حكايات المُهاجرون العرب إلى شرق إفريقيا
د. صالح محروس محمد
يرجع اتصال العرب الأوائل بساحل شرق إفريقيا إلى عدة قرون قبل الميلاد، وكانت هجرتهم بغرض التجارة وليس الاستيطان، واختلطوا بالأفارقة عن طريق الزواج. وكان العرب أقدم الأمم اتصالا بالجماعات البشرية المقيمة على سواحلها قبل غيرهم من الأمم الأخرى وإن كان هذا الاتصال مقصورًا على التبادل التجاري وتصريف منتجات سكان إفريقيا الشرقية في شتى الأسواق وربط المنطقة بأهم مصادر الإنتاج العالمي في الشرق الأقصى وفي بلاد البحر الأبيض المتوسط، أي أن النشاط التجاري كان أساس العلاقات التي كانت بين العرب وشرق إفريقيا.
وهناك عوامل مهمة جعلت الصلات قوية بين العرب (بالأخص عرب عُمان) وشرق إفريقيا، وهي عوامل طبيعية وبشرية واقتصادية. أما العوامل الطبيعية فتتمثل في البيئة الصحراوية في شبه الجزيرة العربية، ما جعلها عامل طرد نحو البحر سواء في اليمن أو في عُمان. فكان التوجه البحري العماني بسبب طول السواحل العُمانية واحتوائها على عدد كبير من الموانئ الصالحة للملاحة خاصة صحار ومسقط، وأعطت تلك الموانئ لأهلها دور الوساطة في المناطق التي تقع على جانبيها بين سواحل شرق إفريقيا وسواحل المحيط الهندي والخليج العربي. وكذلك قرب المناطق الجنوبية من شبه الجزيرة العربية من شرق إفريقيا ويذكر علماء الجيولوجيا أن إفريقيا والجزيرة العربية كانتا أرضًا واحدة متصلة وانفصلت بسب الانكسارات الأرضية والهزات الأرضية.
وهناك عامل طبيعي آخر، وهو هبوب الرياح الموسمية الشمالية الشرقية (شتوية) التي تهب في الفترة من شهر يناير حتى آخر مارس من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي حيث تدفع هذه الرياح معها المراكب الشراعية من شواطئ شبه الجزيرة العربية والخليج العربي إلى سواحل إفريقيا الشرقية وفي العودة تستفيد هذه السفن من هبوب الرياح الموسمية الجنوبية الغربية (صيفية) التي تهب في الفترة من شهر إبريل وحتى أواخر شهر سبتمبر. وكانت الرحلتان تعرفان باسم داو.(Dhow)
وهناك عامل بشري مهم لقوة العلاقة بين العرب وشرق إفريقيا تتمثل في تفوق العرب (بالأخص عرب عُمان) في ركوب البحر، حيث إنهم عرفوا الانتقال عبر المحيط الهندي بحدوده المترامية عند الهند من ناحية وعند جزر وساحل شرق إفريقيا من ناحية أخرى. وكانت هذه بالتحديد مساحة الاحتكاك الحضاري بين الشعب العُماني على مر الزمان والشعوب القاطنة في هذه الحدود الشرقية والجنوبية والغربية للمحيط الهندي.
وجدير بالذكر أن العامل الاقتصادي المهم الذي يدل على قوة العلاقات بين العرب وشرق إفريقيا هو تجارة المحيط الهندي. وقد اشتهر العرب بالتفوق البحري من قديم الزمان وساعدتهم حركة الرياح الموسمية سالفة الذكر. حيث كان اتجاه العُمانيين إلى ساحل شرق إفريقيا لعلمهم بما لهذه المنطقة من خيرات وفيرة تتمثل في كميات العاج الهائلة والذهب والرقيق والحديد وجلود النمور وأخشاب الصندل والأبنوس والعنبر وأصداف السلاحف وزيت النخيل.
ولقد جلب العُمانيون معهم سلعًا مثل التمر العُماني وكذلك الأقمشة الملونة من الهند والتوابل والأواني المصنوعة من الزجاج من بلاد فارس، ومن هنا نشأت علاقة تجارية قوية عبر المحيط الهندي منذ قبل الميلاد.
يعتقد بعض المؤرخين أن بدايات الهجرة العربية إلى شرق إفريقيا كانت عقب انهيار سد مأرب، حيث دفع هذا الحدث بهجرة العرب دفعًا قويًا نحو الساحل الشرقي لإفريقيا بحثًا عن مأوى ومصدر للرزق خارج شبه الجزيرة العربية حيث القرب الجغرافي والمعرفة السابقة بالساحل. وكان من أشهر القبائل العٌمانية التي هاجرت إلى شرق إفريقيا قبيلة الحارث وقبيلة البروانى وكان لهم نفوذ اقتصادي وسياسي في شرق إفريقيا. ومن أشهر العائلات العمانية التي استوطنت في شرق إفريقيا أسرة البوسعيد في زنجبار وبنو نبهان في بات والمزارعة في ممباسة.
وتكونت إمارات عربية في شرق إفريقيا في العصور الوسطى مثل مقديشو وبراوه وبات ولامو ومالندي وممباسة وكلوه ومدن أخرى وكان حكامها مستقلين وكانت تقوم بينهم حروب أحيانًا ومثّل العرب فيها الطبقة الأرستقراطية.
وازدادت هذه العلاقات قوةً ورسوخًا بعد ظهور الإسلام وكان هناك نشاط للتجار العُمانيين حيث كانوا يجمعون بين التجارة والتعليم فأنشأوا الكتاتيب لتعليم القرآن الكريم وبنوا المساجد لأداء الشعائر الدينية ولتعليم الأفارقة قواعد الإسلام وشعائره الصحيحة. ومع انتشار الإسلام اتسع معه نطاق الملاحة البحرية العربية الإسلامية في المحيط الهندي وكانت الاضطرابات السياسية التي شهدتها الدولة الإسلامية أعقبها العديد من الهجرات العربية إلى إفريقيا.
ومن أهم هذه الهجرات العربية إلى شرق إفريقيا تلك التي خرجت من عُمان خلال الفترة (75-85)ه- (694-704)م بقيادة الأخوين سليمان وسعيد ابني عباد الجلندي من قبيلة الأزد، وهما من شيوخ العرب الذين حكموا عُمان في أيام الدولة الأموية، وثاروا في وجه الخليفة عبد الملك بن مروان، لكنهم فشلوا وتغلبت عليهم قوات الحجاج بن يوسف الثقفي سنة 75ه/649م؛ فهرب سليمان وسعيد مع أنصارهما تاركين وطنهما إلى الساحل الإفريقي. ولا يُعلم تمامًا أين نزلا على البر، ويحتمل أن يكونا قد نزلا في بات Pat في أرخبيل لامو (أمام شواطئ كينيا حاليًا).
وحدثت هجرة عربية أخرى في عهد الدولة الأموية، وهي هجرة الزيدية، عام 122ه- (739)م إلى شرق إفريقيا بعد اضطهاد الأمويين لهم.
وعندما استولى العباسيون على الدولة الإسلامية انتشر الأمويون وأتباعهم في شمال إفريقيا والأندلس، وكان من بينهم عدد لا بأس به وصل إلى الشاطئ الإفريقي عن طريق المحيط الهندي والبحر الأحمر.
ومن الهجرات العُمانية الأخرى هجرة أهل صحار والباطنية، بعد إعلان عُمان إمامتهم الأباضية على أثر حملات العباسيين المستمرة لعُمان لوجود إمامة أباضية مخالفة لهم.
ولعل من أهم الهجرات العربية في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) هجرة الإخوة السبعة من قبيلة الحارث العربية، فقد هبطوا إلى الساحل الشرقي لإفريقيا عند شاطئ البنادر، وامتد نفوذهم حتى جنوب ممباسة. وهم الذين أسسوا مدينة مقديشو وبراوه ومركه. (2) وكذلك هجرة النباهنة وسلطنتهم في بات في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي). (3)
ولقد تدفقت الوفود العربية العُمانية إلى زنجبار وشرق إفريقيا مع السلطان السيد سعيد بن سلطان بعد نقله العاصمة إلى زنجبار عام 1832م، حيث انتقل معه الكثير من العرب بغرض الإقامة وامتلاك الأراضي في زنجبار ويلاحظ أن السيد سعيد شجع أثرياء العرب على الهجرة إلى جزيرتي زنجبار وبمبه وأصبحوا يكونون طبقة أرستقراطية. (4)
وبدأ العُمانيون في عهد السيد سعيد في الاستقرار في زنجبار ثم بدءوا في التوغل إلى الداخل كتجار فأسسوا المراكز التجارية، ومن جهة أخرى أصبح العُمانيون يسيطرون على مساحات واسعة من إفريقيا تمتد من الساحل الشرقي إلى منطقة البحيرات العظمى في وسطها وتشمل الأراضي الواقعة في كينيا وأوغندا وتنجانيقا فكان للعرب دورُ مهم ومؤثر في شرق إفريقيا قبل أن يصل إليها الأوروبيون.
يوجد العديد من الملاحظات المهمة على الهجرات العربية إلى شرق إفريقيا يمكن أن نوجزها فيما يلي:
1- قدم العلاقة بين عرب عُمان وشرق إفريقيا وقوتها بسبب تفوق عُمان بحريًا وقربها من الساحل الإفريقي. 2- زاد الإسلام العلاقة بين عُمان وشرق إفريقيا قوةً ورسوخًا وقام العُمانيون بنشر الإسلام في شرق إفريقيا. وساعد التجار المسلمون على ازدهار التجارة وإنشاء أسواق في شرق إفريقيا. 3- كانت هذه الهجرات تكاد تكون مقصورة على عنصر الرجال دون النساء وهؤلاء الرجال لم تكن تحكمهم عقدة عنصرية فقد تزوجوا من نساء إفريقيات. وكان من أبرز نتائج هذا الاندماج بروز الشعب السواحيلي بلغته المميزة، وقيام مجتمع جديد بعد جيل أو جيلين لم يعد من السهل تمييزه عن السكان المحليين.
4- ترك العرب آثارًا مهمة على منطقة شرق إفريقيا في مختلف مجالات الحياة الثقافية والدينية والاقتصادية والاجتماعية.
الخلاصة أن الإسلام انتشر منذ ظهوره في شرق إفريقيا وأن بعض الأحداث المهمة في الدولة العربية الإسلامية قد أسهمت في وجود هجرات عربية إسلامية إلى شرق إفريقيا وكذلك لم يكن الانتشار في الساحل فقط، بل امتد إلى الداخل، وكان للدور العُماني نصيب الأسد في نشر الإسلام في شرق إفريقيا.
وكان من آثار ما حققه الإسلام من تقدم كبير قبل وصول القوى الاستعمارية أن حل التقويم الإسلامي في أجزاء كبيرة من إفريقيا، ودخلت كلمات عربية كثيرة في عدد من اللغات الإفريقية وتأثر الأفارقة بالثقافة الإسلامية والهندسة المعمارية الإسلامية والألقاب الإسلامية والموسيقى العربية.
ونشأت الثقافة السواحيلية التي هي امتزاج بين ثقافة البانتو والثقافة الإسلامية وكذلك اللغة السواحيلية التي هي اللسان المشترك بين أنحاء شرق إفريقيا، وكان للشعب السواحيلي المسلم دور في نشر الإسلام وكتبوا اللغة السواحيلية بحروف عربية. (4)
ومن الآثار الأخرى في شرق إفريقيا التي هي شاهدة على الوجود العربي والإسلامي تسميات المدن مثل (دار السلام) عاصمة تنزانيا وهي مدينة عربية إسلامية أقامها البوسعيديون وغيرها من المدن.
الأستاذ المساعد الجامعة الإسلامية – بولاية مينيسوتا الأمريكية