عاجل
الأحد 22 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
رحيل رجل عظيم

رحيل رجل عظيم

سبعة وخمسون يومًا مضت، على رحيل رجل عظيم، جاهدت خلالها، لأعيد ترميم نفسي، التي تصدعت بصدمة الفُراق، أحاول مقاومة الحزن، فهو وحش كاسر، يسطو على القلب، ينبش بمخالبه في أركانه، يقتات على ما بها من بذور الأمل.



 

 

 

نعمتا الإيمان والصبر، لو تعلمون عظيمتان، بدونهما يتآكل الإنسان تدريجيًا، مع رحيل كل عزيز لديه. كثيرًا ما كُنت أواسي من تداهمه مصيبة الفقد، بيد أنني لم أكن أشعر بقسوة آلامها، خاصة مع فقد الأب، وقطعًا لا يقل الوجع بفقد الأمهات والأبناء.. تغمد الله الجميع برحمته وأسكنهم فسيح جناته.

 

 

 

في ساعة متأخرة من الليل، خلوت إلى نفسي، وقد انفض المعزون، فإذا بالذاكرة تجتر الذكريات، كأنها مشاهد «الفلاش باك»، شاهدت أبي يجلس ويحمل طفلًا عمره ثلاث سنوات، يروي له قصص الأنبياء، كما جاءت في القرآن بتبسيط شديد.

 

 

 

يتدرج مع النمو العمري، فيحكي ليلة عيد الأضحى، للطفل الذي بات عمره خمس سنوات، قصة سيدنا إبراهيم، الذي حلم بأنه يذبح ابنه إسماعيل، وكيف روى لإسماعيل الرؤيا، فما كان من إسماعيل- الابن البار- إلا أن أطاع أباه، وقال له افعل ما يأمرك به الله، فكافأه الله بأن افتداه بكبش عظيم.

 

 

 

يروي الأب العظيم روايته، للطفل بأسلوب بسيط، يستهدف منه، غرس قيمة طاعة الوالدين، وبرهما في نفس الطفل، وتثقيفه في الوقت ذاته، ليعرف سر الأضحية، ومعنى الحج.

 

 

 

يروي الأب لابنه قصصًا تربوية بدون مبالغات، ولا فلسفات، يغرس قيمًا، يجعل من أفعاله نموذجًا ليطبقه الابن، يُجلس الأب العظيم الابن إلى جواره، ثم ينشغل بالدعاء لأبيه وأمه اللذين رحلا، ويحدث ابنه عن أنه يفعل ذلك برًا بهما، وشكرًا لما قدماه له فهما من ربياه صغيرًا، فيدرك الطفل الرسالة، أبي يفعل أمامي ما يريدني فعله له.

 

 

 

يشاهد الفتى أباه، يُخرج زكاة محاصيل الأرض، قبل أن تبات في مخازنها بمنزله، تحت إلحاح الأم، التي تردد هذا حق الناس، حق الفقراء، يأبيان- رغم عناء اليوم الطويل- إلا أن تخرج زكاة الزرع ليلًا في ستر الظلام، وحتى  لا يبيت المحصول في البيت أول ليلة وحق الفقراء لم يصلهم.

 

 

 

كان أبي يصحبني إلى الحقل، ويحكي كيف يبارك الله في الرزق الحلال، وكيف إذا ما أخرجنا منه لله تزداد بركته، وكيف بدأ حياته عصاميًا. أرى المشهد كما اليوم، وهو يجمع من خيرات الأرض ليوزعها على الأقارب والمستحقين.

 

 

 

كان فخورًا بوطنه، يروي حكايات البطولة، وما شاهده وهو يشارك في حرب اليمن، وحرب الاستنزاف، كيف قضى في الخدمة العسكرية ثماني سنوات، وكيف انتصرت مصر في حرب أكتوبر على المحتل الصهيوني، يحكي عن الشهداء، الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون، فيغرس في نفسي حب الوطن والجيش، والفداء والتضحية.

 

 

 

من حكاياته التي لم تكن تنقطع، كان حلمي أن أكون ضابطًا في جيش مصر، لأقف على ثغور الوطن مدافعًا عنها، وقدر الله أن نقف على ثغور الوعي العام، دفاعًا عن الوطن أيضًا، حاملين سلاح القلم.

 

 

 

يروي كيف كان أمامه فرصة العمل في قناة السويس، بعد انقضاء الخدمة العسكرية، ففضل الحصول على الأرض الزراعية، ليظل في قريته، يروي بعرقه أرضه، مستهدفًا تربية أبنائه السبعة على أفضل ما يكون.

 

 

 

عندما كبرت كنت أسأله: لماذا لم تفعل مثل معظم أهل البلدة، الذين تركوا بعض الأبناء بدون تعليم ليساعدوهم في زراعة الأرض؟ فكان يبتسم ويقول: لماذا أظلم أحدكم، كل أملي أن تتعلموا جميعكم أفضل تعليم، البنات قبل الأولاد.

 

 

 

لا أذكر يومًا أنه عنفني أو أيًا من إخوتي، كان يفخر بذلك دائمًا فيقول: «الحمد لله عمري ما ضربت ابن ولا بنت، ولا زعلتهم، والحمد لله ربنا هاديهم»، فكان يملك موهبة تربوية ربانية، إذا أراد أن يعلمنا شيئًا فيحكي لنا قصة فيها الرسالة، وإذا أراد أن يصرفنا عن شيء يحكي قصة مماثلة من الواقع أو التراث.

 

 

 

يحكي كيف أن التعليم يجعل للفتاة مستقبلًا أفضل، وكيف تُعاني غير المتعلمات، وكيف تمكن الشهادة الجامعية الفتاة من امتلاك سلاح، وفرصة عمل أفضل، ويكون ارتباطها بشخص متعلم بينه وبينها تكافؤ في المستوى الثقافي والعلمي.. من يُدرك معنى هذا الكلام يجب أن يتخيله في بيئة ريفية منذ ٦٠ عامًا. أب لم يتجاوز في دراسته مرحلة التوجيهية، «الابتدائية»، ومع ذلك يكتب بعض الكلمات بالإنجليزية، ويشرح لبناته في المرحلة الثانوية ما يستعصي عليهن من مسائل الرياضيات، ويحسب العمليات الحسابية بدقة الآلة الحاسبة وبسرعة تنافسها، فكان مضربًا للأمثال في جيله. علّم أبي أخواتي اللاتي تكبرنني سنًا، منذ ٥٠ عامًا، وكان يفتخر بتفوقهن.

 

  

 

كان دائمًا حريصًا على تدريبي على تحمل المسؤولية، وأن يكون لي رأي، فكنت قبل أن أعي فلسفته أضجر من سعيه الدائم لأن يشركني في كل كبيرة وصغيرة، يسألني رأيي نزرع الأرض دي إيه؟ وإيه رأيك نبيع المحصول الآن أم ننتظر، وحتى الأمور الكبيرة، والقضايا الجوهرية، فيقول: «بحب أسمع رأيك أنت بتفهم»، وكثيرًا ما كان يأخذ برأيي، كنت أشعر أن أبي يحملني أعباء بإشراكه لي في كل كبيرة وصغيرة، فإذا بي أدرك لاحقًا أنه كان يواصل منهجه التربوي في صقل معرفتي وقدرتي على التفكير واتخاذ القرارات.

 

 

 

أتذكر عندما كنت صغيرًا، ٦ سنوات، وافتتح معهد أزهري بقريتي، استشارني أبي ما رأيك في أن أقدم أوراقك في الأزهر، وتكون بين أول دفعة في المعهد، وجلس يشرح لي أن الأزهر يقبل الطلاب في سن أصغر من التربية والتعليم، ويتيح لي فرصة حفظ القرآن، إلى جانب أن به كليات علمية مثل التربية والتعليم فوافقت.

 

 

 

أحضر لي والدي، رحمه الله، الزي الأزهري، واصطحبني في أول يوم إلى المعهد الذي تم بناؤه حديثًا، وكان حينها يتبرع أحد أبناء القرية بقطعة أرض وتجمع التبرعات، للبناء، فيتبرع البعض بمبالغ للبناء مقابل التعيين، وهذه أكبر الخطايا، فكان يدخل بهذه الطريقة بين المدرسين من هم غير مؤهلين تربويًا، فيؤثر سلبًا على العملية التعليمية.

 

 

 

وكان من حظنا السيئ أن استقبلنا في الأيام الأولى شيخ وقور حافظ لكتاب الله، ولم يحمل شهادات ولا درس علومًا تربوية، فانتهج معنا- رحمه الله- أسلوب الكُتاب، الذي بحسن نية، يراه في صالحنا، وأشهر في وجوهنا «الفلكة»، ليكون مصير من يخطئ فيما يُقرأ على مسامعنا دخول الفلكة: «اعبط يا وله، ويمد على القدمين».

 

 

 

ذلك المشهد أرعبني، فقررت الفرار، ولم أذهب مرة أخرى، وكذلك فعل بعض أقراني طلاب الدفعة الأولى، بهذا المعهد، المنشأ حديثًا، لكن شتان بين أبي وآخرين، فأبي حاورني: ليه عاوز تترك «المعهد الديني»- هكذا كانوا يسمونه- فقلت عاوز أروح المدرسة، وبعد نقاش، قال طيب هنقل ملفك للتربية والتعليم، لكن تنتظم وتذاكر.. وعد؟ قلت حاضر، وأنا سعيد جدًا بأني لن أرى الفلكة مرة أخرى.

 

 

 

وفي أول يوم بالمدرسة- مُستمع لعدم بلوغ السن- ذهب معي أبي وأخبر المعلمين أنني تركت الأزهر لاستخدام العصا معي، داعيًا إياهم للتعامل بلطف كي «نحبب الأبناء في التعليم ولا نرهبهم ونخوفهم»، فكان أن واصلت رحلتي، بينما بعض زملائي بالمعهد الديني ممن هربوا من الفلكة، أصر آباؤهم على إجبارهم على المواصلة، وقالوا للشيخ: «علم واضرب وإن كسرت له ضلع هنكسر له الثاني»، فكانت النتيجة ترك البعض التعليم بالمطلق.

 

 

 

مع كل مرحلة تعليمية يحث أبي إخوتي على مواصلة الدرجة الأعلى، كان يحلم أن نكمل حتى الحصول على درجة الدكتوراه، ويعلن دائمًا استعداده لإنفاق كل ما يملك لنواصل في هذا الطريق، دائمًا كان يؤكد- رحمه الله- أن «الأب لا يريد لأحد أن يكون أفضل منه إلا ابنه، وبالعلم والإصرار يرتقي الإنسان».

 

 

 

لاحظ شيخ المعهد الأزمة، بعد أن ترك الدراسة عدد ليس قليلًا من طلاب الدفعة الأولى بسبب استخدام بعض المشايخ لـ«العصا والفلكة»، فتحسنت الأوضاع، فقدم أبي- فيما بعد- أوراق شقيقيّ هاني وأحمد، وكان دائمًا ما يحفز الدكتور أحمد وهو صغير على حفظ القرآن ويكافئه، ويرفض أن ينشغل بأي شيء آخر حتى ختم بالفعل الدكتور أحمد القرآن وحصل على الماجستير في القانون، يمتلك صوتًا رائعًا.

 

 

 

كان يحلم أن يكون الدكتور أحمد قارئًا، مثل الشيخ محمد الليثي والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، فكان يدربه بأسلوبه التربوي غير المباشر، يستغل أي وقت يسيران فيه أو يجلسان ليقول له: «سمعنا يا شيخ أحمد آيتين»، فيقرأ أحمد بصوته الرائع، يتهلل وجه أبي: «الله يفتح عليك يا مولانا».

 

 

 

كان أبي إذا ما ذكرني في أي مجلس- وأنا ما زلت طالبًا- يقول الأستاذ أيمن، إذا ذكر أحمد يقول الشيخ أحمد، وكذلك إخوتي، وكنا نلومه فأقول له: «يا حاج أنا ابنك أيمن أستاذ إيه بس، فيرد: لا أستاذ أنا بفتخر بكم».

 

 

 

لم يترك- رحمه الله- شيئًا إلا وجعل منه درسًا، كان يدعونا للتأمل في الزرع كيف ينبت من بذره، وينمو وينتهي إلى أن يُحصد، فيقول هكذا الأمم والبشر لنا مراحل طفولة وفتوة، ثم مراحل شيخوخة وضعف، كلنا راحلون، المهم نترك ذكرى طيبة وربنا يحسن ختامنا، يمقت التطرف فالله خلقنا لنعمر الأرض لا لدمارها.

 

 

 

أذكر عندما كان يأتي رمضان، يوقظنا للسحور أول ليلة، ويظل يكرر بصوت عالٍ ليعلمنا دون أن يأمرنا: «نويت صيام شهر رمضان الكريم إيمانًا واحتسابًا لوجه الله الكريم، يا رب قدرنا على صيام شهر رمضان يا كريم»، ينوي الشهر كله من الليلة الأولى، حتى إذا لم نستيقظ ليلة للسحور، النية تكون للشهر كله.

 

 

 

كان محبًا للبسطاء، الذين يعرفهم، وينفر منهم الناس ظنًا منهم أنهم «مجاذيب»، رأيته يدعو من يلتقيه منهم ليتناول معه الطعام، لم يتأفف أبدًا منهم، يحبهم ويحبونه، أحدهم كان لعطفه الدائم عليه يأتي مناديًا «ابده ابده»، فيخرج له مبتسمًا يدعوه للدخول، ليتناول معه الطعام من ذات الطبق.

 

 

 

يوم وفاته، وفي عزائه حضر ١٢ من كبار قراء القرآن الكريم لتقديم العزاء والقراءة، إكرامًا للدكتور أحمد، فإذا بالشيخ أحمد يروي لي وصية سمعها من والده منذ ١٥ عامًا، عندما كان يسير معه بين الحقول في هدوء الليل، طلب منه كعادته يقرأ له بعض الآيات بصوته الجميل، فإذا به يقول له تقرأ لي في عزائي إن شاء الله، وطبعًا كان الرد ربنا يحفظك ويعطيك طول العمر، فقلت له نفذ، أعلم أنه صعب عليك، لكن نفذ ولو لدقائق معدودة، ففعل.

 

 

 

الحاج عبد المجيد محمد، رجل عظيم، رحمه الله، جاهد في الحياة، لتربية سبعة أبناء، علمهم حب الوطن، وحب البسطاء، وحب الخير، لم يدرس في الجامعات علوم التربية، لكنه قدم تجربة تربوية عظيمة صادقة، نسأل الله له الرحمة والمغفرة وجنات النعيم.

 

 

 

كان عبقريًا في توزيع حبه وعطفه على جميع أبنائه، عادلًا في ذلك، تشعر أن كل ابن أو بنت تشغل كل قلبه، واهتمامه، يفخر بالجميع، يضحي من أجل الجميع بأغلى ما يملك ليحقق لهم أحلامهم وأمانيهم.

 

 

 

كان يرى في تربية الأبناء وزواج البنات مهمة حياته، رسالته، مقدمة على الحج، فأجل حجه إلى أن انتهى جميع أبنائه من الحصول على شهاداتهم الجامعية، فحج وعمره ٧٠ عامًا.

 

 

 

هذا المقال ليس هدفه شغل القارئ بأمر شخصي، بل نقل تجربة تربوية، لرجل عظيم، نموذج للأب المصري البسيط الذي، ربى وعلم كأفضل ما تكون التربية، تجربة أنقلها هنا متمنيًا، أن يستفيد منها الآباء والأمهات الشباب وهم يصنعون أجيال المستقبل، في وقت تتخاطف أطفالنا، مواقع التواصل، وتشاركنا تكوينهم وسائل الاتصال الحديث، فتشوه قيمهم وعقولهم، في غفلة منا.

 

 

 

ودعوة للأبناء لاستثمار فرصة تواجد آبائهم وأمهاتهم في الحياة الدنيا، لنيل بركة برهم، ففيها سعادة الدارين الدنيا والباقية.

 

 

 

لا لم يرحل أبي، فهو انتقل إلى دار البقاء، وترك لنا دروسه وثمرة جهده حتى نلقاه على خير إن شاء الله.

 

 

 

عيدكم سعيد، وتحية لأرواح شهداء الوطن، ولأسرهم، بذلوا أرواحهم لننعم بالأمن والأمان، لنربي أبناءنا ونقدم للوطن أجيالًا تبني وتُعمر، فأحسنوا التربية، لأجل مستقبل الوطن وأجياله. فعلموا أبناءكم القيم والأخلاق، ضعوهم نصب أعينكم، وحصنوا عقولهم من اختطاف التطرف والمتطرفين.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز