بمناسبة الضجة المثارة حول الطفل المنفلت أخلاقيًا، الثابت بالتحاليل تعاطيه المخدرات، والشهير بفيديوهات تعديه على رجال المرور، وأشياء أخرى تدل على خلل في التربية، أدى إلى الشذوذ السلوكي والأخلاقي، وربما العقلي.
وأتذكر أننا نشأنا منذ نعومة أظفارنا على أن التربية أهم من التعليم، وكان الوالدان– عليهما من الله الرحمات– يؤكدان هذا المعنى، ويستدلان بأن التربية جاءت قبل التعليم، في تسمية الوزارة المسؤولة عن مراحل التعليم قبل الجامعي، فكانت المدارس بالفعل تساعد مع البيت في التربية والتنشئة على الأخلاق الحميدة، وكذلك كانت الإذاعة والتليفزيون، بل السينما أحيانًا والدراما تبث في نفوس المستمعين والمشاهدين قيما جميلة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
ولا أنسى ما حييت عبارة قالها والدي– يرحمه الله– لمدرس ذهب يشكو له من شقاوتي في الفصل، فإذا به يقول له أمامي: "اكسر وأنا أجبس"، فأيقنت أن المدرس من حقه كسر عظامي، ووالدي لن يعترض بل سيكتفي بوضع كسري في الجبس. هكذا كانت العلاقة بين الأستاذ والتلميذ وولي الأمر، ولم نكن نسمع عن ولي أمر جاء للمدرسة متطاولًا على أحد المدرسين لقيامه بعقاب الابن أو الابنة، بل كان حضوره تأكيدًا لاحترام المعلم ووضعه في مقام الوالدين، وأن له حق التربية قبل التعليم. ولما نخرت الدروس الخصوصية في أوصال العملية التعليمية، وصار المدرس يمد يده لأخذ الأجرة من التلميذ سقط جدار الخوف ومعه سقطت هيبة المدرس، ومع الوقت سقط أيضًا احترامه.
وما زلنا نجني الثمار المرة لانهيار العلاقة بين الأستاذ وتلميذه وأولياء الأمور، وتخلى المدرس عن الدور التربوي خشية تعرضه للسفالة من التلميذ نفسه أو من أحد أولياء أموره، بعد أن صار أمرًا طبيعيًا أن يتطاول ولي الأمر على المدرس والناظر أمام التلاميذ، وربما تطور الأمر من الاعتداء اللفظي إلى الاعتداء الجسدي، فماذا تبقى للمدرس من هيبة واحترام في نفوس الطلاب.
أعتقد أن الأوان قد آن لمواجهة الانحدار الذي وصلنا إليه في منظومتنا التربوية، والعيب كل العيب في الاستمرار بتوريث التربية الخاطئة والتعليم الخاطئ من جيل إلى جيل بين يدي أب مفاهيمه خاطئة، فهو سابقًا كان ذلك الطالب بين يدي معلم مفاهيمه أيضًا خاطئة في منظومة اللا تربية ولا تعليم.
لا بد أن تأتي التربية دائما في المقام الأول للنشء الجديد والأطفال، فمن السهل تعليم الطفل ولكن تبقى التربية والأخلاق والمبادئ هي الأصعب والأهم، فزرع المبدأ والأخلاق في الطفل يأتي بالمواقف والتقويم والمحاولة الشاقة ودور المدرسة التربية قبل التعليم مع الأسرة، وعدم ترك الطفل يفعل السلوك الذي يحلو له ما دام متفوقًا دراسيًا، والاعتماد فقط على نشاطه التعليمي ونهمل الجانب الأخلاقي، فالتعليم بلا تربية لا فائدة منه، بل إن التربية تأتي أولًا والأخلاق تأتي أولًا، ثم يأتي بعد ذلك العلم، على اعتبار أن العمليتين مرتبطتان ارتباطا وثيقا، وأن إحداهما لا تغني عن الأخرى، بل ربما حسن الأخلاق يشفع لصاحبه قلة علمه أو تدني مستواه التعليمي، وليس العكس، فالتربية أساس للحياة المجتمعية والعملية والتعليم دون تربية لا يغني ولا يثمر، فلا بد أن تعود المدارس للعمل على تعديل سلوك الطلبة خلال الحصص الدراسية فهي تكمل عمل الوالدين في التربية، وفى ظل انشغال الوالدين عن الدور التربوي بالسعي على توفير ضرورات الحياة، يصبح الدور الأكبر على المدرسة والجامعة ودور العيادة ووسائل الاتصال جميعها بما فيها وسائل الإعلام المختلفة.
وفي ظل وباء كورونا والتحول إلى التعليم عن بعد، ينبغي ألا تغيب العملية التربوية والتركيز عليها بشكل مكثف من خلال الدروس التي تبث عبر قنوات التليفزيون أو على القنوات التعليمية الأخرى والمنصات الرقمية التي أنشأتها وزارة التربية والتعليم أو في فصول التقوية بالمدارس، وليكن شعارنا في المرحلة القادمة: "لا تعليم بدون تربية"



