بدوار وغشاوة على عينيه، تحول دون الرؤية الواضحة للجالسين في قاعة المحكمة، فور سماعه شيخه الذي استقى منه أفكاره، يقرر في غير إجابة عن سؤال القاضي «لا أدري، لا أعلم شيئًا، أنا جاهل».
ذهب الفتى بذاكرته إلى ذلك المشهد الذي، جلس فيه والشيخ خطيبًا في الآلاف، مكبرًا ومهللًا لما أسماه «غزوة الصناديق»، يوم أوهمهم أن التصويت بنعم للإعلان الدستوري ٢٠١٢، انتصار للدين على الكفار العلمانيين! حدّث الفتى نفسه، ألم يكن هذا تحريضًا وسياسة، ألم تكن خطبهم حشدًا لبلوغ السلطة والحكم؟!
قطع شرود الفتى سؤال القاضي، للشاهد ما هو تفسيرك لما قرره أحد المتهمين بأنه أخذ دينه وتعليماته وفكره من بعض الشيوخ منهم: "محمد حسان، وأبو إسحاق الحويني، ومحمد حسين يعقوب"، فما رأيك في ذلك؟
فأجاب محمد حسين يعقوب: الشيخ أبو إسحاق يُخاطب طلبة العلم، والشيخ محمد حسان يُخاطب الملتزمين، وأنا أخاطب العوام، أقول: "طهر قلبك، صلِ"، وهو ارتقى من العوام إلى أبو إسحاق.
القاضي: كنت أود منك أن ينطلق حديثك ونسمع أكثر من ذلك؟
يُجيب يعقوب: «على قد علمي أنا جاهل ربنا يغفرلي».
سأل دفاع المتهمين: ما هي الطرق الشرعية الصحيحة لإيجاد الإمام ومبايعته؟
يعقوب: يجب العمل على إيجاد أهل العقد والربط من العلماء والأمراء.
سأل القاضي: أين الأمراء؟
يُجيب يعقوب: الأمراء موجودون.
القاضي من؟
يعقوب: نقيب المعلمين والزراعيين والأطباء.
القاضي: ومن العلماء في نظرك؟
يعقوب: مفيش حد منهم حاليًا إلا نادرًا.
القاضي: هل تنسى أن بمصر أزهرًا شريفًا وبه علماء أجلاء؟
يعقوب: العالم من شهد له العلماء بالعلم.
القاضي: تستند الجماعات الإرهابية والتكفيرية، التي تقاتل الجيش والشرطة بأن مصر لا تطبق الشريعة الإسلامية، وأن الدولة العصرية فئة ممتنعة ما رأيك في هذا؟
يعقوب: هذا كلام خطأ شكلًا ومضمونًا.
القاضي، ما هي الفئة الممتنعة؟
يعقوب: أنا معرفش، أول مرة أسمع عن الفئة الممتنعة.
ما رأيك أن هذا الكلام ورد في كتاب مجموعة فتاوى ابن تيمية؟
يعقوب: والله ما شفتها، وأنا بأخذ من ابن تيمية اللي أنا عاوزه.
القاضي: أليس هو شيخكم، ما رأيك إن كان قالها هل مقصده صواب أم خطأ؟
يعقوب: الجيش والشرطة، مسلمون لا يجوز قتلهم، ولا أعلم السياق التي وردت فيه.
القاضي: ما رأيك في رؤية وأيديولوجية سيد قطب عن الشريعة؟
يعقوب: سيد قطب شاعر وأديب، سافر أمريكا وعندما عاد وأراد التدين تلقفه الإخوان، ليس عالمًا في الدين، ولم يتعلم على يد شيخ.
القاضي: ما حكم استهداف المنشآت ورجال الجيش والشرطة؟
يعقوب: لا يجوز قتل المسلمين.
شعر الفتى بصوت تحطم صنم كبير ينهار، كان صنعه في مخيلته، ظنّ منه بالإثم أن شيوخه الذين قال إنه استقى منهم أفكاره، ملائكة في الأرض، ناطقون باسم الله، احتكروا فهم صحيح الدين وتأويل نصوص القرآن، حتى آتاه اليقين ليعلم أنهم بشر خطاءون، منهم من لم يدرس من الأساس علوم الدين.
تذكر الفتى، وهو في محنته، قول الله تعالى: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا».. صدق الله العظيم.
تمنى الفتى لو أن الزمن يعود به إلى بداياته ليتبرأ من خطبهم وفتاواهم وأتباعهم، وينجو بنفسه مما آلت إليه.
لم يكن ذلك الفتى وحده الذي دفعه مثوله متهمًا، إلى إعمال عقله، بل كان هناك آخرون من أتباع الشيخ، شاهدوه عبر الفضائيات يُدلي في شهادته، بنقيض ما يقوله لهم في خفاء وخطب حماسية، فقرروا أن ينجوا بأنفسهم ويتبرأوا قبل أن يتبرأ منهم، ولِمَ لا فما استحال على من تورط في جرائم عنف، قريب المنال ممن لم يتورط بعد.
إنها قصة قصيرة من الواقع بتصرف
تُرى هل يتحرك الأزهر الشريف، ومجلسا النواب والشيوخ، لسن قوانين تحكم ضوابط التصدي للدعوة الدينية، والفتوى، تحفظ للعلم والتخصص حقهما، فتنص على الحدود الدنيا من الدراسات الفقهية والشهادات العلمية الواجب بلوغها لمن يتصدى لمخاطبة الجمهور في أمور الدين، داعية أو خطيبًا أو مفتيًا؟!
وهل ستتحرك وزارات التربية والتعليم والتعليم العالي، والثقافة والشباب والرياضة والمؤسسات التعليمية لوضع استراتيجية بناء العقل النقدي لدى الشباب، لتعظيم قدرتهم على فرز ما يتلقونه وتنمية مهارات البحث، فلا يقعون فرائس لدعاة التشدد.
إن جبهة الوعي، أحد أهم ساحات قتال الدولة الجديدة، التي بلغت مصر عتباتها، بما أُنجز في كل المجالات.