عاجل
الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

حكاية "ديهيا".. ملكة الأمازيغ بشمال إفريقيا

لعبت الملكة "دِيهيَا" المعروفة في روايات المصادر الكلاسيكية باسم "الكَاهنة" دورًا رمزيًا عبر تاريخ البربر أو الأمازيغ الذين يسكنون مناطق شمال إفريقيا منذ منتصف القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي.



 

وتمثل "ديهيا" نموذجًا للبطولة في مجتمع البربر منذ العصر الوثني، وتحديدًا في بلاد المغرب الأوسط "الجزائر حاليًا".

 

وقد استطاعت الملكة "ديهيا" أن تحقق انتصارات عديدة في ميادين الحروب والقتال، كما عاصرت حقبة الفتوحات الإسلامية المبكرة في شمال إفريقيا، وساهمت في وقف تقدم المسلمين في بلادها لعدة سنوات.

 

وتذكر الروايات أن "ديهيا" استطاعت توحيد أكبر قبائل البربر تحت قيادتها، ومن ثم تمكنت من استعادة معظم الأراضي التي فقدوها من قبل، وكانت تمارس السحر، وتمارس طقوس معينة قبل خوض المعارك الحربية، وحتى يومنا هذا لا تزال ذكرى هذه الملكة باقية في الوجدان، كونها رمز من رموز البطولة النسائية والتضحية في سبيل الوطن.

 

وتعد قلة الدراسات التاريخية عن الملكة "ديهيا" من أهم الصعوبات التي تواجه الباحث، وفي الغالب يأتي الحديث عنها عرضًا من خلال البحث في تاريخ الفتوحات الإسلامية بشمال إفريقيا.

 

نسب الملكة دِيهيا

 

اشتهرت الملك الأمازيغية "ديهيا" (585- 712م) في المصادر التاريخية بـاسم الكاهنة، وعرفت أيضًا بـ"كاهنة البربر"، وهي القائدة التي خلفت "كُسيلة بن لمزم" ملك البربر إبان الفتوحات الإسلامية، ويكتب اسمه أيضًا بفتح الكاف، وقيل أن اسمه كان: "كُسيلة بن كمرم البربري"، والاسم الأول أصح، فهو من رواية ابن عبد الحكم (ت: 256هـ)، وهو من أقدم من تحدث عن فتوح بلاد المغرب في القرون الأولى للإسلام، ومن ثم فروايته تُعد عمدة الروايات التاريخية.

 

وكان "كُسيلة" زعيمًا لقبيلة "أوروبة" (أو الأوروبة) البربرية، ويُقال لها أيضًا: قبيلة "أوروبة البرنسية"، وكان كُسيلة قد أعلن إسلامه وفي الغالب كان يتظاهر باعتناق الإسلام، وكان قبل ذلك مسيحيًا كعقيدة أكثر قبيلته حسب البعض، ومن ثم صار في ركاب قائد المسلمين عقبة بن نافع الفهري.

 

وكان "عقبة" يشعر بكره كسيلة له، وبما يضمره له من الشر وخيانة، وأنه يرغب في قتله، ويرى البعض أنه كان يدعي الإسلام ليتقرب من القادة العرب فحسب، وفي سنة 64هـ/684م تمكن كسيلة من الفرار من قبضة عقبة بن نافع وانضم إلى قبيلته.

 

والبربر أو الأمازيغ هم سكان شمال إفريقيا القدامى قبل قدوم العرب، ولهذا كانت تعرف باسم: "بلاد البربر"، بينما تذكرها بعض المصادر باسم "بلاد بربر"، وربما هذا ما جعل البعض يخلط بينها وبين مدينة "بربر" بشرق إفريقيا.

 

وعن اسم البربر وأصله يذكر الرحالة الوزان (ليو الإفريقي) المتوفى في القرن 10هـ/16م، أنه اسم مشتق من الفعل العربي "بربر"، ومعناه "تمتم"، ويقال أيضًا فيما يخص أصل اسم البربر، إن اللسان الإفريقي يظهر في سمع العرب كأصوات الحيوانات المبهمة، الشبيهة بالصراخ والمجردة من المقاطع.

 

وفي رواية أُخرى فإن أحد الملوك عندما هزمه أعداؤه، هرب إلى أرض مصر، ولم يكن يدري أي الطرق يجب أن يسلكها، فقالوا له: (البر البر)، ويقصدون صحراء بلاد البربر، وقد اختلف في أصل البربر وأنسابهم، فيذكر البعض أن قبائل البربر هم من بقايا نسل حام بن نوح عليه السلام، وقيل أيضًا إن "البربر" في الأصل كانوا من بلاد اليمن، أو من نسل "القبائل الحميرية"، وهم من سكان اليمن القدامى أيضًا، المعرُوفون بـ"عرب قحطان"، أو "عرب الجنوب".

 

وعلى أي حال تؤكد العديد من المصادر التاريخية المعتبرة "الأصل الآسيوي" لقبائل البربر، خاصة أنهم كانوا قد قدموا فيما يُعتقد من أرض فلسطين باعتبارها موطنهم الأول، ويقول ابنُ الفقيه: "وكانت دار البرابرة فلسطين، وملكهم جالوت، فلما قتله داود انتقلت البربر إلى المغرب".

 

ويشير ذلك فيما يرى البعض إلى أن "البربر" ربما كانوا من ذوي الأصول الفينيقية، والفينيقيين Phonecians هم السكان القاطنون عند ساحل بلاد الشام، وهو ما يميل إليه البعض ويرى أن البربر هم مجموعة إثنية (عرقية) Ethinic Group من أصولٍ "أفرو- أسيوية".

 

وبحسب ابن خلدون (ت: 808هـ/1441م)، فإن "ديهيا" (وقد أوردها ابن خلدون: "دهيا" كانت تدعى: "دهيا بنت ابن نيعان (وقيل: تيفان) بن بارو بن مصكسري بن أفرد بن وصيلا بن جراو"، بينما يذكر آخرون أن اسمها هو: ديهيا بنت تابتت بن تيفان، وهو ما يشير أيضًا إلى تباين نسبها في ثنايا المصادر والروايات التاريخية.

 

وعلى أي حال كانت الملكة "ديهيا" من إحدى قبائل البربر، وهي المعروفة باسم"جراو"، وهي من بطون قبيلة زناتة، وهي تلك القبيلة الكبرى التي توصف بأنها أعظم قبائل البربر وأكثرها جموعًا.

 

اعتلاؤها عرش البربر

 

أنجبت ملكة البربر "ديهيا" ثلاثة أبناء ورثوا الرياسة والزعامة، وقيل: كان لها ولدان: الأول يدعى "قويدر"، والثاني "يامين"، ويبدو من خلال الروايات أنها كانت امرأة تتسم بالقوة والذكاء، ولهذا أخذت الحكم لنفسها بعد "كُسيلة"، ويفسر لنا ابن خلدون أسباب ارتقائها لحكم البربر دون أبنائها، وذلك بما كان لها من أمور الكهانة والمعرفة بغيب أحوالهم وعواقب أمورهم، ولهذا انتهت إليها رياستهم.

 

كما تشير المصادر إلى أنه قد دانت لها السيطرة على غالبية شمال إفريقيا في ذلك الوقت، وكان لها معرفة واسعة بعلوم التنجيم والسحر، وبذلك استطاعت أن تقنع قومها بقدرتها على معرفة الغيب بفضل ممارستها السحر والكهانة، وهو ما جعل أكثر البربر يدين لها بالطاعة، ومن ثم اشتهرت بينهم باسم "الكاهنة".

 

وتشير المصادر إلى أن الناس كانوا يهابون هذه المرأة ويخافون من بطشها، وعن ذلك يقول ابن الرقيق (ت: 420هـ): "وجميع من بإفريقية منها (يقصد ديهيا) خائفون والبربر لها مطيعون".

 

وكانت المنطقة التي نشأت فيها الملكة "ديهيا" تعرف بـ"جبال الأوراس"، وهي تقع شرق الجزائر، وهي أرض ليست بعيدة عن مدينة بجاية التي تعتبر واحدة من أهم المدن بشرق الجزائر، والتي تصفها المصادر بأنها (أي بجاية) قاعدة الغرب الأوسط، وهي مدينة عظيمة تقع على ساحل البحر المتوسط.

 

وتعتبر جبال الأوراس من أعلى المناطق الجبلية في شمال إفريقيا، وتعتبر "جبال شيشيا" أعلى القمم بمنطقة الأوراس ويبلغ ارتفاعها حوالي 2328 مترًا، وتقع جبال الأوراس على بعد مرحلة وأكثر من "طبنة"، يقول الإدريسي: "وجبل أوراس منها (أي من طبنة) على مرحلة وزائد.."، وذاعت شهرة المنطقة بأنها ذات طبيعة جبلية، ومن ثم كانت "الأوراس" تتمتع بالقوة والمِنعة، وهو ما شكل حصانة طبيعية لقاطنيها من البربر، ويقول ابن الرقيق: "ولم ير المسلمون أصلب منها، وكانت من نتاج خيل أوراس المُطل عليها..".

 

وتشكل تخوم البلاد التي حكمتها الملكة (الكاهنة) "ديهيا" في أيامنا جزءًا مما يطلق عليها "بلاد المغرب الأوسط" (الجزائر)، وكانت عاصمة مملكتها "ماسكولا"، وهي "خنشلة" حاليًا بمنطقة "الأوراس".

 

ويصف "الإدريسي" (ت: 1165م) جبال الأوراس بقوله: "وجبل أوراس قطعة يقال إنها متصلة من جبل درن المغرب، وهو كاللام (أي مثل حرف اللام في شكله)، محني الأطراف، وطوله نحو 12 يوما، ومياهه كثيرة..".

 

ويُوصف سكان "الأوراس" بأنهم قوم ذوي نخوة وكان لهم تسلط على من جاورهم، وهو ما يبدو جليًا من خلال شخصية الملكة ديهيا ومحاولاتها السيطرة على من جاورها من قبائل البربر.

 

وعن تولي "ديهيا" حكم البربر بعد مقتل "كُسيلة"، يقول ابن خلدون (ت: 808هـ/1405م): "فلما انقضى جمع البربر وقتل كُسيلة، رجعوا إلى هذه الكاهنة بمعتصمها.."، وهو ما يعني أن البربر لم يجدوا فيما بينهم أجدر منها لقيادتهم بعد موت زعيمهم.

 

 

 

 

بطولات ديِهيا

 

تتحدث المصادر التاريخية كثيرًا عن بطولات ملكة البربر (أو الكاهنة) "ديهيا"، وتظهر في صورة المُقاتلة الجسورة، وكذلك تبدو في هيئة المرأة المستبدة والباطشة التي لا تهاب الموت، وهي القائدة التي تقود الرجال من شعبها ضد الأعداء، وذلك على نقيض الصورة النمطية لدى أكثر الشعوب عن المرأة من أنها كائن وديع ولا تميل إلى الحروب والقتال.

 

وكانت أبرز البطولات التي أظهرتها "ديهيا" ضد البيزنطيين، وهم الرومان الشرقيون، وتشير المصادر إلى العديد من صور الصراعات والمواجهات التي جمعت بين قبائل البربر تحت قيادتها من جهة، والجيوش البيزنطية (الروم) من جهة أخرى قبل إتمام الفتح العربي لهذه البلاد.

 

وكانت الجيوش البيزنطية كثيرًا ما تهاجم سواحل المغرب الأوسط (الجزائر)، ومن ثم كانت الملكة "ديهيا" تتصدى لهم، وعلى أي حال فلم تسفر المحاولات الأولى عن إتمام الفتوحات الإسلامية في بلاد المغرب بشكل نهائي ولم تنته إلا بعد المحاولة الثانية حوالي عام 75هـ/694م عندما نجح المسلمون في طرد البيزنطيين من المدن الساحلية التي تقع في شمال إفريقيا.

 

ويتحدث المستشرق كولين مكفيدي عن بعض المواجهات التي وقعت بين المسلمين وسكان هذه البلاد من البربر، وكانت "ديهيا" قد التقت المسلمين تحت قيادة "حسان بن النعمان الغساني" في بعض المواجهات.

 

وتذكر المصادر أنه في سنة 73هـ/692م وإبان ولاية عبد الملك بن مروان (26-86هـ/646-705م)"، جاء حسان بن النعمان بجيش كبير، حتى إن بعض المصادر تذكر: "فلم يدخل إفريقية قط جيش مثله"، ولما جاء حسان إلى "إفريقية" (وهي مدينة القيروان حاليًا)، قال للناس دلوني على أعظم من بقي من ملوك إفريقية، "فدلوه على امرأة تملك البربر تعرف بالكاهنة".

 

يقول ابن عبد الحكم: "فمضى (حسان) في جيشٍ كبير حتى نزل أطرابلس (يقصد طرابلس في ليبيا)، واجتمع إليه بها من كان خرج من إفريقية وأطرابلس".

 

وتذكر المصادر أن مدينة "تبسة" بالجزائر يوجد بها قبر الملكة "ديهيا"، وهي منطقة حصينة وكانت محاطةً بأسوار عالية.

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز