عاجل
الأربعاء 14 أغسطس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي

حكاية هرم السلطان أسكيا محمد بمدينة "جاو" في مالي!

قبر السلطان أسكيا محمد وهو على ذات طراز الأهرامات المصرية
قبر السلطان أسكيا محمد وهو على ذات طراز الأهرامات المصرية

يُمثل قبر "أسكيا محمد" (899-935هـ) سلطان صنغي (في مالي حاليا) طرازًا معماريًا فريدًا، حيث يضم مزيجًا من تقاليد العمارة المصرية القديمة، وهو "الشكل الهرمي" المعروف، وكذلك تقاليد العمارة الإفريقية التقليدية في آنٍ واحد، وهو من أسباب خصوصية هذا القبر العجيب.



وعن هذا القبر وأسباب بنائه على "الطراز الهرمي" المصري يقول أحد الباحثين: "إنه خلال رحلة أسكيا محمد للحج في مكة.. شاهد الأهرامات (بالقاهرة) وانبهر بها، ومن ثم قرر أن يشيد قبرًا على غرارها ليدفن به..". ومن هنا يبدو لنا التأثير المصري واضحًا في بناء هذا القبر.

ولا ريب أن "الطراز الهرمي" القديم الذي شاده ملوك مصر يحمل في طياته العديد من الرموز والدلالات الدينية واللاهوتية بحسب معتقدهم، لا سيما من خلال إيمان المصريين القدماء بعقيدة الخلود والأبدية، ومن ثم رغبتهم في وضع أجساد ملوكهم في بناء ضخم (على غرار الهرم) لحمايته.

وعلى أي حال يرجع بناءُ أول هرم بمصر القديمة لأيام "الأسرة الثالثة"، بناه الملك "زوسر" Zoser(2667-2648ق.م)، وأشرف على بنائه الوزير "إيمحتب" Imhotep وهو يُعرف بـ"الهرم المدرج" Step-Pyramid، وهو بناءٌ مُشيدٌ على طراز "المصطبة"، حيث وُضعت عدة مصاطب حجرية الواحدة فوق الأخرى.

 

 

صورة تظهر قبر السلطان أسكيا محمد بمدينة جاو

 

وتبدو مكانة القاهرة جليةً آنذاك من خلال روايات المؤرخين والرحالة المسلمين الذين زاروها، لا سيما أيام المماليك، ولعل من أبرز ما ورد في ذلك الشأن ما يذكره ابن خلدون (ت: 808هـ) لما وطأت قدمه القاهرة للمرة الأولى. وغير بعيد أن هرم خوفو" هو مما أبهر أسكيا محمد (ملك التكرور) لما ذهب لرؤية الأهرامات في الصحراء غرب القاهرة.

 

صورة تظهر قبر الملك زوسر المعروف بالهرم المدرج

وهنا يمكن المقارنة بشكل أو بآخر بين الطراز المعماري للأهرامات

وقبر أسكيا محمد

 

ويُعتقد أن السلطان الإفريقي "أسكيا محمد" انبهر في ذات الآن بوجود أهرامات أخرى ضخمة بجوار الهرم الأكبر في هضبة الجيزة، ولعل منها أهرامات سقارة وأبو صير جنوب القاهرة، وهو ما زاد من إعجابه بهذا الشكل المعماري الفريد.

ولا ريب أنه تولدت لديه ثمة رغبةٌ مُلحة في أن يُشيد له المهندسون قبرًا على غرار "الطراز الهرمي" المُبهر الذي كان قد شاهده بأرض مصر، وإن كان يعلم- في ذات الآن- أنه ليس بالإمكان مُحاكاة أهرامات الفراعنة القديمة كما هي، لا في ضخامتها ولا روعة تصميمها.

ثم أحضر السلطان "أسكيا محمد" معه خلال عودته من رحلة الحج مهندسًا معماريًا من بلاد الأندلس Architecte Andalou، ليقوم بالإشراف على بناء قبره الذي يحلم به، ثم جمع لبناء هذا القبر مئات من المعماريين، والبنائين، والعمال المحليين لا سيما من منطقة تدعى: "ماسينا" Macina التي تقع بالقرب من دلتا نهر النيجر (في نيجيريا حاليًا)، ثم عين السلطان أسكيا محمد المعماري الأندلسي ليشرف على أعمال البناء بالطريقة التي يريدها.

 

 

 

هرم الملك سنفرو في دهشور (جنوب بحوالي سقارة 10 كم)، المعروف بـ"الهرم المُنكسر"، ويحمل الكثير من التشابه مع قبر السلطان أسكيا محمد في جاو

 

وقيل إن أكثر من مائة عامل وبنَّاء Macons أحضرهم السلطان من مدينة "ماسينا" ليبنوا قبره، وفيما يبدو أن بنائي تلك المنطقة كانت لهم شهرة ومهارة في البناء في عموم غرب إفريقيا.

ويرى بعضُ الدارسين أن قبر السلطان أسكيا محمد يشهدُ بجلاء على حلقات التواصل الإبداعية والتأثير والتأثر الحضاري بين كل من شعب صنغي والعرب والبربر من جانب، وكذلك التأثيرات المعمارية المصرية القديمة على بلاد السودان الغربي من جانب آخر.

ونظرا لأهمية هذا القبر كان يقام بجواره العديد من الاحتفالات والمناسبات الدينية المهمة لا سيما في الساحة الكبرى المجاورة له، كما كانت تقام هناك صلاة الجمعة وحفلات الزواج، وإحياء عيد الاستقلال. وعلى هذا فليس من المُستغرب أن يوصف قبر أسكيا- بحسب البعض- بأنه من أهم المواقع التاريخية والأثرية في مالي حاليًا رغم مرور مئات السنين على تشييده.

 

ويُعتبر قبر السلطان "أسكيا محمد" جزءًا من "مجموعة معمارية" Architectural Complex، ولهذا يُطلق عليه تسمية "الهرم المركزي" Pyramide Centrale، أو "القبر الهرمي" المركزي. وربما أطلق البعض تلك التسمية على اعتبار أن ذلك "القبر الهرمي" هو بمثابة البناء الرئيس داخل هذه "المجموعة المعمارية"، ومن ثم فهو يقع في موضع مركز داخل هذه المجموعة، هذا رغم وجود جبانة أخرى ملحقة بها.

ويلاحظ أن هذا "البرج الهرمي" هو أعلى بناء في المنطقة التي شيد بها، وكان هذا الموقع المجاور للقبر يُستخدم في إقامة صلاة الجماعة لسكان "جاو"، وكان يأتيه السكان القاطنون في القرى التي تحيط بها.

 

 

صورة تظهر المجموعة المعمارية للسلطان أسكيا محمد  

وفي منتصفها قبره الهرمي في جاو

 

 

وتتميز العمارةُ التقليدية في الممالك الإسلامية في غرب إفريقيا بالبساطة الشديدة بصفة عامة، ومن ثمة توافقها بشكل أو بآخر مع البيئة الإفريقية المحلية، ولهذا كان يعتمد السكان المحليون في أكثر ممالك السودان الغربي (أي: غرب إفريقيا) في بناء ما يريدون من منشآت معمارية مثل البيوت والمساجد.. الخ على الطين (اللبن) Mud–Building Tradition كمادة رئيسية في البناء. ولعبت هذه "المجموعة المعمارية"- لا سيما المسجد والقبر الواقعان في وسط الفناء (الميدان)- دورًا مهمًا في المناسبات الإسلامية بمدينة "جاو"، وقد كان السلطان "أسكيا محمد" يستخدم هذا الموضع للصلاة خاصة الصلوات الجامعة، ولهذا كان يُطلق عليه اسم "مسجد أسكيا" Askia djira.

 

ويتمتع قبر السلطان "أسكيا محمد" بحسب البعض بقداسة كبيرة بين السكان المحليين، ولعل ذلك من تأثيرات "الفكر الصوفي" المنتشر في هذه البلاد، بالتبرك والتوسل بقبور الأولياء، والصالحين وغيرهم، وهي أمور ينكرها الدين. وعن ذلك الأمر تذكر "الموسوعة البريطانية" Encyclopedia Britanica: "لقد دُفن أسكيا بمدينة جاو، ويُعتبر قبره الذي لا يزال قائمًا حتى اليوم واحدًا من أكثر البقاع الإسلامية قداسة في كل بلاد غرب إفريقيا. وجدير بالذكر أنه أطلق على تلك "المجموعة المعمارية" اسم: "مسجد أسكيا"، وهي تعتبر بمثابة التسمية المُفضلة لغالبية السكان المحليين بمدينة "جاو"، أما فيما يخص تسمية "قبر أسكيا" Tombeau d’ Askia فهي تسميةٌ حديثة ترجع لبدايات ما يعرف بـ"الحقبة الاستعمارية"La Periode Coloniale  خلال حقبة القرن 9هـ/ 15م.

 

القبر الهرمي للسلطان أسكيا محمد:

يمكن القولُ بأن قبر السلطان "أسكيا محمد" يتوافق مع البيئة الإفريقية المحلية التي عاش فيها هذا السلطان الإفريقي ذائع الصيت، كما يُشكل هذا القبر- بشكل واضح لا جدال فيه- أحد نماذج تأثيرات العمارة المصرية، ومظاهرها، التي كانت قد ذاعت في مناطق غرب إفريقيا، وعلى هذا فإن عمارة هذا القبر تصور مزيجًا معماريًا وأثريًا فريدًا بين من الفن المصري القديم، والفن الإفريقي التقليدي بسماته المحلية التقليدية، فهذا القبر، يشبه لحد كبير "المصاطب" Mastaba المصرية القديمة، وكذلك ما يُعرف بالأهرامات ذات "الطراز المدرج" مثل أهرامات سقارة، إذ إن قبر أسكيا محمد هو أقرب لها من ناحية بساطة التصميم المعماري، وكذلك الحجم أكثر من الأهرامات الأخرى ذات الحجم الضخم كالتي في هضبة الجيزة، فهذه الأخيرة أكثر تعقيدًا من الناحية المعمارية والهندسية. وعلى أي حال يتميز قبر أسكيا محمد بأنه بناءٌ مشيدٌ من الطوب اللبن، وهو مغطى أيضًا بطبقة من الطين على عادة المنشآت والمباني المعمارية التي كان يشيدها أهل تلك البلاد.

 

وتذكر بعض الروايات أن السلطان "أسكيا محمد" كان قد أحضر معه من مكة مجموعة من الكتل الحجرية ذات ألوان بيضاء، حتى تكون بمثابة الأساس الذي سوف يبنى عليه القبر ذو الطراز الهرمي. وتذكر الروايات أيضًا أن إحدى هذه الكتل كان قد وقع في موضع ما من البناء، ولم يستطع العمال والبناؤون أن يرفعوه من الموضع الذي سقط فيه، ويقال إن "أسكيا محمد" قال عن ذلك إنها علامةٌ من الله، وهي إشارةٌ لبركة هذا الموضع الذي صار بعد ذلك مكانًا تأتي إليه جموع الناس للدعاء عنده اعتقادًا في بركته.

 

ويتسم قبر "أسكيا محمد"، والواجهة الشرقية لـ"مسجد الرجال" بوجود "الأوتاد الخشبية"، وتلك "الأوتاد" كانت تشتهر بها المساجد في غرب إفريقيا منذ القدم، وقد ظل هذا التقليد المعماري حتى اليوم، وتلك "الأوتاد" كانت تستخدم باعتبارها "سقالات" يمكنها أن تساعد العمال والبنائين على أن يصعدوا لأعلى البناء خلال الأعمال الخاصة بصيانة قبر السلطان أسكيا محمد، أو صيانة المساجد الأخرى تي تقع بجوار القبر، كما يمكن القول بأن هذه الكتل الخشبية كانت لها أهمية معمارية أخرى أنها كانت تشكل دعامات خاصة بهذه المجموعة المعمارية.

 

الوصف المعماري لقبر أسكيا محمد:

رغم أن "أسكيا محمد" كان قد انبهر بعمارة الأهرامات المصرية، وضخامتها، كذلك طرازها المعماري الفريد، ومن ثم راودته فكرة تقليد بناء تلك الأهرامات بشكل أكثر بساطة يتوافق مع الإمكانيات المتاحة لها، غير أنه وللحق فالبون شاسع بين أهرامات الملوك المصريين، وبين القبر الهرمي، أو ما يقال له "البرج الهرمي" الخاص بـ"ملك التكرور" من ناحية التفاصيل المعمارية، وكذا بحسب الطراز المعماري، والدقة الهندسية والمعمارية التي شيد بها هذان الطرازان. ويكفي أن نقول إن هرم خوفو بالجيزة (ارتفاعه الحالي أكثر من 138م) يزيد ارتفاعه عن قبر أسكيا الهرمي بأكثر من 70 مرة.

 

ومن حيث المقاييس المعمارية، فإن قبر أسكيا محمد يبلغ ارتفاعه حوالي 17م، وحوالي 15م على الجانبين الشرقي والغربي، وحوالي 12م عند الجانبين الشمالي والجنوبي، وهذا القبر يقع بين المباني التي تؤدي إلى مسجدي هذه المجموعة المعمارية، وكان أحدهما خاصا بالرجال، والآخر للنساء. ومن الملاحظ أيضا أنه يوجد سلم يبدأ من الركن الشرقي، ثم ينتهي في ناحية الغرب، ويؤدي هذا السلم إلى القمة، أي يفضي بدوره إلى الجزء العلوي من القبر الهرمي، ويتم ذلك عبر أحد الممرات التي تؤدي للمدخل الداخلي لهذا القبر، حيث توجد هناك ما يُطلق عليها "غرفة الدفن" الخاصة بالسلطان أسكيا محمد.

 

مسجدا المجموعة المعمارية:

تضم هذه المجموعة المعمارية بجانب هذا "القبر الهرمي" (أو البرج الهرمي) "مسجدين" أحدهما للرجال، والمسجد الآخر كان مخصصا للنساء، وهذان المسجدان مشيدان على طراز معمار يبدو في منتهى البساطة، وهذا الطراز المعماري يتميز بوجود "سقف مسطح" Flat Roofed Mosque. وهذان المسجدان آنفا الذكر عبارة عن بنائين شيدا في شكل مستطيل، ويقع كلاهما ناحية الشرق والغرب من "البرج الهرمي"، ويربط بين هذين المسجدين بواسطة سور، وكل ذلك يشكل بدوره الفناء الذي يحيط بـ"القبر الهرمي".

 

 

Description: download (1)

 صورة تظهر قبر أسكيا محمد الهرمي في جاو

 

أما "البناء الشرقي" الخاص بتلك المجموعة المعمارية، وهو الذي يقع ناحية الطرف الشرقي من "القبر الهرمي"، حيث توجد المساحة المخصصة لصلاة بالرجال، وهو المعروف بـ"مسجد الرجال" (أو مُصلى الرجال)، وهو بناء مستطيل الشكل، ويتجه صوب الشمال الجنوب، ويبلغ امتداده حوالي 50 مترا في 15 مترا. بينما في "الركن الشرقي" منه، يوجد "المحراب" mihrab الخاص بالمسجد، أما السقف فهو مشيد من مجموعة من الكتل الخشبية المصنوعة من جذوع النخيل، وتدعمها قرابة 69 عمودًا، وقد تم وضع تلك العمدان في سبعة صفوف، منها أربعة صفوف أصلية، وتلك الصفوف تبدو موضوعة في شكل غير منتظم.

 

وأما الثلاثة صفوف الأخرى، فهي حديثة البناء، غير أنها تبدو من جانب آخر مُشيدة بشكل أكثر تنسيقًا مقارنة بالصفوف الأخرى. أما فيما يخص "مسجد النساء"، أو "مُصلى النساء"، وهو البناء الموجود داخل مجموعة القبر الهرمي، فهو عبارة عن مبنى ذي شكل مستطيل، وهو يقع في الركن الغربي، وهو بناء مشيد على ذات الطراز المعماري على غرار "مسجد الرجال"، وهو يتكون من صفين.

 

 

قبر أسكيا محمد في جاو

 

ويحرص أهلُ البلاد على زيارة القبر، لأنه يحمل لهم الكثير من ذكريات العظمة، وعبق المجد الغابر. ويُشكل قبر أسكيا محمد بناءً مميزًا داخل "مجموعة معمارية" تضم العديد من المباني، والتي تُظهر في حد ذاتها نمطًا، وطرازًا غير مسبوق من طُرز العمارة الإفريقية في العصر الوسيط، إضافة لبعض التأثيرات الوافدة من خارج هذه البلاد. ولا ريب أنه بعد عودة أسكيا محمد من رحلة الحج، صار ملك التكرور مُتشبعًا بالتقاليد العربية الإسلامية، ومن ثم جعل السلطان أسكيا محمد الإسلام دينًا رسميًا للإمبراطورية التي كان يحكمها، والتي كانت تُسيطر على أكثر أراضي غرب إفريقيا. ورغم ذلك، إلا أنه اتخذ لنفسه قبرًا ذي طراز هرمي على غرار أهرامات الفراعنة المصريين، وهو أمرٌ لا يزال يُشكل لغُزًا أمام الباحثين.

 

 

كلية الآداب - الجامعة الإسلامية بولاية مينيسوتا

 

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز