عاجل
الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي

حكاية الرُسُوم الصَخَرية.. وأسرارُ التجارة الإفريقية القديمة

رسوم صخرية لمناطق في افريقيا
رسوم صخرية لمناطق في افريقيا

تُشكل "الصحراءُ الكبرى" متحفًا مفتوحًا وكنزًا جيولوجيًا وأثريًا لا يُقدر بثمنٍ عبر امتدادها، حيث تم الكشف عند عدد هائل من الرسوم والنقوش الصخرية في مواقع عديدة.



ومعلوم أن هذه "الصحراء" تعتبر أكبر الصحراوات في العالم، وتضم مناطق شاسعة الامتداد في مناطق شمال إفريقيا، وتبلغ مساحتها حوالي 10 ملايين كم، وتُعادل تقريبًا ثُلث إفريقيا كاملة، ويبلغ امتدادها حوالي 5000كم من البحر الأحمر شرقا وحتى المحيط الأطلنطي غربًا.

وشهدت الصحراء العديد من التغيرات الجيولوجية عبر تاريخها، فكانت تكثر بأراضيها الغابات، ومساحات خضراء هائلة من السافانا، وكانت بها البحيرات والأنهار منذ آلاف السنين، وبسبب التحولات المناخية الحادة التي حدثت بها تحولت لحالتها الجافة، وربما يؤرخ ذلك التحول المناخي بحسب البعض لقرابة ثلاثة آلاف سنة.

 

والمعروف أنه منذ عشرات الملايين من السنين وقبل أن تظهر الصحراء للوجود بتكوينها الجيولوجي والجغرافي الحالي، كانت قارات العالم القديم تكاد تتكون تقريبًا من كتلة يابسة واحدة وكانت إفريقيا في منتصف هذه الكتلة.

وكانت الكتلة الأم تتشكل في حد ذاتها من كتلتين ملتصقتين، ويمكننا أن نميز الواحدة منهما عن الأخرى، حيث كانت "الكتلة الأولى" (واسمها أوراسيا) تضم أوروبا وشمال آسيا  ومناطق أُخرى، أما الثانية فكانت تتكون من إفريقيا وجزيرة العرب وجنوب آسيا وأمريكا الجنوبية، واشُتهرت تلك الأخيرة بـتسمية "جُندوانا"، وقد وقعت عدة انكسارات وتصدعات جيولوجية في هذه الكتل عبر العصور، كان آخرها منذ قرابة 5 ملايين سنة حيث وقعت عدة انكسارات كبرى في مناطق شرق إفريقيا وحدها، ولعل أبرزها الانشقاق الذي أزاح جزيرة العرب عن جندوانا، ومن ثم الانفصال عن إفريقيا ثم ظهور البحر الأحمر ونهر النيل، وخلال تلك المرحلة بدأت تظهر الملامح الجيولوجية للصحراء الكبرى.

الفن الصخري وأهميته في تاريخ الصحراء الكبرى:

يتسم "الفن الصخري" بالعديد من السمات والخصائص التي تميزه عن غيره من أنماط الفنون الأخرى، كما يقدم هذا الفن بمختلف صنوفه وأشكاله أروع صورة للإنسان الذي سكن تلك الصحراء، وأنماط الحياة التي عاشها في تلك البيئة الصحراوية منذ القدم، وتحديدًا منذ "العصر الحجري الحديث" (النيوليثي) وحتى الفترات المتأخرة.

وقد اهتم العلماء باستخدام بعض التنقيات في تحديد عمر الصخور والحفريات، وغيرها بواسطة النظائر المُشعة التي استخدمت في قياس الزمن الجيولوجي، وقد تم ذلك بقياس تحلل "العناصر المُشعة"، وهي العملية التي تحدث بمعدل خطي متوقع، وبذات الطريقة تمكن العلماء من معرفة أن عمر الأرض يرجع لحوالي 4.6 مليار سنة.

ويُعد "الكربون-14" أو الكربون المُشع من أهم تلك الوسائل الحديثة التي استُخدمت لتحديد تاريخ الحفريات القديمة التي ربما يرجع بعضها لمئات الآلاف من السنين، كما استُخدم هذا النوع في تحديد عمر الصخور القديمة أيضًا التي ترجع لآلاف من السنين.

وتؤكد "الدراسات" أنه في حوالي 4000 ق.م كانت نباتات "السافانا" تغطي الصحراء من سفوح "جبال الأطلس" شمال المغرب إلى أقصى الجنوب، وكانت السافانا حلت محل الغابات التي اختفت بسبب موجات الجفاف، وتمتد هذه المرحلة تقريبًا فيما بين 4000 ق.م وحتى 2000 ق.م. لكن تعرضت "الصحراء" للعديد من "التغيرات المناخية" التي جعلتها على هذه الحالة الجافة التي لا تزال عليها في أيامنا.

وتؤرخ بداية "مرحلة الجفاف" التي أصابت الصحراء منذ حوالي الألف 7 ق.م، وهو ما أدى لاختفاء الغابات ذات الأشجار الكثيفة التي كانت تغطي العديد من مناطقها.

وعلى هذا تسببت التغيرات المناخية وقلة الأمطار في انخفاض منسوب مياه الأنهار والبحيرات في "الصحراء"، وزاد هبوب الرياح الجافة على أقاليمها، ويُعتقد أن موجات الجفاف بالصحراء امتدت حتى الألف الأولى ق.م، ومن ثم أخذت الصحراء شكلها الحالي الجاف.

 

نماذج من الرسوم الصخرية في الصحراء الكبرى

 

الرسوم الصخرية وتنوعها:

تُعد "الرسوم الصخرية" من مميزات "التراث الإفريقي" منذ أقدم العصور، إذ تركت الحضارات الإفريقية أعدادًا هائلة من الرسوم التي تُعرف بالفن الصخري Rock Art، وتلك الفنون القديمة تؤرخ لآلاف السنين، وتنقسم بصفة عامة لأنماط متنوعة من الرسوم، والنقوش. وتصور أحوال وانطباعات أصحابها، وتُعبر عما يحيط بهم، وتصور تلك الرسوم حياة الانسان البدائي منذ آلاف السنين. ولندرك مدى ثراء الصحراء بالرسوم والنقوش الصخرية على حد سواء، فإن بعض العلماء يشيرون إلى أنه يمكن القول بأن تلك الرسوم والنقوش الصخرية تبلغ عشرات الآلاف من الرسوم والنقوش القديمة المتنوعة. ويُحدد العلماء الحقبة التي تغطيها الرسوم الصخرية ربما لأكثر من 30 ألف سنة قبل الميلاد.

 

رسوم من موقع أكاكوس في ليبيا

 

ويضم الفن الصخري نوعين: الرسوم والنقوش، وتتنوع المواد التي يتم النقش أو الرسم عليها، ومنها: الكهوف، والحوائط الصخرية، والألواح الصخرية، والعظام، والفخار.. إلخ. كما يصنف العلماء نمطًا من الفنون الصخرية المعروف بالفن الصخري شبه الصحراوي ولعل المقصود به في المناطق الجنوبية من الصحراء لا سيما تلك المناطق التي تقع بالقرب من مناطق السافانا حيث تقل البيئة الصحراوية هناك مقارنة بالمناطق الصحراوية المعروفة في عمق الصحراء على غرار مناطق الهجار وتاسيلي جنوبي الجزائر وليبيا. ومن أبرز تلك المناطق: في "جبل الماندنيغ" (الماندانجو) بمالي، وأرض الدوغون، ومنحنى باولي في غرب إفريقيا حيث تم الكشف هناك على ما يزيد على عشرة كهوف تعج بالرسوم والنقوش الصخرية. وتتميز نقوش هذه المنطقة بجمال ألوانها، وتنوعها، وإن يغلب عليها اللون الأحمر، وتمثل النقوش هناك صورا آدمية، وحيوانات أليفة، وأخرى برية، كما توجد أشكال هندسية، ورموز مختلفة، يرجح البعض أنها تصورا رموزا فكرية أو لغوية.. إلخ. وقد بدأ الكشفُ عن الرسوم الصخرية في شمال إفريقيا، وتحديدًا جنوب "وهران" بالجزائر سنة 1850م، وعُثر على أولى النقوش بوادي البرجوش قرب فزان (ليبيا). وفي سنة 1958م، قام "هنري لوت" بالكشف عن مجموعة من الرسوم القديمة تُصور رجالًا ونساء، كما تصور حيوانات، ومناظر لأُناس يقومون بالرعي، وتظهر مناظر الحروب والصراعات البدائية.

 

 

الإرهاصات الأولى لتجارة القوافل:

يُقسم العلماء الرسوم الصخرية بالصحراء الكبرى لعدة مراحل زمنية، وجيولوجية قديمة، وكل مرحلة تتسم بخصائص تميزها عن الأخرى، وكل منها تتميز بانتشار أنواع معينة من الحيوانات، ومن ثم أطلق في الغالب على كل مرحلة أسماء الحيوانات التي تميز تلك المرحلة عن الأخرى. ولا شك أن تأريخ الرسوم والنقوش الصخرية من الأمور العسيرة على البلوغ بشكل أو بآخر، ولفهم هذا النوع من الفن العتيق، قسمها العلماء لعدة مراحل يقول روبير فيرني: "ومع أن التأريخ الدقيق لهذه اللوحات صعب للغاية، فإن تصنيفها على أساس معايير زمنية، وأسلوبية (فنية) أصبح مسلمًا به لدى جل الباحثين (لوت، هوجو، دوبوي، بايود)، ويمكن تمييز تلك المراحل بحسب المتخصصين في الفن الصخري على هذا النحو:

 

مرحلة الحيوانات المتوحشة:

تشكل "المرحلة البدائية" من الرسوم الصخرية، بسبب انتشار أنواع من الحيوانات البدائية المتوحشة، وهي مرحلة تؤرخ بحسب البعض من الناحية الزمنية إلى حوالي 10 آلاف سنة ق.م.

 

مرحلة رعاة البقر:

تسمى هذه المرحلة أيضًا: "عصر الثيران"، وتمتد لما بين الألف 5-4 ق.م، وكان إنسان الصحراء يعتمد آنذاك على جمع الحبوب، وصيد الحيوانات، والطيور، وصيد الأسماك. وهي مرحلة تتميز بكثرة وجود رسوم ونقوش رعي الأبقار، وتربيتها والتي يحدد البعض هذه المرحلة بحوالي الألف السادس قبل الميلاد.

 

عصر الخيول في الفن الصخري:

تبدأ هذه المرحلة من تاريخ الصحراء بعد منتصف الألف الثانية ق.م، ومعلوم أن الخيول دخلت إفريقيا عن طريق مصر، قادمة من أراضي آسيا. وكانت مصر من أقدم بلاد إفريقيا التي عرفت الخيول، كما عرفت العجلات الحربية منذ نحو ألفي سنة ق.م. وتعج جدران المعابد المصرية القديمة بالخيول التي تجر العجلات الحربية التي يقودها الفراعنة، وكذلك الجنود في مواجهة الأعداء. وخلال "العصر الفينيقي" (بعد تأسيس قرطاج) في شمال إفريقيا، كان "الجرميون" وهم سكان فزان بليبيا يحملون لسكان سواحل البحر المتوسط الريش، وبيض النعام والرقيق من جنوب الصحراء. وكان اجتياز الصحراء آنذاك بواسطة الخيول والثيران والحمير، لأن الإبل لم تكن عرفت في الصحراء. ولا ريب أن استخدام الخيول وظهورها في الصحراء يعد بمثابة الإرهاصات المبكرة لقوافل الصحراء، وكان ذلك باستخدام الخيول في الانتقال من شمال الصحراء لجنوبها حيث أسواق مالي ونيجيريا، وغيرها. وتتميز هذه المرحلة بظهور "الخيول" التي تجر العربات ذات العجلات على الصخور الصحراوية.

 

 

 

رسوم صخرية بالجزائر تصور عربات تجرها الخيول في الصحراء

 

 

ظهور الإبل في شمال إفريقيا وازدهار التجارة الصحراوية قبل الإسلام:

تلك هي المرحلة الأهم لنشأة التجارة الصحراوية الحقيقية، ومن ثم ازدهارها، لا سيما بعد وقوع التغيرات المناخية الكبرى في الصحراء، وتحولها من وجود الغابات والسافانا إلى الشكل الصحراوي الحالي. وعلى هذا يشكل ظهور الإبل نقلة تاريخية نوعية في حركة القوافل التجارية بين شمال إفريقيا، وسكان جنوب الصحراء، وتعتبر أراضي آسيا "الموطن الأول" للإبل لا سيما في "جزيرة العرب" موطن القبائل والبطون العربية منذ القدم. ويشير العلماء إلى أن هذه الطفرة ترجع لنحو القرون الأولى الميلادية، ويعتقد أن عرب باليمن، هم الذين نقلوا لشرق إفريقيا ومصر الخيول والإبل بفضل الجوار الجغرافي. أما الإبل وصلت في الغالب لمناطق الصحراء وشمال إفريقيا عن طريق مصر والتي عرفت الإبل منذ عدة قرون قبل الميلاد. ولا شك أن ارتباط مصر وجزيرة العرب عن طريق البحر سهل العديد من الهجرات العربية لمصر منذ القرون الأولى للميلاد على أقل تقدير، وهو ما يبدو جليًا في الوجود العربي القديم في بلاد البجة شرق مصر. وإبان تلك الحقبة وقعت على الراجح عملية "التصحر" في مناطق الشمال الإفريقي بسبب التغيرات المناخية التي حدثت في الصحراء الكبرى، ومن ثم أقبل سكان الصحراء على استخدام الإبل بدلا من استعمال الخيول، لا سيما أن الإبل وطبيعتها كانت تناسب طبيعة الصحراء الكبرى الجافة، وهو ما يبدو جليا من خلال الرسوم والنقوش الصخرية.

 

ولا شك أن ظهور الإبل شكّل مرحلة تاريخية جديدة في تاريخ شمال إفريقيا من جانب، ومناطق جنوب الصحراء من جانب آخر. ومع بروز دور الإبل في مناطق الصحراء بعد حدوث فترة "الجفاف الكبرى"، بدت أهمية التجارة الصحراوية وضرورتها لسكان شمال إفريقيا وسكان جنوب الصحراء. ولعل ذلك يؤرخ، في رأي الباحث، لحوالي القرون الميلادية الأولى، ولذا نرى العديد من الرسوم والنقوش التي تصور الإبل فيما يشبه القوافل التجارية الصحراوية. ولا ريب أنه قبل فترة "الجفاف الكبرى" لم يكن سكان شمال إفريقيا بحاجة كبيرة لجنوب الصحراء ومناطق السافانا حيث كان الغطاء النباتي والزراعة تقدم لأكثر سكان شمال إفريقيا ما كانوا يحتاجون له من الطعام وغير ذلك من المنتجات الضرورية. ويذهب البعضُ إلى أن الجماعات التي سكنت الصحراء تطورت في جزء منها لمجتمعات التجار المحاربين، ومن ثم استخدامهم لرؤوس الماشية في عملية التبادل التجاري. ولا ريب أن التجارة الصحراوية، وحركة القوافل لعبت دورًا اقتصاديًا مهمًا في ازدهار الممالك الإفريقية جنوب الصحراء، لا سيما مع شهرة غرب إفريقيا بالذهب، ومن ثم عرفت بـ"تجارة الملح والذهب". وتصور بعض الرسوم قوافل تجارية تعبر الصحراء، وهو ما يعني أن التجارة كانت معروفة منذ القدم، وازدهرت بشكل أو بآخر قبل الإسلام، وهو افتراضٌ يمكنه أن يعيد فهم التدوين والتحقيب التاريخي للصحراء.

 

 

رسوم صخرية في جبال تاسيلي جنوب الجزائر تصور قافلة تجارية من الإبل

 

ويؤيد ازدهار التجارة عبر الصحراء قبل الإسلام أن الفينيقيين، وهم مشهورون بالتجارة، لما سيطروا على شمال إفريقيا، وكونوا مملكة قرطاج (تونس)، فكان لهم علاقات تجارية مع البربر القاطنين بالصحراء، واستفادوا من تطور الزراعة في مناطق الصحراء الشمالية، وهو ما ساهم في ازدهار الحركة التجارية التي قاموا بها بعد ذلك في الصحراء. ومع قدوم الإبل إلى شمال إفريقيا صارت الإبل هي الوسيلة الأثيرة لسكان الصحراء بهدف الذهاب إلى أسواق الجنوب. ويصف هيرودوت التجارة الصحراوية في أيامه بأنها مدهشة في عناصرها، وذلك بسبب طبيعة اختلاف البيئة بين شمال وجنوب الصحراء، وكذلك لاختلاف نمط الحياة الذي يميز بين سكان الشمال والجنوب. ومنذ العصور القديمة كانت الصادرات الرئيسية التي يحصل عليها تجار شمال إفريقيا تتمثل في الذهب والرقيق والعاج وريش النعام والجلود، أم السلع القادمة من الشمال فكانت الملح الذي لا يوجد بكثرة في غرب إفريقيا، وغيره من المنتجات. وقد لاحظ العلماء وجود العديد من التأثيرات الفنية المصرية وانتشار بعض الحرف المرتبطة بالصناعات المعدنية في مناطق غرب إفريقيا منذ أقدم العصور، من أبرزها ما كشف عنه في أراضي نيجيريا، حيث ظهرت ممالك بلاد الهوسا.

ومن الراجح أن تلك العلاقات التجارية بين الشمال والجنوب ظلت قائمة منذ كانت الظروف المناخية الرطبة في الألف السادسة أو الخامسة قبل الميلاد هي السائدة، حيث كانت الصحراء تمثل منطقة عشبية هائلة، ما جذب إليها جماعات من سكان جنوب الصحراء ذوي الأصل الزنجي، ثم استقروا في وسط الصحراء.

 

كلية الآداب - الجامعة الإسلامية بولاية مينيسوتا

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز